الشعر الجنوب أفريقي توق للحرية وحفاظ على الهوية

بسام جوهر يختار عشرين شاعرا من أبرز وأهم الشعراء في المشهد الشعري الجنوب أفريقي ليترجم أجمل قصائدهم التي تركز على مأساة الاستعمار.
ما قيمة الإنسان سوى العدم لو لم يحصل على حريته كاملة في موطنه
لاقيت صعوبات قد أصفها بالقليلة في ترجمة هذه المجموعة من القصائد

عشرون شاعرا من أبرز وأهم الشعراء في المشهد الشعري بالجنوب أفريقي تضمهم المختارات التي انتقاها الشاعر والمترجم بسام جوهر من أجمل القصائد التي تركز على مأساة الاستعمار وتأثيرها على الشعوب وحضاراتها وترتبط بالتوق إلى الحرية وترفض العنصرية، وتدعو للتطلع إلى التشبث بالهوية والخصوصية الثقافية، داعيا المتلقي إلى إبداء رأيه الثمين الذي سيعيد من خلقية النص وتجدّد تألقه في ذائقة الآخر ما يمنحه أجنحة تطيّره إلى عوالم الثقافات الأخرى وخطابات الآخر النقدية حيث النص يخرج من أنامل المبدع ويغدو مِلكاً للمتلقي. 
وقد افتتحها بقصيدة "موطني" مهداة إلى الزعيم نيلسون مانديلا لابنته الشاعرة زينزي مانديلا من ديوانها "سوداء كما أنا"، تقول فيها:
ها أنا ذا أقف أمام البوابة
الطلاب خارج المدرسة
الدخان يعصف بالمكان
عيناي تسحّان دموعاً   
أجفّف دمعي المُنساب
أدلف إلى المطبخ
لرؤية  يديِّ أمي
السوداوتين المُجهَدَتين
وابتسامةٌ متهالكةٌ
من وجه مُضْنٍ
نجلس لتناول العشاء
أتناول صورة
لأبي وأتأمل
أمي تشيح بوجهها
تسعى لتُخفي بؤسها 
فارقها أبي
وهو يحضنها
باعدوا بينهما ظلماً
وتنطلق العربة مبتعدة
وأمي ترقب 
برباطة جأش
وأنا كطفلة
لم أكن أدرك معنى ذلك
كم يتوق قلبي
وكم أشتاق لرؤية أبي
علّني أضم ذراعه
وأواسيه
أو علّني أخبره
بأنه سيعود يوماً ما.  

