السودان والرهان العربي

سيتوقف الكثير على ما سيفعله الضابط الذي اسمه عبدالفتّاح البرهان.

من المهمّ ان تعلن المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة عن مساعدات مالية للسودان في هذه الظروف بالذات. تعكس هذه الخطوة شجاعة سياسية من جهة وبعد نظر من جهة أخرى. انّها استثمار في المستقبل قبل ايّ شيء آخر ورهان على السودان وعلى ما يمتلكه من ثروات وعلى قدرة شعبه على الاستفادة من تجارب الماضي. تؤكّد مثل هذه المبادرة السعودية – الاماراتية للسودانيين انّ هناك من هو مستعد للوقوف الى جانبهم في هذه المرحلة الحساسة التي يمرّ فيها بلدهم. اكثر من ذلك، انّها تكشف وجود جرأة سياسية في الرياض وأبوظبي واصرارا على اخذ المبادرة، خصوصا في المناطق التي يمكن للتطورات السلبية فيها ان تشكّل تهديدا لأمن الخليج خصوصا والأمن العربي عموما.

في النهاية، ما كان ممكنا التخلّص من نظام عمر حسن البشير، وهو نظام متخلّف وفاسد بكلّ المقاييس، لولا نزول الشعب السوداني الى الشارع. كان هناك إصرار استمرّ نحو خمسة اشهر على التخلص من البشير الذي كان الوجه البشع للسودان. اذا كان التخلّص من البشير بمثابة الجهاد الأصغر، فان الجهاد الأكبر في التخلّص من مخلّفات هذا النظام الذي مكّن الاخوان المسلمين، بعباءاتهم المتنوعة، من التسلل الى كلّ المواقع الحساسة في مؤسسات الدولة السودانية، خصوصا في كلّ ما له علاقة بالتربية والتعليم والثقافة، فضلا بالطبع عن المؤسسات الأمنية.

يظلّ الاساس ما قام به الشعب السوداني. هذا الشعب الذي انتفض في وجه البشير وقال له كلمة كفى وانّه لم تعد لديه ارانب يستطيع سحبها من قبعته، كما يفعل السحرة. يمكن البناء على هذا الأساس، خصوصا اذا تبيّن ان عبدالفتاح البرهان الذي يقف حاليا على رأس المجلس العسكري الانتقالي ضابط من طينة مختلفة، أي انّه قادر على التفاهم مع المجتمع المدني والاتفاق مع ممثليه على الإسراع في تشكيل حكومة مدنية تتولى إدارة مؤسسات الدولة وتشرف على عملية تطهير في العمق من مخلفات الاخوان المسلمين الذين عرفوا كيف يتسلّلون الى المواقع الحساسة للدولة.

لم يكن تخلّص البشير من خصومه في تسعينات القرن الماضي، على رأسهم حسن الترابي، كافيا لوضع حدّ للخطر الذي يمثله الاخوان على مستقبل السودان. على العكس من ذلك، جمع الرئيس السوداني المخلوع الذي بقي في السلطة ثلاثين عاما، بين الديكتاتورية العسكرية وكلّ أنواع الانتهازيين الذين يستخدمون الإسلام في خدمة أغراض سياسية. جمع بين أسوأ ما في العسكر وأسوأ ما في الاخوان المسلمين الذين لعبوا ادوارا أساسية في كلّ ما من شأنه الاستثمار في التخلّف. يبقى ما حدث في قطاع غزّة الذي استولت عليه حركة "حماس" في حزيران – يونيو 2007 خير دليل على ذلك. الى يومنا هذا، لا تزال "حماس" تراهن على البقاء في السلطة الى ما لا نهاية بغض النظر عن الكوارث التي تسببت بها لأهل غزّة المحاصرين وللشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني عموما. قدّمت "حماس" في السنوات العشرين الأخيرة، في القطاع والضفّة، كلّ الخدمات المطلوبة منها إسرائيليا من اجل القضاء على المشروع الوطني الفلسطيني.

