الصين تكافح الفساد بتطبيق أنظمة فاعلة للوقاية منه

الكتاب الذي ترجمه براء بدر يعمِد إلى إبراز مكافحة الصين للفساد في الحقبة الحديثة.
أن وقائع الفساد موجودة في تاريخ البشرية منذ ما يربو على 3300 عام على الأقل
سمة البُعد التاريخي لظاهرة الفساد تظهر في استعصائها

كيف يجب النظر إلى قضية الفساد؟ لماذا ليست لدى الصين الاشتراكية مناعةٌ طبيعية ضد الفساد؟ لماذا لا يزال الفساد "متفشِّيًا" خلال الفترة الانتقالية الفريدة للتنمية؟ لماذا يبدو الفساد عسيرًا إلى هذه الدرجة؟ هل هذه الظواهر موجودة في الصين وحدها، أم إنها منتشرة على نطاق أوسع؟ هذه الأسئلة تشكل محورا أساسيا في كتاب الباحث الصيني رن جيانغ منغ "التجربة الصينية في مكافحة الفساد" الصادر عن مؤسسة بيت الحكمة سعيا إلى الكشف من عدة زوايا الحُجُب السميكة التي تغشَى قضية الفساد. 
الكتاب الذي ترجمه براء بدر وراجعه بينغ تشو يون ود.أحمد ظريف يعمِد إلى إبراز مكافحة الصين للفساد في الحقبة الحديثة، ويتألف من خمسة أجزاء، يحلل فيها الباحث تحليلًا شاملًا خصائص الطبيعة التاريخية والعالمية والمعقدة للفساد ومكافحة الفساد. ويعرِّف تعريفًا موجزًا بالفساد، ومكافحة الفساد في الصين في الحقبة الحديثة، كاشفا عن بعض السمات البارزة لمكافحة الفساد في الصين، لا سيما العزيمة القوية لدى كبار القادة على مكافحة الفساد، وما للحزب الحاكم من قدرة فائقة على تعبئة الجماهير، وتطبيق مجموعة من الأنظمة الفاعلة في القيادة الجماعية وصناعة القرار، ويعرِّف بأعمال مكافحة الفساد في الصين في الحقبة الحديثة، ويستند في ذلك إلى بناء أسلوب العمل، ومهاجمة الفساد والوقاية منه. 
تتبع منغ البُعد التاريخي والبُعد العالمي مؤكد أن ظاهرة الفساد ليست موجودة في الصين المعاصرة وحدها. فهي تتسم بطبيعة تاريخية وعالمية. وقال "إن ظاهرة الفساد لها بالفعل تاريخ طويل جدًّا في المجتمع البشري. ففي ديسمبر 1997، أثناء دراسة مجموعة من المتخصصين الهولنديين الآثارَ بمدينة الرقَّة السورية، اكتشفوا أن هذا المكان كان في الأصل مركزًا إداريًّا للحضارة الآشورية في القرن الـ 13 ق.م. وقد اكتشفت المجموعة محفوظات فريدة تتشابه إلى حد ما مع  "وزارة الخارجية"، في حكومات الدول في وقتنا الحالي. وقد سجلت هذه المحفوظات أعمال تعاطي العاملين الرشوة، وكان من بين المرتشين موظفون كبار، وكذلك الأمير نفسه. وهذا يوضح أن وقائع الفساد موجودة في تاريخ البشرية منذ ما يربو على 3300 عام على الأقل. وأُشير في كتاب "عقوبات لو"، وهي مجموعة من القوانين ترجع إلى حقبة أسرة تشو الغربية في الصين القديمة، من بينها  "الأحمق المفكر" ضمن كتاب "الخطايا الخمس" إلى تعاطي الموظفين الحكوميين الرشوة. وهذا يوضح أن تلك الحقبة لم تشهد فساد الرشوة فحسب؛ بل كان منتشرًا على نطاق واسع أيضًا، لدرجة أنه أُدرج ضمن أهداف الرقابة في القوانين. لقد امتد عصر أسرة تشو الغربية من سنة 1046 إلى سنة 771 ق.م تقريبًا، ومن هنا يتبين أن الفساد يتجاوز عمره في الصين ثلاثة آلاف عام. وفي الواقع، قد يكون تاريخ الفساد في الصين أطول بكثير.