South African poems
الشاعرة زينزي مانديلا مع أبيها

الشعراء الذين ضمتهم المختارات الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ليسوا شعراء فقط، بل إن أغلبهم يكتب إلى جانب الشعر الرواية والقصة ويعمل في المجال الثقافي والفكري، وبعضهم يحتل مراكز مرموقة دوليا من بينهم: نوكوغينا إيلسي ملوف، إحدى أشهر المناضلات من أجل الحرية في جنوب أفريقيا، وهي ناشطة حقوقية، ممثلة، روائية، شاعرة، كاتبة مسرحية، ومخرجة ومؤلفة. عرفت بتميزها في إلقاء الشعر وقد ركزت في أعمالها الفنية على الفن الحكائي السردي كوسيلة لحفظ التراث وتشجيع الأطفال في جنوب أفريقيا على القراءة. صدرت لها عشرات القصص والمسرحيات في أربع من لغات جنوب أفريقيا: الإنجليزية، الأفريكانية، الزولو وشوسا.
وأيضا نيس بوليلوا مالانج، إحدى شعراء المقاومة الإفريقية. وهي كاتبة سيناريو ومديرة مسرح، نظمت عدة ورشات كتابة إبداعية للشباب والأطفال ضحايا العنف والاعتداء، وهي ناشطة في مجال الجنسانية، بالإضافة إلى عملها كمستشارة تحرير ومخرجة أفلام. لها أكثر من ثمانية مؤلفات بين دواوين شعر وأعمال إبداعية أخرى.
وهناك أوزوالد م. متشالي الذي كتب باللغتين الإنجليزية والزولو وله مجموعتان شعريتان، وفاز بجائزة الزيتون سكراينر عام 1971 عن ديوانه "يبدو من طبل جلد البقر" وقد حظرت حكومة جنوب أفريقيا كتابه "فيريفليمز" الذي نشر عام 1980 لمشاعرة المضادة آنذاك للفصل العنصري.
يقول المترجم بسام جوهر عن اهتمامه بالأدب الجنوب أفريقي: في سنوات دراستي الجامعية  وكخطوة أولى نحو التعرّف على الأدب العالمي، بدأت رحلتي مع الأدب الجنوب أفريقي حين هممنا بدراسة أدب "دول الكومنولث"، وهي عبارة عن 52 ولاية من ولايات الإمبراطورية البريطانية سابقاً ومنها دولة جنوب أفريقيا، وما تعانيه شعوب هذه الدول من خلال العقود الاخيرة. لفت انتباهي القدرة العالية لأدباء جنوب أفريقيا على تصوير معاناتهم بدءًا من فترة بدايات استعمارهم من قبل الإمبراطورية البريطانية إلى فترة ما بعد رحيل المستعمر وما خلّفه من استعمار لغوي وثقافي بات يعرّض هوية الجنوب أفريقيين لأزمة وربما لطمس الكثير من معالمها، فأدب الكومنولث مكتوب باللغة الإنجليزية من كتّاب ليسوا بإنجليزيين، إنما شاء الاستعمار أن يكونوا كذلك مكبلين ألسنتهم بالصمت أو بالكتابة بلغته الاستعمارية.
ويضيف: من هنا بدأت ذائقتي تتلمّس خطوها على صفحات الأدب الجنوب أفريقي وكانت لي خير رفيق نحو مراتع الجمال تُنَقّب عن درره دون التفريق بين أسلوب هذا الكاتب وذاك ودون التقيّد بزمنٍ معيّن للشعراء، فالشعراء جميعهم سواء إلا من كان صاحب نص جدير بوقفة قلب فاره الأحاسيس وانحناءة ذائقة معلّقة بتتبع أثر الجمال أينما كان ويكون. 
سيسأل الكثير: كيف تم اختيار هذه المجموعة من القصائد؟ وكيف تم ترتيبها؟ ما هي المعايير الفنية التي بموجبها تم الانتقاء؟ وهل ثمة استثناءات زمانية؟ الإجابة عن ذلك أن الانتقائية كانت مبنية على النص الذي يفيض إنسانية، النص الذي يدعو إلى التأمل في العلاقات بين المهيمن والمهمّش والمركز والهامش، فاتحة الأبواب وتركها مشرعة للولوج إلى قضايا إنسانية شائكة تُفضي إلى الكثير مما يلاقيه من التحقير والتهميش للإنسان المُستَعمَر الجنوب أفريقي إلى درجة سلبه الحق في أن يعيش. وحتى بعد أن غادر الاستعمار وقد صرخ في الإنسان الأفريقي معيّراً إياه بلونه وسالباً إياه أرضه وعرضه ثم تاركاً إياه وقد أحدث في ثقافته شرخاً بل صدعاً كبيراً نحو الطمس والتغيير على صعيد اللغة والثقافة والتقاليد والقيم الاجتماعية.
ويلفت جوهر إلى أن العلاقة أعلاه بين ثنائية المستعمِر والمستعمَـر ومتاهة البحث عن الهوية تتبلور وتبرز في عتبة العنوان "إنسانٌ وبقايا الزولو" لتمثّل أهمية الإنسانية في هذا السياق الوجودي، فهو "إنَّسان" مجرّد من أل التعريف وهذا لا يعني بأنه نكرة بل العكس هذا كافٍ لأن يكون معرفاً بحقوقه في العيش على أرضه دون أن يسلبه الآخر المهيمن القادم من وراء البحار. وما قيمة الإنسان سوى العدم لو لم يحصل على حريته كاملة في موطنه. وإلى الجزء الآخر من عتبة العنوان تظهر أهمية لغة الزولو واضحة ومناديةً بتعريفها وضرورة الحفاظ عليها كلغة أصلية بها امتداد التاريخ للجنوب أفريقيين وكهوية لغوية لهم وكأداةٍ مقاومةٍ لغة الآخر المفروضة قسراً. 
ويلاحظ جوهر أن بعض الشعراء كتب سطرًا أو سطرين بلغة الزولو، كنوع من إثبات الهوية وكإبراز للذات الجنوب أفريقية اللغوية المفقودة واختزالها في هذا السطر القصير جداً في خضم بقية الأسطر المكتوبة باللغة الإنجليزية، لغة المستعمِر، والتي أُجبر الشاعر/ة على الكتابة بها.
ويشير إلى أنه كأي مترجم "لاقيت صعوبات قد أصفها بالقليلة في ترجمة هذه المجموعة من القصائد حين فوجئت ببعض الأسطر التي لا تتجاوز عدد الأصابع المكتوبة بلغة الزولو المختلفة تماماً عن اللغة الإنجليزية المكتوب بها جميع النصوص. سنلاحظ ذلك مثلاُ في نص الشاعرة جينا ملوف، مِمَّا حدا بي إلى القيام بالبحث كثيراً في المواقع الإلكترونية التي تعنى بشئون الأدب الجنوب أفريقي عن فحوى هذا السطر ولحسن الحظ وجدت هذا السطر مترجماً إلى اللغة الإنجليزية، وبعد التأكد من الشاعرة نفسها، عن طريق التواصل معها، والتي أكّدت على صحة الترجمة إلى اللغة الانجليزية ومعناها "معناها طرف النهر بلغة الزولو". لكنني آثرت ألا أفسد النص وأن أضع العبارة كما هي بحروف عربية "نتي نتي ملانجانا" واحتراما للشاعرة وحرصها على غرسها للجملة بين الجمل المكتوبة بلغة الأجنبي وحفاظها على ديمومة الجملة. هذه نقطة اعتبرها من القليل من الصعوبات التي واجهتها أثناء ترجمتي المتواضعة لهذه النصوص الباذخة الجمال.
ويضيف: إن الإشكالية الثانية، قد اعتبرها كذلك من وجهة نظري، وهي استخدام أكثر الشعراء/ات لعبارات بسيطة جعلتني أتوجس خيفة من الوقوع في شرك استسهالها وبالتالي عدم ترجمتها ترجمة شعرية تليق بها. فالشعر الجنوب أفريقي تمت كتابته باللغة الإنجليزية، كما أسلفنا، كمثل الشعر البريطاني والأميركي. لكن المسألة هنا مختلفة وهي أن الشعرين الأخيرين كانا يكتبان بأسلوب صعب قليلاً كإخفاء الضمائر التي تساعد على فهم النص مما يضع الناقد نفسه في شرك تعددية فهم النص والوقوع في خيارات عدة. بينما الشعر الجنوب أفريقي يكاد يكون الأكثر سهولة من حيث الصياغة ولكنه الأغزر معنىً والأعمق من حيث قوة التصاوير.

