الصريمي: الصحفيون اليمنيون في ظل ميلشيات الحوثي سجن وتعذيب وقمع

صالح علوي الصريمي يوثق في كتابه 'صحفيون في زمن الحرب' شهادات لأكثر من مئة صحفي حول ما نالهم من قبل ميلشيات الحوثي.

يواجه الصحفيون في مناطق الحروب والنزاعات وفي ظل الأنظمة الديكتاتورية، كل أشكال القمع انتهاء بتعمد القتل، وما أكثر الدلائل الموثقة أحيانا بالصوت والصورة، لكن للأسف في ظل العجز الذي تعاني منه المنظمات والهيئات الدولية في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان عامة وحريات التعبير خاصة، بات وقف واعتقال وسجن وتعذيب واغتيال الصحفيين أمرا اعتياديا، يبدأ ببيانات إدانة ودعوات تحقيق، وينتهي في طي النسيان.

وهنا يأتي السؤال الذي من أجله نتوقف مع كتاب "صحفيون في زمن الحرب" للكاتب صالح علوي الصريمي: هل التفت أحد إلى ما نال الصحفيون اليمنيون من قبل ميلشيات الحوثي بعد انقلابها على الشرعية من انتهاكات وسجن وتعذيب وقمع؟.. لا أظن أن هذا قد حدث، ومن ثم تأتي أهمية هذا الكتاب الذي صدر عن مؤسسة أروقة. ويعترف مؤلفه أنه  ليس مؤلفًا، وإنما قصص مأساوية لعشرات الصحفيين اقتصر دوري على حثهم على تدوين وتوثيق مآسيهم. وقال في مقدمته القصيرة "لكم أن تتخيلوا كيف يكون العمل الصحفي في زمن الحرب، سيما في اليمن الذي تحول الصحفي فيه إلى هدف للتصفية الجسدية، والخطف، والسجن والتشريد، لم يكن جمعي لهذه القصص التي دونها أصحابها وتم جمعها في هذا الكتاب بالأمر الهين، وإنما واجهتني عديد من الصعوبات".

ويؤكد الصريمي في الكتاب الذي ضم شهادات لأكثر من 100 صحفي أن ما تم تدوينه هنا من قصص مأساوية لا يمثل إلا جزءًا يسيرًا من المعاناة، حيث خلى الكتاب من الصحفيين الذين قتلتهم الحرب، وكذلك الصحفيين الذين لا يزالون في سجون الحوثي على أمل أن يتم إفرادهم بكتاب خاص بهم.

وهنا نقتبس بعض إضاءات تلك الشهادات التي دونها الصحفيون وجمعها ووثقها الصريمي..

أحمد حوذان

في داخل زنزانة ضيّقة احتجزتني مليشيات الحوثي وحققوا معي وبدأت خلالها رحلة مأساوية في السجن تعرّضت أثناءها للتعذيب الجسدي والنفسي وأجبرت على توقيع اعترافات ملفقة لا أساس لها من الصحة.

تم اعتقالي وعشرة شباب آخرين أثناء تغطيتي احتجاجات دعا إليها ناشطون وشهدتها العاصمة اليمنية صنعاء، في السادس من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، ضمن ما عُرف بـ"ثورة الجياع في ميدان التحرير بالعاصمة صنعاء".

تعرضت للتحقيقات مدة ثلاثة أيام في "قسم العلفي"، قبل أن يتم نقلي إلى سجن البحث الجنائي الذي يديره أحد القيادات الحوثية، يدعى أبوفاطمة، وفي هذا المعتقل أخذ التحقيق منحى مختلفًا، حيث عمد المحققون إلى تغطية عيني وتكبيل يدي، ثم تعليقي على الحائط، وباشروا مهمة التحقيق بطرح أسئلة حول محادثاتي في الواتساب والماسنجر وهويات الأشخاص الذين أتواصل بهم.

