الشاعر والقضايا الكبرى

الإنسان أصبح يعيد تفكيك أساطيره المؤسسة لحياته أو المتفرعة عنها، ربما بدون وعي، وربما تحت تأثير وعي جديد ينبع من حالة الانفتاح الميدياوي.
المبدع كأنه وحده هو صانع اللعبة الفنية وليس مجرد طرفٍ فيها
الثورة الاتصالاتية قدمت الأشكال المتعددة للحقيقة الواحدة 

في ظل حالة السيولة التاريخية التي نغرق وسطها متقزمين وتائهين، أصبح الإنسان يعيد تفكيك أساطيره المؤسسة لحياته أو المتفرعة عنها، ربما بدون وعي، وربما تحت تأثير وعي جديد ينبع من حالة الانفتاح الميدياوي التي تُظهر الإنسان وكأنه قادر ويملك التوجيه ويقوم بتعرية نفسه لنفسه وللعالم، كي يكشفها فينكشف بالتالي هذا العالم، ولكنها تبطن، في نفس اللحظة، أنه مجرد نفثة من تنين وهمي، ريشة في هواء أزلي بلا هوية ثابتة ولا ملامح.
هل من الطبيعي والحال هكذا، أن يظل الفنان والكاتب والمبدع عامةً، هو لسان قومه وشعبه ودليله وبوصلته وضميره؟ وإذا خصصنا الحديث عن الشاعر الذي هو ابن زمنه وواقعه بالطبع والذي كلما تطورت أدواته الرؤيوية والفنية أدرك أن التعبيرات المباشرة والمجانية ضد الشعرية وعملها وكذلك ضد الوعي المتجدد والمتسارع لمتلقي اليوم؟ 
سنخالف إذن ونحن مطمئنين القول بأن هذا الشاعر هو المسئول بشكل رئيس ومباشر عن قلة الاهتمام بالشعر وبتعاطيه، في مقابل الاتجاه نحو تعاطي فنون السرد بكثافة أكثر مثلاً.. إن من الخطأ المنهجي تجاهل كل التغييرات التاريخية والاجتماعية والحضارية متعددة الأسباب والمعقدة والمتباينة والمتحورة باستمرار والتعامل فقط مع تأثيراتها ومن زاوية وحيدة هي المبدع فقط، وكأنه وحده هو صانع اللعبة الفنية وليس مجرد طرفٍ فيها. 
لقد ابتعد صوت الشاعر عندما خَفُتَ تأثير هذه الصوت واختفت الحاضنة التاريخية من الأفكار والأيديولوجيات والتي فرضت أن يكون هذا الفنان بالذات، بهذه الوضعية والكيفية، مقيماً في مقعد النبي والرائي ومتحصناً ببلاغة الملهمين، الذي يسحر الجماهير ليسلبها سباتها وأنفاسها ويوقد جذوة روحها بحروفه وكلماته ومجازاته التي يفهمها الجميع أو يحسنها على الأقل، فتمس الجميع في نفس اللحظة، لينهمر هذا الجميع في الزمان والمكان وكأنما الكل في واحد. 

fine arts
لوحة للفنان جابرييل ميتسو

اليوم، غادر الشاعر وضعيته بين الكواكب وعاد إنساناً هشاً، أخاً في التفاصيل والحكايات البسيطة التي هي القضايا الكبرى الحقيقية بالنسبة للشاعر وللمتلقي في الآن ذاته، هذان الوحيدان وسط هذا الزحام الوجودي، واللذان يلتقيان في مأساة واحدة أو في ملهاة تُعدد وجوهها وفصولها كل لحظة. 
المهم أن هذا الشاعر الماكر، بتأثيرٍ من وضعيته الجديدة وتموضعه المختلف في العالم، عاد مرة أخرى للسماء ولكنه لم يعد بمفرده كما كان، كخالق أو كأسطورة مشعة ومتوهجة بل كمجرد زائر ومستغل ولاعب. لقد اصطحب المتلقي معه واستطاع هذان الصديقان أن يستغلا، لمصلحة الشعر، هذا الانفتاح والاتساع في استخدام الهواء والصورة، في الاستفادة من تعدد طرائق التلقي التي تجاورت معاً ولكنها تسمح كل لحظة بابتكار الجديد، فبالإضافة لقصائد الدوريات والدواوين الورقية والفيسبوك وغيره نجد القصائد المسموعة والمرئية والمصنوعة كأفلام على يوتيوب والمؤتمرات والندوات والأمسيات التي تقام بتقنية الزووم وهكذا. 
لقد خُدعنا طويلاً باسم القضايا الكبرى، فتم التعامل بتجريد وتعالٍ مع كل ما هو شخصي وملموس وحال ووقتي وصغير، وظهر مؤخراً أن الأمور ليست ترتيبات قَدَرية بقدر ما هي توجيهات للمتلاعبين بالعقول والأرواح، الكبار، الذين يرون مصالحهم في تسييد اتجاه وفرض نمط تفكيري يسمح باستعمارنا، نحن الصغار، هذا الاستعمار متعدد الأشكال والألوان والزوايا والأجزاء، ثم يرون رؤية أخرى تناسب زمناً آخر ووعياً جديداً تَخلَّق وفق أولويات أخرى، فيعملون على نشره ودَقِّه في النفوس، وهكذا ننتقل من الاتجاه القومي إلى الاتجاه العبثي أو التجريدي الخ حتى مرت علينا الأزمان وتم اختبار غالبية الفلسفات والأفكار العابرة للجغرافيا وفشلت في تحقيق مراميها فكان التفكيك وإعادة الترتيب والنظر وإعادة النظر في كل ما ملأ حياتنا من الأفكار والسرديات الكبرى، هو الطريق الأوفق للإنسان. كل هذا تَواشَجَ مع ثورة اتصالاتية قدمت الأشكال المتعددة للحقيقة الواحدة وساعدت بالتالي على مساءلة كل ما كان يُظَن أنه قار وراسخ وثابت.