العراقيون يزيحون الأحزاب التقليدية من الواجهة السياسية

انتخاب العراقيين للصدر لم يكن مفاجأ قياسا للاستياء الشعبي من مردود الأحزاب الكبرى ورغبتهم في صعود تيارات جديدة لم يرتبط اسمها بالفساد.
لقد شعرنا بالملل من الوجوه السياسية القديمة، ونريد وجوها جديدة غير ملوثة بالفساد
نتيجة الانتخابات متناغمة تماما مع مشاعر العراقيين
العراقي يبحث عن أي بديل جديد حتى لو لم يكن يمتلك خبرة سياسية

بغداد - حملت نتائج الانتخابات العراقية مفاجآت عدة لم يألفها المشهد السياسي القائم على أحزاب شيعية وسنية وكردية تحتكر السلطة بوسائل عدة، ولكن نظرة ثاقبة إلى آمال الناخبين العراقيين بعد مرحلة تنظيم الدولة الإسلامية يلاحظ بوضوح أن النتائج منطقية.

مساء الأحد الماضي أعلنت مفوضية الانتخابات النتائج الأولية للانتخابات التشريعية الرابعة في البلاد بعد العام 2003، وفي صباح اليوم التالي كان واضحا أن تغييرا سياسيا كبيرا شعرت به الناس في أنحاء البلاد وهم يشاهدون تراجع شعبية زعامات سياسية طالما رافقتهم على مدى العقد الماضي، بينما خرج أنصار الأحزاب المنتصرة إلى الشوارع فرحا بفوز أحزابهم الجديدة.

مقتدى الصدر الزعيم الشيعي المثير للجدل، والذي طالما ارتبط اسمه بسنوات العنف الطائفي ودخل سلسلة تحولات على مدى السنوات القليلة كان أبرزها الوقوف بوجه النفوذ الإيراني في البلاد، يفوز في المرتبة الأولى في الانتخابات ويحصل على (54) مقعدا من أصل (328).

فيما فوجئ الجميع بنيل رئيس الوزراء حيدر العبادي المرتبة الثالثة وحصوله على (42) مقعدا، فالرجل الذي تصاعدت شعبيته وبات يعرف برجل المهمات الصعبة عندما أدار حكم البلاد بينما ثلث أراضيها تحت سيطرة المتطرفين، وأزمة مالية قاسية كادت تطيح بالحكومة، يرى مراقبون أن كان يستحق نتيجة أفضل في الانتخابات.

أنصار الصدر يحتفلون بفوزه في الانتخابات
لم تكن مفاجأة لكنه قدم ما أراده الناخبون

بعد الصدر حل في المرتبة الثانية تحالف "الفتح" بزعامة هادي العامري وهو ائتلاف ضم فصائل شيعية معروفة بقربها من إيران، وحصل على (47) مقعدا، وحل "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي بالمرتبة الرابعة بـ (25) مقعدا فقط وهو الذي كان شعاره الانتخابي إلغاء المحاصصة والذهاب نحو حكومة الأغلبية، إذ انه خسر نحو ثلثي مقاعده التي حصل عليها في العام 2014 وكانت (92) مقعدا، بينما يحتاج إلى (164) مقعدا لتحقيق هدفه.

في الجانب السني والكردي لم تكن هناك أية مفاجآت كبيرة، إذ حافظ ائتلاف "الوطنية" بزعامة إياد علاوي على مقاعده الـ(21)، وحصل تحالف "القرار" بزعامة أسامة النجيفي على (13) مقعدا، بينما فاز الحزبان الكرديان "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" بأغلبية مقاعد إقليم كردستان.

ولكن التطور المثير كان يكمن في المشهد الشيعي، فالنتائج تشير إلى حقيقة واضحة بان الأحزاب الشيعية التقليدية الحاكمة وهي حزب "الدعوة" و"الحكمة" بزعامة عمار الحكيم (19) مقعدا، تراجعت شعبيتها كثيرا لصالح قوى شيعية جديدة وهي تحالف الصدر مع الشيوعيين الذي يمثل ظاهرة سياسية فريدة في تاريخ البلاد، وتحالف "الفتح" الجديد الذي ضم الفصائل الشيعية التي حاربت الدولة الإسلامية ولم تكن لديها مشاركة سياسية فاعلة في السابق.

رئيس قائمة "تمدن" النائب فائق الشيخ علي اعتبر أن "نتائج الانتخابات صادمة ومفاجئة للكتل الكبيرة، ولكنها طبيعية عندما جاءت متطابقة مع الاستياء الشعبي الواسع على الأحزاب الحاكمة".

قبل أسابيع من موعد الانتخابات بدا العراقيون يائسين جدا من إمكانية حصول تغيير سياسي، وعندما تسأل أي عراقي عن موقفه من السياسة يقول "لقد شعرنا بالملل من الوجوه السياسية القديمة، ونريد وجوها جديدة غير ملوثة بالفساد"، وهذا ما أكدته العشرات من استطلاعات الرأي قبل الانتخابات، اليائسون انقسموا إلى فريقين الأول شارك في الانتخابات، والثاني قرر المقاطعة.

هادي العامري
العامري استفاد من الحرب ضد الدولة الإسلامية

جاءت نتيجة الانتخابات متناغمة تماما مع مشاعر العراقيين، فالأحزاب التقليدية القديمة خسرت الانتخابات، بينما فازت بها تحالفات شيعية جديدة وان بدت مثيرة للقلق مع مرشحين غير معروفين للكثير من العراقيين، فالعراقي كان يبحث عن أي بديل جديد حتى لو لم يكن يمتلك خبرة سياسية.