وقفت طويلًا أمام تحقيقات المسلحين الحوثيين، وأجبرت أكثر من مرة على الإقرار باعترافات ملفقة. وكنت أرفض الاعتراف، فأُركل بأرجل المحققين على ظهري، وأُصفع على وجهي، ويشدون يدي بالقيود الحديدية. في ساعة متأخرة طلبت منهم كأسًا من المياه، فشتموني، ثم أحضروا لي قنينة ماء، وبعد شربها أغمى عليّ، لم أعرف إلا عندما سُحبت بيدي بعد سماعي أذان الفجر، ثم أخذوا أصبعي وبصّموني على أكثر من 100 ورقة وأنا مكلبش ومربوط العينين، في اليوم التالي فوجئت بمصور أمامي، وطلبوا مني قراءة كل ما تم في الليلة السابقة معي، وعندما رفضت هددوني بالإخفاء والضرب إن لم أتحدث، فخفت أن أتعرض للتعذيب أكثر، وتحدثت عن اعترافات باطلة وتحقيق مجحف وأنا في حالة لاوعي.

كان تركيزهم أني أعمل مخبرًا مع منظمات، عندما شاهدوا سيرتي الذاتية ومؤهلاتي من قبل منظمات كـ"اتحاد نساء اليمن" و"منظمة فريدرش إيبرت" و"الصندوق الاجتماعي للتنمية" ومواقع إلكترونية، وأن أعترف ببقية زملائي الصحفيين الذين ما يزالون في صنعاء والذين يعملون معي في العمل الصحفي.

بقيت في سجن الأمن السياسي حتى 19/9 /2018، ثم تم نقلي إلى منطقة شملان برفقة مجموعة من المختطفين من الحديدة ومن حجة ومن ريمة ومن عتمة وصنعاء.

وسجن شملان كان في بدروم لعمارة كبيرة، ويتكون من تسع زنازين جماعية وحمام واحد.

كان هناك تقسيم البدروم إلى غرف صغيرة، وفي كل غرفة من 20 إلى 25 سجينًا، ويضم السجن في مجمله حوالي 250 إلى 300 مختطفًا مدنيًا.

كنت أسمع الحراسة في تلك العمارة قبل الفجر كل يوم يتدربون، ويرددون الزوامل وفي الصباح، ويتدربون على إطلاق النار بالأسلحة داخل العمارة، و"كنا أنا والسجناء نسمع أصوات إطلاق النار وبشكل مكثف جدا، كانت العمارة فيها قاعات في الأدوار العلوية لتدريب الجنود على الأسلحة ومداهمات المنازل".

بعد مرور حوالي شهر ونصف كنا نسمع طيران التحالف يحلق فوقنا مباشرة بكثافة وبشكل مستمر.

كنا السجناء جميعا نصرخ بأصوات عالية أثناء تحليق الطيران مطالبين بنقلنا من هذا السجن، وأنا أعرف لاحقًا أن العمارة التي كان الأمن السياسي يستخدمها سابقًا كمركز تدريب تحتوي على مخازن أسلحة، وكان الخوف يسود حالة المختطفين جميعًا، مخافة تعرضها لقصف الطيران التابع للتحالف العربي.

الطيران كان قد قصف ثلاث عمارات بالجوار قبل أن يصل إلى هذه العمارة، وأن العمارة فيها سجناء نقلوا من عمارة مجاورة، وسردوا لنا حالة الرعب التي انتابتهم عندما قصفها التحالف العربي.

كنا السجناء نتوقع قصف الطيران للعمارة ونحن بداخلها، حيث إن التدريب داخل العمارة مستمر يوميًا على الأسلحة الرشاشة والمتوسطة ومسدسات، كنا نسمع أصواتها فوقنا كل يوم.

بقيت في هذه العمارة مدة ثلاثة أشهر وأن الحوثيين كانوا يخرجون فقط المرضى من المختطفين الذين أصبحت حالاتهم سيئة.

أكرم توفيق سعد القدمي

تعرضت للاعتقال في العام 2015 بسبب مواقفي الرافضة للانقلاب. تعرضت للإصابة بالتهاب النخاع الشوكي الناتج عن التعذيب ولا أزال أعاني من آثاره حتى اللحظة. قضيت قرابة العام في معتقل هبرة بصنعاء.

تعرضت للاعتقال في ظروف صحية سيئة بعد خروجي من غرفة العمليات والمستشفى بثلاثة أيام وتم التعامل معي بوحشية كون شريحة الإعلاميين تعد الأكثر خطرًا بعد تحريض عبدالملك الحوثي عليهم.. تضاعفت المعاناة والمرض دون اكتراث من قبل المليشيات مما تسبب في إصابتي بالتهاب نخاع شوكي وأقعدت على أثر الآلام لأشهر.

نجحت الضغوط الأسرية المتزامنة مع حوار الكويت في الوصول إلى تسوية لإطلاق سراحي "إفراج طبي".

