الشعر .. التعبير الأقصى عن وجدان الامة العربية

هل يستعيد الشعر وهجه وازدهاره وهو الذي عدّه العرب ديوانهم وتلك النواة الصلبة التي تدور في فلكها الإبداع وخصوصا السرد؟  
عمر عبدالعزيز: الشعر يختزل تلك المسافة المتعاظمة بين الأنا الرائية والحقائق الموضوعية
الشعر يتنكّب مشقّة التعبير عن خفايا النفس واعتمالاتها

هدى الهرمي

الحداثة تلك الظاهرة العالمية الشاملة التي هبّت على مجالات عديدة وأحدثت ثورة فكرية حرصت على حرية الفرد وتجسيد مبادىء الإنسان الكوني، التي نادى بها فلاسفة عصر الأنوار، ومعلوم أن الساحة الأدبية هي واحدة من تلك الساحات التي شهدت رونق الحداثة وآليات التجديد والتطوير في منظومتها الواسعة، والنقد الأدبي عاملها بحساسية عالية وتفاعل معها بتناقضاتها وتغيراتها من أجل الإسهام بحركة حداثوية تساهم في توسيع دائرة الأدب من حيث إنه الوجه الثقافي وخاصة الشعر.
لقد انطلقت المناهج النقدية لترصد هذه الحركة بكل تجلياتها السلبية والإيجابية في ظل الزخم الوافر لزمن الشعر المعاصر.
فهل يستعيد الشعر وهجه وازدهاره وهو الذي عدّه العرب ديوانهم وتلك النواة الصلبة التي تدور في فلكها الإبداع وخصوصا السرد؟  
يعتبر الشعر منهجا أصيلا نشأت على وقعه ثقافة الأمة العربية، بوصفه نص النصوص العربية الأكثر توازنا وتجريدا وتعميرا للدلالات اللغوية، ومن إرهاصات الحداثة وتجلياتها في الأدب الاقتراب بين لغة الشعر والنثر وذلك التشابك بين المكنونات البنائية في النص الواحد.  
يذكر الناقد د. عمر عبدالعزيز "أن الشعر يختزل تلك المسافة المتعاظمة بين الأنا الرائية والحقائق الموضوعية، كما يتنكّب مشقّة التعبير عن خفايا النفس واعتمالاتها".

الشعر يظلّ الغواية الأولى في الأدب العربي ومن خلاله يعبر الكثير لأجناس أخرى تُشكل اتسّاعا في مدى الرؤية وانفساحا في القول كالقصة والمسرح والرواية.

والعديد من الشعراء التحفوا بالحداثة الشعرية وانصهروا فيها فانعكست في نصوصهم وصورهم الإبداعية ومظاهرها الفنية، وكان لهم بصمات ظاهرة وصيت لا ينكره أحد في حركة الشعر العربي المعاصر في المشرق والمغرب.
ونذكر على سبيل المثال خليل مطران وأبوالقاسم الشابي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة.
وقد نال خليل مطران في حياته عدة ألقاب كلقب شاعر القطرين (أي مصر ولبنان) ورغم وصفه بالشاعر الرومانسي الوجداني إلا أنه كان شاعر التجديد وذاك الحرّ المتمرد في الوقت عينه. ومن طينة الجيل الثائر الذي لا يستكين للظلم ويأبي التراجع عن مسيرة الكفاح، فيقول في قصيدته الجميلة "مقاطعة":
إنمّا الصالح يبقى صالحا ** آخر الدهر ويبقى الشرّ شرّا
كسرّوا الأقلام هل تكسيرها ** يمنع الأيدي أن تنقش صخرا
وإذا تطرقنا إلى الشابي فإنما نتحدث عن مرحلة من الشعر التونسي الحديث وعن مرحلة عدّ فيها النقاد رائدها الاول والأوحد، ليظلّ ذلك الرمز الذي لا يمكن التشكيك في شاعريته ولا وطنيته أبدا. مما جعله يتربع على عرش مملكة الشعر وبنيت حوله هالة من الفخامة مكنته من أن يكون نصّه:  "إذا الشعب يوما أراد الحياة"  أحد رموز الحركة الوطنية.
الشعر في زمن التجديد  
إن الاتجاهات والمذاهب الأدبية لا تنبت من فراغ، بل هي حلقات متتابعة تسهم في نشأتها عوامل ثقافية، وقد تلاحقت اتجاهات الشعر الحديث وكانت نشأة كل اتجاه منها ردّ فعل للاتجاه الذي سبقه.
وقد راهن ثُلة من الشعراء على حركة التجديد مثل عفيفي مطر وحسن طلب وأدونيس في ظل واقع عربي تغيرت فيه كل المستجدات في حقول الاجتماع والسياسية والثقافة ممّا أحدث تغييرا جذريا في مضمون الشعر العربي، حيث كان جُلّ همّهم أن يغدو الشعر مواكبا في تقدمه للحركة الفكرية الانفتاحية.
وبدات قصيدة النثر مع تنظيرات أدونيس ابتداء من سنة 1960 وبداية الوعي بهذا الجنس الأدبي القادم بقوّة، وكان ذلك بتأسيس مجلة "شعر" بالاشتراك مع يوسف الخال وأنسي الحاج، هذا الشاعر والصحفي الذي يعود له الفضل في إثراء المحتوى الفكري والشعري العربي، خصوصا مع إصدار ديوانه الاول "لن" الذي شكّل تجميعا للأعمال الشعرية العربية النثرية، والتي كانت مقدمته أكثر تمرّدا وثورة بعدما صاغها على شاكلة بيان شعري "مانيفستو"، أرسى من خلاله الأسس النظرية والجمالية لقصيدة النثر، باعتبارها أفقا منفتحا على الشعر الخالص بعيدا عن البحور والقوافي، والتي عليها أن تحقق ثلاثة شروط: الإيجاز والتوهج والمجانية.
وظل أنسي الحاج وفيا لهاته الشروط في كل نصوصه.
يقول في إحدى قصائده:
في ظلام النهاية 
جلست أكتب البداية 
في دم الأرض غمست ريشة السماء
وأقول للموت الداخل 
أدخل لن تجد أحدا هنا
تقول عنه الأديبة منى متسي: من وقعت بين يديه قصائدك وخاصة ديوان "لن" يعرف أنك ذلك الإنسان الثائر الذي لم يخضع ولم ينكسر".
ومن بين مجموعاته الشعرية الست، تُعدّ "الرسولة بشعرها الطويل حتى اليناببع" الصادرة سنة 1975، هي الأشد تعبيرا عن وحدة الرؤيا الشعرية وصميمها، ونصّه "سفر تكوين" يصطفي فيه أنسي الحاج المرأة ويرقى بها إلى مصاف رسولي ويجعلها عنوانا للحرية والكينونة والوجود.