الانتقائية كانت مبنية على النص الذي يفيض إنسانية، النص الذي يدعو إلى التأمل في العلاقات بين المهيمن والمهمّش والمركز والهامش

ويبدو أن بعض القصائد الشعرية تزخر أيضاً بأحداث تاريخية تم اختزالها من كُتّابها وجعلها على هيئة مرجعية تاريخية تتيح للمتلقي إلقاء نظرة سريعة عن كثب على عرض أهم الأحداث التي تركت جرحاً لا يندمل في الذاكرة، ومن ثم الرجوع إلى المصادر التاريخية التي ستعينه على سبر أغوار النص وفهمه واستيعاب هذا الاختزال التاريخي في حنايا النص الشعري. 
أنا عاطلٌ عن العمل للشاعرة نيز مالانج:
إنيّ هنا
أمكثُ أسفل غيمة سوداء
وهنا، أمكثُ في بصيص 
من الضوء
هنا
الحُرية مصلوبة على شجرة
لتموت
وهنا، أمكثُ في جوفِ علبة أعواد ثقاب.
وهنا، أتضور جوعاً
وبلدي يتضور أيضاً
وأطفالي كذلك
فلتنظروا إليهم
كم هي خطاهم مملة
وحين يديرون
رؤوسهم
ليس لديهم ما يأكلونه
أتسمعون؟
إنهم يبكون.

انقسمت أمام الشمس
وهي تشع عليَّ
وتحترق كل يوم
وأنا بانتظار هطول المطر
فلتأتِ أيها المطر
مواشينا تموت
ولا أقدر أن أحرث
قطعة أرضي الجميلة
وهنا، أنا ذا عاطل عن العمل.

أنا
العاطل عن العمل.
وهنا، أنا  ولكن لن تروني
أيها الواعظ... استسقي لنا ربك
ليهطل المطر
يا ذوي الياقات البيضاء
في كراسيكم المتينة
والبنية
اجعلوا من هذا البصيص
أكثر سطوعاً
إني أناشدكم
أيها الظالمين.

ومن شجرة
الحرية قادمة من الشجرة.
ومحياي
يغمره المقت والحَسْرَات
وها أنا أتصرف كمَمْسُوس
أبنائي يحتضرون
من سوء التغذية، ومن نقص البروتين
ليس ثمّة زرع هنا
والحيوانات قد ماتت.

كل ما يتناهى إلى مسامعي
ريح المساء
تظل تطوى
تتهجى عذاب الموت
في احتضاري.