ونقلت على أثره إلى القاهرة للعلاج.

عمدت المليشيات أثناء فترة الاعتقال لاستخدام وسائل تعذيب مباشرة وغير مباشرة.

تم الزج بمختلين عقليا إلى زنازين اعتقالنا.

غرف مكتظة للمعتقلين أعدت لسبعة أشخاص يوضع بداخلها 40 معتقلًا.

تعرضت للأذى المباشر من قبل عناصر ملثمة أثناء التحقيقات.

'صحفيون في زمن الحرب'
شهادات دونها الصحفيون وجمعها ووثقها الصريمي

أكرم صالح

قبل نزوحي من صنعاء في 2015 كنت قد شاركت بالحشد لمظاهرات رافضة للانقلاب.. وأحض عبر وسائل التواصل الاجتماعي على الخروج ورفض الانقلاب بمسيرات واعتصامات.

لم يكن الحوثيون يتعرضون لي حينها مثلي مثل الكثير من شباب اليسار الذين أعطاهم الحوثيون هامش حرية وسقفًا مرتفعًا نسبيًا مقارنة ببقية التيارات.. كانوا يحاولون استقطاب شباب اليسار كواجهة مدنية وحداثية لعصابة أتت من ما وراء التاريخ.

استمررت على هذا الوضع حتى آتت عاصفة الحزم وتغيرت معاملة الحوثيين حينها وشددوا من قبضتهم الأمنية. وفي ظهيرة أحد الأيام كنت ماضيًا في طريقي بالقرب من منزلي أمام رئاسة الوزراء واستوقفتني نقطة حوثية بعضهم وجوههم مألوفة لدي ومن أبناء حارتي الذين ينتمون لنفس سلالة قائد مليشيات الحوثي لكن ليس بيني وبينهم علاقة، اتهموني حينها بأني داعشي وسحبوني للطقم بالقوة..

تذكرت حينها مصير الصحفي الشهيد عبدالله قابل الذي وضعوه في أماكن استهداف الطيران وقررت أن أقاومهم وأهرب.. حاولت الإفلات فباغتوني بضربة بعقب السلاح شق يسار رأسي وامتلأ وجهي بالدماء.. ووجدت أنه لا مجال للمقاومة. أخذوني إلى أحد المنازل التابعة لمشرفيهم والذي تحول إلى مقر وسجن لأمثالي. لم يكن سجنًا بما تعنيه الكلمة وقد يكون هذا من حظي.. كانت أسئلتهم هي عن علاقتي بالدواعش وبالإصلاح وتوكل كرمان.. لا أدري ما شأن الأخيرة في أن يسألوني عنها، ظللت لديهم يومين حتى أتاهم أحد من كنت أعرفهم في ساحة التغيير وهو بطبيعة الحال ممن يسمونهم شباب الصمود حينها وهذا هو المسمى الذي كان يسمي به الحوثيون أنفسهم في ساحة التغيير، سألهم ما الذي أفعله هنا فقالوا إني داعشي ومؤيد للعدوان.. من السخرية أنه أخبرهم أنني ملحد ككل الاشتراكيين وليس لي أية علاقة فكرية بداعش.. الحقيقة أني سعدت بهذا الاتهام الذي لا يمت لي بصلة فأنا لست ملحدًا بل ربيب أسرة متدينة حتى لو اعتنقت الأفكار الاشتراكية.. لكن طالما سيفرج عني بداعي أني ملحد ولست داعشيًا فلابأس بتهمة فيها منجاتي. وقعت على ورقة أنني ضد العدوان السعودي الصهيو أميركي وذهبت مباشرة للمستشفى لتكون نتيجة ضربتهم 5 غرز في رأسي. بقيت في صنعاء أسبوعين ألازم منزلي وغادرتها باتجاه المملكة.

بلال الربية

بدأت قصتي مع مليشيا الحوثي بعد أن انقلبت على الدولة وأسقطت العاصمة صنعاء.

كصحفي وكغيري من الزملاء وجدت نفسي مهددًا لمجرد الكتابة أو نقل الخبر.

القمع الذي مورس من قبل مليشيا الحوثي الانقلابية على الصحافة والصحفيين بعد

إسقاط العاصمة آثار المخاوف لدي وحد من عملي ونشاطي الصحفي بسبب

الخوف من الاعتقال أو بسبب توقيف ومصادرة جميع الصحف والقنوات

التلفزيونية واقتحام مقارها ومصادرة محتوياتها وحجز زملائنا الصحفيين في سجون المليشيا..

