الصحوة الإسلامية.. ما فعلته فتاوى التشدد بألبوم صورنا العائلية

التردد حينما يُقبّلني خالي الوحيد ويحتضنني فقد كان عقلي يبحث بسرعة شديدة في ذاكرتي عن أي فتوى ربما قرأتها تحرم تقبيل الخال واحتضانه بقوة كان الخوف يقف بيني وبين تبادل هذه المشاعر الصحية الصادقة.

بقلم: إيمان عادل

لا يمكن إغفال التحولات الكبيرة التي أحدثتها حركة الصحوة الإسلامية (إحياء الدين من جديد) التي ظهرت في السعودية في السبعينيات على يد عدد من مشايخ السعودية، بينهم عائض القرني وابن عثيمين. هذه التحولات غيرت شكل المجتمعات العربية جذرياً، فهي حددت معطياتها الأيديولوجية وشكل الوعي الديني، بل والثقافة والعادات اليومية من ملبس ومأكل ونمط حياة كامل، فقد كانت أشبه بالعاصفة الرملية التي ردمت جزءاً كبيراً مما هو قائم وأحيت نظرة جديدة للدين والحياة، اعترف أحد روادها راهناً أنها كانت نظرة متشددة.

في إحدى خطب الشيخ ابن عثيمين متحدثاً عن الصحوة الإسلامية قال إن “الصحوة لن تكون في السعودية فقط بل في كل البلاد الإسلامية، صحوة ويقظة وحركة إسلامية قوامها الشباب الذين هم أملنا في إقامة دين وتصحيح ما كان خطأ في مسار الأمة الإسلامية في عباداتها الخاصة ومعاملاتها مع الناس”.

كانت تعيش عائلتي تحولات الحياة على يد الصحوة الإسلامية في السعودية، كانت هذه الصحوة تأخذ مسارها الكبير في مصر أيضاً، بعد الموجة التي أحدثتها من تحجيب الفنانات والمطربات وتحريم الأغاني والفنون عموماً، وظاهرة الدعاة الجدد المرتكزة على الشباب، مثلما صرح ابن عثيمين في خطبته بأن الدعاة الشباب سيكونون نواة هذه الصحوة، مع إنشاء منابر إعلامية ومنصات فضائية لإذاعة فتواهم المتشددة والمندفعة بشكل كبير لتغيير نمط حياة المصريين بالكامل.

ساهمت مرحلة العيش في السعودية في تنميطي، إذ امضيت فترة مراهقتي وأنا أرتدي ملابس بالغة الحشمة، أمشي في الشارع غاضة البصر، أطأطئ الرأس وأنظر إلى أصابع قدمي، ولا شيء يشغل ذهني غير أن أطوي الطريق سريعاً لأعود إلى المنزل، حتى لو بدت طريقة مشيي “مخشبة” وتشبه “مشية العسكري” كما كانت تصفها جدتي، بلا أي ميل أو حيد أو أنوثة، فقد كنت مثقلة بما لا أعلم أنني مثقلة به، ولا لماذا أثقلت به من الأصل.

ثم عادت عائلتي من السعودية مطمئنةً اقتصادياً محملة بعجائب الانفتاح من أجهزة وأدوات وتحف وملابس وسجاد فاخر، وقبل كل ذلك بمكتبة كبيرة من أمهات الكتب لمجلدات الغزالي وابن تيمية وتفسيرات لا تنتهي للقرآن وكتيبات صغيرة للجيب لفتاوى ابن باز وابن العثيمين، كلها كانت ترهيبية تحذرنا من ترك الصلاة أو التبرج أو الاختلاط أو هجر القرآن، فضلاً عن أحاديث عذاب القبر وعلامات الساعة.

أقدم تلك الصور كانت لأمي مع صديقاتها الشاميات في بداية سفرها إلى السعودية، كن يحتفلن بعيد ميلاد أخي، يضحكن وخدّا أمي بارزان وشديدا الأحمرار، كانت تملؤها الغبطة وحولها أطباق الغاتو والبيبسي، وصديقاتها يرتدين الحجابات الملونة التي بالكاد تغطي الرقاب الناعمة. فالأوشحة الجميلة تلك لا تخفي شخصياتهن المرحة، ظلت عيونهن لامعة وسعادتهن غير منقوصة، حتى جاءت الصور الأخرى بعدما طال بنا البقاء في السعودية فظهرت أمي وهي ترتدي سواداً كاملاً وخماراً طويلاً، ثم النقاب الأسود، حتى اختفت أمي وصديقاتها بعد ذلك من دفتر ذكرياتنا العائلية في هذه المرحلة.

أنظر إلى مرحلة مراهقتي وتململي الدائم في طريقة مشيي، فأدرك أننا حتى بعد عودتنا إلى مصر كانت ما زالت تلاحقنا العقارب كبيرة الحجم، السريعة والمرعبة ومهما حاولنا تجنبها كانت تدركنا. كانت العقارب بالتأكيد في الحقيقة هي الخوف الذي زرعته فتاوى التشدد في وعي عائلتي البسيطة، أثناء الإقامة بالسعودية، وهي الفتاوى التي خرج أحد أربابها اليوم الشيخ عائض القرني ليعتذر عن تشددها وكأنها لم تخلف شيئاً مؤسفاً في حياتنا، أو كأنها كانت مجرد غبار من السهل محوه باعتذار متأخر ربع قرن من عمري وعمر عائلتي.