سبق للسعودية والامارات، بمشاركة من الكويت وقتذاك، ان دعمت مصر في العام 2013. كان هناك في الأساس رفض شعبي مصري لبقاء الاخوان المسلمين في السلطة بعد استيلائهم عليها، عن طريق صناديق الاقتراع ظاهرا، في حين كان الواقع شيئا مختلفا كلّيا. فقد تظاهر الاخوان في البداية انّهم زاهدون بالسلطة. اخفوا طموحاتهم وشبقهم لها الى اليوم الذي تأكدوا فيه ان لديهم من يدعمهم في تحقيق ما يصبون اليه. كان بين الذين دعموا توجهاتهم، التي توجت بايصال محمد مرسي الى الرئاسة، بعض كبار الضباط في الجيش الذين تحالفوا معهم في المرحلة التي سبقت اسقاط حسني مبارك. جاء اسقاط مبارك في سياق ثورة شعبية حقيقية عرف الاخوان كيف يستغلونها لمصلحتهم وان لفترة بقيت قصيرة نسبيا.

بغض النظر عن التقييم الموضوعي لما آلت اليه الاوضاع في مصر بعد الثورة على نظام الاخوان المسلمين، فالأمر الذي لا شكّ فيه ان الدعم السعودي – الكويتي – الاماراتي لعب في 2013 دورا في الحؤول دون سقوط هذا البلد العربي. هناك تطور اقتصادي لا يمكن تجاهله في مصر. تؤكد ذلك لغة الأرقام. هناك أيضا دور عربي لمصر في مجال مواجهة الإرهاب بكلّ اشكاله، خصوصا في غزّة وصحراء سيناء وليبيا. هذا يعني، بكلّ بساطة، انّ الرهان العربي على مصر كان في محلّه على الرغم من وجود حاجة الى مزيد من الانفتاح السياسي وان في حدود معيّنة وذلك من اجل اغلاق كلّ الأبواب في وجه تسلّل الاخوان المسلمين الى إدارات الدولة ومؤسساتها.

لم تسقط مصر، التي كانت في عهد محمد مرسي تدار من غزّة. عادت مصر تؤثّر في غزّة وليس غزّة التي تؤثر في مصر. هذا هو المهمّ. كان مهمّا ان تستعيد مصر دورها الطبيعي بعيدا عن التدهور الذي عرفته في السنوات الأخيرة من حكم حسني مبارك او في المرحلة التي كان محمّد مرسي رئيسا.

لعلّ السؤال الذي يطرح نفسه حاليا: السودان الى أين؟ سيتوقف الكثير على ما سيفعله الضابط الذي اسمه عبدالفتّاح البرهان. هل يستطيع التصرّف بشكل حضاري بعيدا عن السلوك السخيف لمعظم الضباط في عالمنا العربي؟ في المقابل، هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الذين انتفضوا على عمر حسن البشير وكلّ ذلك البؤس الذي رافق السنوات الثلاثين التي أمضاها في السلطة. ليس معروفا بعد هل هناك قيادات سياسية سودانية من نوع مختلف. قيادات قادرة على التعلّم من دروس الماضي القريب، أي منذ استقلال السودان في العام 1956 وتولّي مدنيين السلطة.

تكمن مشكلة السودان في انّ القيادات السياسية التاريخية لم تستطع في ايّ يوم تحمّل مسؤولياتها. سهلت هذه القيادات عودة العسكر الى السلطة في ثلاث مناسبات. في العام 1958، عن طريق إبراهيم عبّود، وفي 1969 عن طريق جعفر نميري، وفي 1989 عن طريق عمر حسن البشير. كلّ ما فعله العسكر، خصوصا في عهد النميري والبشير، هو اغراق البلد في التخلّف لمصلحة التيّار الديني المتطرّف الذي يحاول الاخوان المسلمون التغطية عليه ببعض الشعارات البراقة التي تظلّ عند الممارسة مجرّد شعارات فارغة.

ماذا عن المرحلة الراهنة؟ ماذا اذا عاد المدنيون الى السلطة؟ الأكيد ان السودان في حاجة الى قيادات سياسية من نوع جديد ومختلف وليس فقط الى ضباط يؤمنون بان مهمّتهم تقتصر على واجب الدفاع عن البلد وليس ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية ورئاسة الحكومة والوزراء. الأكيد أيضا ان على هذه القيادات السياسية اثبات ان الدعم العربي للسودان يستأهل ذلك الرهان على شعبه.