ورأى أن سمة البُعد التاريخي لظاهرة الفساد تظهر في استعصائها كذلك. فمنذ نشوئها، عاندت ظاهرة الفساد في البقاء. وحتى يومنا هذا، لا توجد حضارة ولا نظام ولا مكان تمكن من اقتلاعها من جذورها تمامًا. وخلال معظم مسيرة تاريخ البشرية، اتسمت ظاهرة الفساد أيضًا بسمة الاندلاع الدَّوري. وقد لخَّص خوانغ يان بي - الديمقراطي الشهير-  سمةَ البعد الدوري هذه، في أن ظاهرة الفساد "ذات الوتيرة التاريخية الدورية". وفي رواية "المعدل الدوري "كان بزوغها فوَّارًا، في حين كان أفولها خاطفًا. وهناك أيضًا مَن لخَّص هذه الظاهرة الدورية تلخيصًا مباشرًا في: الوتيرة الدورية لـ "اعتلاء السلطة، الفساد، السقوط من العلياء". والمعنى أن ظاهرة الفساد ونشوبها الدوري دائمًا ما يؤديان إلى السبب الرئيسي وراء فشل الحكومات الواحدة تلو الأخرى بنهاية الأمر، ومن ثم استبدال حكومة جديدة بها عن طريق اندلاع ثورة. وقد ذكر العالم الشهير وانغ يا نان أن كتاب "التواريخ الأربعة والعشرين" هو في الحقيقة بمثابة تأريخ للاختلاس. وهذا يكشف أيضًا - بدرجة معينة- عن طول عمر الفساد في تاريخ الحضارة الصينية. ولا يُستثنى من ذلك تاريخ حضارات العالم أيضًا.
وهكذا فإن لِقضية الفساد طبيعة تاريخية عالمية معقدة. وقال منغ أن "الفساد هو ظاهرة في المجتمع البشري. ومن منظور ضيق، هو سلوك لأحد الأشخاص. تتَّسم أعمال الفساد بسِمة التخفِّي، لكن لا أحد لا يعلم بها. والذين يضطلعون بأعمال الفساد واضحون للغاية، وأصحاب الشأن يمكن - بدرجة معينة - التعرف إليهم أيضًا. وبالنسبة لأعمال الفساد التي حُوكمت، انكشفت أيضًا جهارًا نهارًا، أسرارها الحقيقية - الكامنة في الصفقات المريبة خلف الستار والأعمال المشينة المستترة - وصار الجميع على علم بها. دائمًا ما يُعرَّف الفساد – نظريًّا - بأنه "إساءة استخدام السلطة العامة لكسب المنفعة الخاصة". وله محاور رئيسة ثلاثة: الأول: الركيزة الأساسية، وهم الموظفون الذين يمارسون السلطات العامة. الثاني: الغرض، وهو كسب المنفعة الشخصية. الثالث: كسب المنفعة الشخصية، وهي قائمة على إساءة استخدام السلطة العامة أو الإضرار بالمصلحة العامة. هذا التعريف يضع أيدينا على جوهر ظاهرة الفساد، من حيث كونها سلوكًا معنِيًّا بالانتفاع الشخصي على حساب الإضرار بالآخرين، وكسب المنفعة الشخصية على حساب المصلحة العامة، فهي تُلحق الضرر بالمنافع العامة، وكذلك تتنافى مع الأخلاق العامة.