ولهذا فان النتائج في الحقيقة ليست مفاجئة للذين فهموا توجهات الناخبين في مرحلة ما بعد الدولة الإسلامية، ولكن مفاجئة للذين طبقوا التجارب الانتخابية السابقة دون الأخذ بالاعتبار أن الناخب اليوم ليس هو نفسه أمس بعد الأزمات الأمنية والاقتصادية التي عانى منها.

الخطوة الأولى التي اتخذها الصدر هو تأسيس حركة سياسية جديدة باسم "الاستقامة" بدلا عن "الأحرار"، واتخذ قرارا جريئا بمنع جميع وزرائه ونوابه من الترشح في الانتخابات الجديدة، بعضهم استاء، ولكن الصدر أصر على موقفه، كما يقول المتحدث باسمه صلاح العبيدي.

ويقول العبيدي إن "الصدر ناقش بصراحة مع أنصاره أن الشعب يريد وجوها جديدة وطلب من المسؤولين بعدم الترشح وبينهم شخصيات سياسية بارزة، وافق الجميع إيمانا منهم بان المجتمع يحتاج إلى مرشحين جدد".

ويقول العبيدي إن "نقاشات مطولة جرت داخل التيار حول قرار الصدر، البعض قالوا له إن ذلك انتحار سياسي وسيؤدي إلى خسارة فادحة إذا ما تخلينا عن ممثلينا السياسيين، بينما قال آخرون إن التحالف مع الحزب الشيوعي سيؤدي إلى تراجع شعبيتنا، ولكن نتائج الانتخابات أثبتت العكس تماما".

معلقة انتخابية للمالكي
خسارة مرتقبة

الصدر لم يكتف بتقديم مرشحين جدد بل تجاوز الحدود وقرر تشكيل تحالف "سائرون نحو الإصلاح" مع الحزب الشيوعي والقوى المدنية العلمانية التي أطلقت موجة التظاهرات الشعبية في صيف العام 2015 في ساحة التحرير وانضم إليها آلاف العراقيين الناقمين على السلطة وهؤلاء المتظاهرون برغم أنهم ليسوا دينيين لكنهم اختاروا الصدر.

والشيء نفسه ينطبق مع هادي العامري، فالرجل الذي يعتبر احد السياسيين الشيعة التقليديين وكان تأثيره محدودا ويملك (22) مقعدا في الانتخابات السابقة، نجح هذه المرة في تشكيل تحالف جديد مع فصائل شيعية ليس لديها أي خبرة سياسية، ولكنها تملك شعبية واسعة في الأوساط الشيعية بعد الانتصارات التي حققتها على التنظيم الإرهابي، كما أن قادة الفصائل قدموا وعودا إلى العراقيين بطرد السياسيين الفاسدين كما طردوا المتطرفين في الجبهات.

هذا التحالف المثير للجدل حل في المرتبة الثانية في الانتخابات وحصل على (47) مقعدا متفوقا على العبادي والمالكي، فالناخبون كانوا يفكرون في اختيار أحزاب جديدة دون الاكتراث كثيرا بخلفياتهم وخبرتهم السياسية، لأنهم ببساطة يشعرون بالملل والاستياء من الأحزاب القابضة على السلطة بعد عام 2003.

ومن بين الأمور الأكثر إثارة في الانتخابات هي النسبة المتدنية للمشاركين، فقد اقترع (44.52 بالمئة) من عدد الناخبين الذين يحق لهم المشاركة في الانتخابات ويبلغ عددهم (24.352.253)، وهي أدنى نسبة مشاركة في الانتخابات منذ العام 2005، إذ ازدادت نسبة المقاطعة بحدود (15 بالمئة) عن الانتخابات السابقة في الأعوام (2010-2014) والتي بلغت نحو (60 بالمئة).

ويقول مراقبون محليون انه حتى لو شارك المقاطعون لن تتغير نتيجة الانتخابات كثيرا، لان المقاطعين ناقمين على الأحزاب الحاكمة ولو شاركوا لانتخبوا أحزاباً جديدة، وبسبب قانون الانتخابات ليس أمامهم سوى اختيار القوائم التي فازت فعلا في الانتخابات.

لم يكن انكسار الأحزاب الحاكمة الشيء المثير فحسب، بل إن الزعامات السياسية التي تتمتع بالكاريزما فقدت بريقها في أعين العراقيين، ومثلا فان المالكي الذي حصل لوحده في انتخابات عام 2010 على (624.247) صوتا، وفي 2014 (721.000) صوتا، حصل في الانتخابات الأخيرة على (91.000) ألف صوت.

وبينما حصل إياد علاوي على (46.000) صوت في الانتخابات الأخيرة، كان حصل على (410.223) صوتا في انتخابات 2010، و(407.537) صوتا في 2014.

في المحصلة، تشير نتائج الانتخابات إلى عدم وجود فائز حقيقي كبير يمكنه حسم تشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء، والفوارق بين الأحزاب الفائزة لا تتجاوز عشرة أو عشرين مقعدا عن بعضها، بينما يتطلب تشكيل الحكومة الحصول على (164) مقعدا في البرلمان، وهو ما يفرض على الفائزين إجراء مفاوضات معقدة لتشكيل حكومة ائتلافية قد تستغرق أشهرا.