ويُعتبر محمود درويش أحد الشعراء الفلسطينين البارزين والمُجددين في الشعر العربي المعاصر، وهذا ظهر جليّا في الاستعارات والرموز والإشارت التاريخية. 
أما رفيق دربه الشاعر السوري الكردي سليم بركات والذي تأثر به درويش إلى حد كبير، فهو يُعد شاعرا فريدا بين أقرانه، ومُتفوق بغزارة وخصوصية في اشتقاق درب شعري صعب ووعر، وصُنّف كأحد أفضل الشعراء العرب الحداثيين في القرن العشرين، وكما يقول عنه الشاعر والناقد اللبناني بول يوسف شاوول: "إنه شاعر على فرادة خاصة أو على غير تصنيف، لا بالحديث في سياق ثرثرات الحداثة، ولا بالقديم في سياق استثمار الماضي ولا لغوي على طريق البلاغيين".
لقد كان يشحن كل كلمة بطاقة تخيليّة قادرة على رسم عوالم وعلاقات بين المعاني والصور، كمن يخترع مخيّلة تعبيرية وقاموسيّة جديدة تماما.
ويكتب بركات في مديح النساء أنشودة فاتنة في حبّهن فيقول في مقطع جميل من قصيدته الغزلية الكبرى:
أحبهن مسالمات 
وفيّات للندم قبل الحروب 
وبعد الحروب 
أحبهن يتأخرن عن حفلهنّ 
وأحبهن أكثر إن غِبن عن حفلهنّ 
هي الأمكنة 
لم تزل دائخة مذ هززنها.
وحسب بركات، أن تقول شعرا فكأنها تقوم بتفجير اللغة (لا بتدميرها بل كمن يُفجرّ الينابيع) وهو بحاجة دائما الى كسر نمطية القصيدة الحديثة وتطوير لغة النثر نفسها حتى يتجاوز الإرث المتداول للشعر الحديث.
والملاحظ أن الذات الشاعرة أصبحت معيار التجربة الشعرية ودليل بناء عقد جديد بين الشاعر واللغة، وبين الذاكرة والحياة. كما اوجد الواقع عند الشاعر العربي تساؤلات جذرية وتطلعات نحو التغيير في بنية القصيدة يجعلها قادرة على استيعاب هذا الواقع والتعبير عن مضموناته، فصار الشعر صوت قائله ومعبرا عن دواخله من هواجس وأحلام وكوابيس أيضا، ولم يعد صوتا واضحا وجليا للتعبير عن قضايا المجتمع ولعب ذلك كان بتأثر من شعر الحداثة الغربية، وفي هذا السياق يقول الفيلسوف هيدغر "إن فترة الغياب التام للمعنى هي الفترة التي يتم فيها التحقق الكامل لماهية العصور الحديثة". 
وحسب النقاد أسهم في غياب الدلالة بين طيات الشعر الحديث، انكفاء الشاعر على ذاته وغلبة البعد الفلسفي والصوفي والميتافيزيقي على كثير من هذه الأشعار، الشيء الذي أجبر المتلقي أن يخلق لنفسه إشاراته التي تقوده إلى ركائز الدلالة وإلى المفاتيح التي تُيّسر له النفاذ إلى سبر أغوار المعنى.
وخلاصة القول إن الشعر يظلّ الغواية الأولى في الأدب العربي ومن خلاله يعبر الكثير لأجناس أخرى تُشكل اتسّاعا في مدى الرؤية وانفساحا في القول كالقصة والمسرح والرواية. وبالتالي يجعلنا نقترب من تخوم التنوع اللامتناهي في القيم التعبيرية والدلالية. وتظل المشاركات العربية والمسابقات تؤطر للزمن الإبداعي للشعر وتعميرا للواجهة الثقافية.
فهل يُمكن اعتباره التعبير الأقصى عن وجدان الامة العربية خصوصا في خضم الثورات التي عرفتها، والخرائب التي استحوذت على خارطتها؟