لن يدرك عائض القرني وغيره من شيوخ التشدد أنني كنت أتردد حينما يُقبّلني خالي الوحيد ويحتضنني، فقد كان عقلي يبحث بسرعة شديدة في ذاكرتي عن أي فتوى ربما قرأتها تحرم تقبيل الخال واحتضانه بقوة، كان الخوف يقف بيني وبين تبادل هذه المشاعر الصحية الصادقة.

لن يدرك شيوخ التشدد أن يوم الجمعة تحديداً كان من أكثر الأيام رعباً بالنسبة إلي لأنه اليوم الذي يتشاجر فيه أبي مع أخوتي الذكور كي يذهبوا إلى صلاة الجمعة، لأن من يتخلف عن صلاة الجمعة تحديداً يعد كافراً. حتى أن أحد المشايخ السعوديين قال مرة أمام أبي في أحد المساجد، إن من يتخلف عن صلاة الجمعة اهدموا عليه داره!

حتى وإن ذهب اخوتي للصلاة يُفتح حديث اللوم على الغداء عن ضرورة الذهاب إلى المسجد قبل الصلاة بساعتين، لأن من ذهب لصلاة الجمعة باكراً له حسنات بوزن بقرة، لكن من يذهب وقت الخطبة له حسنات بوزن بيضة!

لن يدرك مشايخ التشدد أنه وبسبب فتاوى الاختلاط كنا لا نلقي نحن بنات العائلة التحية على أبناء عمومتي وخالاتي ونحن نسكن في الشارع ذاته، لا ننظر إليهم من الأساس، حتى ولو كانوا أصغر منا سنا، حتى أصبحت علاقتنا الأسرية محصورة بالنساء، وكل ذكور العائلة حرفياً لا نعلم عنهم شيئاً، وأحياناً ننسى أسماءهم لتُبتر علاقة الدماء والنسب بيننا للأبد.

لن يدرك مشايخ التشدد أني وأخواتي كنا نهرع للاختباء في دولاب الملابس إذا أتى عمي أو زوج خالتي للزيارة، ونبقى مختبئات لساعات كي لا يرانا أي منهم ونخرج بمجرد انصرافهم ملتاعات من شدة الحرارة وكتمان الهواء.

أذكر هذه المصادفة جيداً، بل وأقدس لحظة حدوثها حتى اليوم، حينما اطلعت للمرة الأولى على ألبوم صور عائلي مخبأ يخص خالتي، هذا السحر الذي سيفتح أمامي باباً هو مساحة شاسعة من الدهشة والجدل، كان الألبوم يحتوي على صور لخالاتي وبينهن والدتي يرتدين التنانير القصيرة والفساتين المنفوشة، من موضة الخمسينات والستينات، كانت شعورهن مكوية ببراعة، تسريحة أرها من قبل سوى في الأفلام المصرية الكلاسيكية.

حين شاهدت ألبوم الصور كنت أصغر منهن بكثير بالمقارنة بأعمارهن الشابة في الألبوم، وعلى رغم ذلك كانت هيئتي تقول إنني أكبر منهن بزمن، لست مراهقة، بل امرأة كبيرة عاشت وشاخت وقاست وزهدت وعافت ما لم تعشه أصلاً.

وهبني هذا الألبوم راحة نفسية لم أكن أتخيلها، وتمنيت لو أنني عشت في ذاك الزمن، كنت ألاحق أمي كي تحكي لي عن حياتها هي وخالاتي، كانت تقلق من روحي المنجذبة لهذا الزمن وتسارع إلى إلقاء مقدمة متزنة عن مساوئ الجهل بالدين وعدم الالتزام. لكن بعدها بلحظات تلمع عيناها وتسترسل في الحديث عن والدها الفلاح الطيب الذي يعمل بكد في حقله ويقتطع شهرياً مبلغاً من أجل شراء القماش لبناته الخمس، كي يرتدين فساتين الهوانم ويسرحن شعورهن كبطلات السينما وهن في طريقهن إلى مدرسة المعلمات.

اليوم أنظر في ألبومنا العائلي مجدداً، أرى صوراً حديثة تضاف سنوياً، عدا صوري، وأدرك أنني لن أظهر أبدا في الألبوم العائلي بصورة حديثة، فالألبوم لن يعترف بصورة لفتاة غير محجبة ربما كان الأجدر بها أن توضع في ألبوم عائلي قديم مخبأ منذ الستينات قبل السفر للسعودية، أو  في ألبوم خالاتي المخبأ، وهن يشبهن بطلات فيلم “أنا وبناتي”، حيث كانت الوجوه ضاحكة وواثقة، وكن ينظرن إلى الكاميرا بصفاء، غير متململات من عقارب في الجوار قد تفسد عليهن روعة اللقطة.

ملخص ما نشر في صفحة درج

"عن اعتذار عايض القرني وما فعلته فتاوى التشدد بألبوم صورنا العائلية"