وأضاف أن الصين دولة اشتراكية، والحزب الشيوعي الصيني حزبها الحاكم، وهو يتمسك بالمُثُل الاجتماعية السامية، ومنظومة القيم الاجتماعية للشيوعية، وغايته الأساسية خدمة الشعب بالروح والقلب. منذ أمد بعيد، ظل عدد ليس باليسير - من الحكام وجماهير العوام - يعتقدون أنه تحت راية الاشتراكية لا يجب أن يوجد فساد. لكن الحقيقة أن الصين منذ دخلت المرحلة الانتقالية للتنمية، لم يوجد بها فساد فحسب؛ إنما صار "متفشيًا" كذلك. وسرعان ما دشَّن الحزب الشيوعي الصيني عملية مكافحة الفساد الدءوب؛ لمواجهة هذا المد المتدفق بقوة. بيْد أن نتائج مكافحة الفساد لم تكن مثالية، ولم يُسيطَر على الفساد لفترة طويلة. ولا تزال الأهداف المرحلية التي وضعها الحزب الشيوعي الصيني لخمس سنوات، ضمن أحدث مخطط استراتيجي لمكافحة الفساد خلال الأعوام 2013-2017 "ما يُعرف بالخطة الخمسية الثانية عشرة" هي: تقنين دائرة أوضاع الفساد من الاتساع والامتداد. وقد أوضح هذا أن الجهود المبذولة لمكافحة الفساد - خلال الأعوام الماضية - لم تكن كافية للسيطرة على الفساد سيطرة جذرية. 

الحزم في مكافحة الفساد والوقاية منه، لهي مهمة سياسية عظيمة أُنيط بها الحزب. وعدم الحزم في معاقبة الفساد سيُلحق أضرارًا بالغة بالأواصر المتينة بين الحزب وجماهير الشعب، وسيحفُّ مكانة الحزب في الحكم بالمخاطر

وأوضح منغ أنه في ظهر الخامس عشر من نوفمبر/ِتشرين الثاني 2012، خلال الاجتماع الكامل الأول للجنة الحزب المركزية الثامنة عشرة، التقى شي جين بينغ - الأمين العام الجديد، ورئيس اللجنة الدائمة للمكتب السياسي بكامل أعضائها الجدد - بالصحافيين الصينيين والأجانب. وخلال اللقاء، أهاب الأمين العام شي جين بينع بالحزب بأكمله، "توخِّي الحذر" بشأن قضية الفساد، والعمل دائمًا على مواجهة تلك الكارثة. قال: في ظل الأوضاع الجديدة، يواجه حزبنا عدة تحديات صارمة، وبداخل الحزب توجد مشكلات عديدة تتطلب حلولًا حثيثة. لا سيما اضطلاع بعض الكوادر والأعضاء بفساد واختلاس، والانعزال عن الجماهير والشكلية والبيروقراطية وغيرها من المشكلات، التي تتطلب بذل جهود مضنية. على الحزب بأكمله أن يكون يقظا ويتوخَّى الحذر". وبعد يومين فقط، خلال دورة التعلُّم الجماعي الأولى للمكتب السياسي للجنة المركزية الثامنة عشرة، أهاب الأمين العام مرة أخرى: إن الفساد يتفاقم سوءًا، وسيقضي بالضرورة على الحزب والدولة في نهاية الأمر! علينا أن نتنبَّه ونأخذ حذرنا!
وأشار أنه منذ تولّيِ مهامه، تحدَّث الأمين العام شي جين بينغ مرارًا عن مكافحة الفساد، وقد تركت مجموعة الكلمات المفتاحية لمكافحة الفساد - التي حملت بوضوح أسلوب السيد شي - انطباعًا عميقًا لدى المجتمع الدولي. تتضمن هذه الكلمات والعبارات المفتاحية: التيقُّظ، توخِّي الحذر، يتعيَّن علينا التمسك بمهاجمة "النمور" (كبار المسئولين) و"الذباب" (صغار الموظفين) معًا، وحبس السلطة في قفص النظام، إن وطء الصخر يطبع أثرًا، والطرق على الحديد يترك ندبًا، والدواء اللاذع يشفي المرض، والعقوبة الصارمة تخمد الفوضى، علينا الحزم في معاقبة الفساد بلا هوادة، وعقد العزم على خوض صراع مكافحة الفساد حتى النهاية، وضمان استقلالية ونفوذ مناسبين للسلطة الرقابية للجنة الانضباط بمختلف مستوياتها. لا يمكن السماح للنظام بأن يصبح نمرًا من ورق أو فزَّاعة، سنجعل الانضباط يصبح ـ حقًّا ـ سلك ضغطٍ عالٍ يسري فيه التيار.