بعد وصول المليشيا إلى منطقتي أرهبت المواطنين وفجرت منزل أحد خصومها السياسيين أغلقت مكتبي ولزمت منزلي عدة أسابيع..

بعدها كنت ألتقي مع بعض الزملاء في مجلس الزميل نصر المسعدي للقات وكانت تصلنا رسائل تهديد من قبل المليشيا بأننا سنتعرض للاعتقال وأحيانا نهدد بالقتل أو بالاغتيال، وإذا سألت عن جريمتك يكون الجواب والتهمة جاهزة: "أنتم خونة تعطون الإحداثيات لطيران العدوان"..

حاولت أن أكتب بعض الأخبار باسم مستعار وأن أغطي بعض الانتهاكات التي تقوم بها المليشيا وكذلك بعض الاحتجاجات التي ينظمها المواطنون لكن التهديدات والمضايقات تستمر إلى جانب انقطاع الكهرباء عن مدينتي منذ إسقاط العاصمة وانعدام المشتقات النفطية لتشغيل المولد الكهربائي ولم أستطع حينها إيجاد المبلغ الذي أستطيع به شراء الطاقة الشمسية وكذلك تردي خدمة النت..

كلها جعلت المعاناة تتضاعف وعملي كصحفي شبه متوقف، ومكتبي الصغير كذلك مغلق.

الشيء الجيد وسط تلك المعاناة أنني كنت أقضي وقتًا أكبر مع عائلتي وأطفالي كإجازة إجبارية.. لكنها كانت مهددة بالاقتحام والاعتقال بأي وقت..

تحررت مدينتي "دمت" من الانقلاب الحوثي تنفسنا الصعداء وتحررت أقلامنا وجرى مدادها من جديد..

تيسير السامعي

إنها الحرب فرضت علينا من قبل المليشيا، وحملت في طياتها الألم والمُعاناة، والدمار الذي طال أرواحنا. كوني صحفيًا، فقد كان لي نصيب كبير من مآسي الحرب، وأوجاعها. فالصحفي -بحكم عمله- لا بُد أن يكون في مقدّمة الأحداث، ولا يسطيع أن يختفي أو يتوارى، حتى وإن حاول أن يهرب من جحيم الحرب إلى مكان آمن فإنه لن يستطيع لأن أحداثها ومآسيها وأوجاعها يجب عليه أن يعرف الناس بها. أنا بطبعي أحبّ السلام وأعشق التعايش والوئام، وأكره كلّ ما يثير الفتن ويفرّق الصفّ، لا أحبّ التمترس خلف الشعارات، والتعصّب لحزب أو طائفة، شعاري "الوطن يتّسع للجميع"، لذلك عندما اشتّد سُعار الحرب وحمى لهيبها، آثرت أن أكون بعيدًا عن أن يقتصر دوري -كوني صحفيا- على الحديث عن معاناة الناس، بسببها قررت البقاء في بيتي، وأن الحرب لن تحقق نصرًا لأي طرف، وأن الدّماء لن تولّد إلا دماءً، وأن الحل الوحيد لكل ما تعانيه اليمن من مشاكل هو اتفاق سياسي يُعطي كلّ ذي حقٍ حقه.

على أن يكون هذا الاتفاق قائمًا على المرجعيات، التي توافق عليها اليمنيون، أهمها: أهداف الثورة اليمنية، ووثيقة مخرجات الحوار الوطني. لكن، للأسف، حبي للسلم واعتزالي ساحة الحرب لم يشفعا لي عند المليشيا، التي تعتبر الصحفي هو العدو الأول، فقد قامت باختطافي في الأسبوع الأول من عام 2017، بطريقة همجية، بعيدة كل البُعد عن الإنسانية، وكان حدث اختطافي بدايةً لمرحلة جديدة في حياتي تحمل في طياتها الألم والمعاناة، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم. رغم خروجي من المُعتقل، بعد ستة أشهر، إلا أن آلامه وأحزانه لا تزال موجودة، تمزّق روحي كل يوم، وأعتقد أنها لن تنتهي حتى يعود السلام إلى بلادي، وعودتي إلى بيتي، وأعيش فيه آمنا مستقرًا.