وقال منغ "بصفته المخطط الرئيسي للإصلاح والانفتاح في الصين، لطالما كان "دنغ شياو بينغ" يتوخَّى الحذر الشديد إزاء قضية الفساد. وفي عام 1982، خلال عملية الهجوم العنيف على جرائم الاقتصاد، سرعان ما أطلق تحذيره: "الاختلاس وغيره من الجرائم الاقتصادية"، هذه رياح عاتية. وإذا لم يتنبَّه حزبنا بشدة، ويتصدى لهذه الرياح، فبهذا الشكل سيكون حريًّا بحزبنا ووطننا مواجهة مشكلة "تغيير المظهر" من عدمه. هذا ليس تضخيمًا للموقف. لا يمكن القول إن مهاجمة الجرائم الاقتصادية هي حملة، لكن يجب القول إنها حرب طويلة مستدامة. وهي تستمر على الأقل حتى ذلك اليوم الذي تتحقق فيه العصرنات الأربع. وفي سبتمبر/أيلول 1989، صرَّح كذلك مؤكدًا: يتعين علينا مكافحة الفساد وإرساء قواعد السياسة النظيفة. وهذا ليس مقصورا على يوم أو يومين، أو شهر أو شهرين، لا بد من مكافحة الفساد طوال عملية الإصلاح والانفتاح. وفي عام 1992، خلال محادثات الشمال الشهيرة، أبدى عزمه ثانية على مكافحة الفساد لأمد بعيد: يتعين علينا مكافحة الفساد طوال عملية الإصلاح والانفتاح. أما بالنسبة لأعضاء الحزب الشيوعي وكوادره، فيعتبر بناء الحكومة النزيهة أمرًا مهمًّا لا بد من إنجازه. كما لا بد من التعويل على النظام القانوني، وبناء نظام قانوني أكثر إحكامًا." 
وأكد أن كلا من جيانغ زيمين وهو جين تاو أبدى أيضًا هذا الشعور - بثقل الأزمة وحجم المسئولية - في مواجهة تحدي الفساد. وفي 31 مايو/آيار 2002، على هامش الاحتفال بتخريج الكوادر على مستوى المقاطعة من فصول التأهيل الخاصة التابعة للمدرسة الحزبية للجنة المركزية، أشار جيانغ زيمين إلى أن: "رفع القدرة على مكافحة الفساد ومقاومة المخاطر"، هي إحدى المهمتين التاريخيتين العظيمتين اللتين أنيط بهما الحزب. وخلال تقرير المؤتمر الوطني السادس عشر للحزب، أهاب بالحزب بشدة: إن الحزم في مكافحة الفساد والوقاية منه، لهي مهمة سياسية عظيمة أُنيط بها الحزب. وعدم الحزم في معاقبة الفساد سيُلحق أضرارًا بالغة بالأواصر المتينة بين الحزب وجماهير الشعب، وسيحفُّ مكانة الحزب في الحكم بالمخاطر، وعندها سيكون محتملًا أن يهوي الحزب بنفسه نحو هوَّة الفَناء. وفي الأول من يوليو/تموز 2011، خلال كلمة الاحتفال بالذكرى السنوية التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، ذكر هو جين تاو أربع محن وأربعة مخاطر يواجهها الحزب الحاكم، قال: "إن محنة الحكم ومحنة الإصلاح والانفتاح، ومحنة اقتصاد السوق، ومحنة الظروف الخارجية، لهي محن طويلة معقدة ومريرة. كما يجب على الحزب أن يضع نُصب عينيه أكثر خطورة التراخي، وخطورة عدم الكفاءة وخطورة الانعزال عن الجماهير، وخطورة الفساد الهدَّام".