العراق: أوهام الحياد بين واشنطن وطهران

مشكلة إيران تكمن في اعتمادها معيار الولاء بدلا من الحنكة والتدبير السياسي لدى القيادات السياسية في العراق وبات إدراك هذه الطبقة الحاكمة بأن بقاءها في واجهة السلطة يحتاج رضا إيران وقبولها. ويبدو أن رهان إيران بات خاسرا اليوم.

بقلم: إياد العنبر

تتصاعد رسائل التهديد ولغة التصعيد بين واشطن وطهران بطريقة مختلفة تماما عن المواقف التصعيدية السابقة بين البلدين. فطهران تدرك جيدا أن سياسة إدارة ترامب تختلف تماما عن إدارة الرئيس السابق أوباما، فالعقوبات الأميركية المفروضة على طهران بدأت تنعكس على الواقع الاقتصادي الإيراني بصورة واضحة وصريحة. ورسائل التحذير العسكري باتت أكثر وضوحا مع إرسال حاملة الطائرة الأميركية "يو أس أس أبراهام لنكولن" وقاذفات B-52 إلى منطقة الخليج.

الإصرار والجديّة في مواقف الإدارة الأميركية تؤشّر إلى وجود استراتيجية صارمة تجاه إيران، تبدأ من تشديد العقوبات الاقتصادية، ولكن هدفها النهائي تحقيق الاثني عشر شرطا التي وضعها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أمام الإيرانيين، والتي كان من بينها المطلب المتعلّق بالعراق، إذ طالب فيه بومبيو الإيرانيين: "التعامل باحترام مع الحكومة العراقية وعدم عرقلة حلّ التشكيلات الشيعيّة المسلّحة ونزع سلاحها".

بيد أن الطبقة السياسية في العراق، لم تقرأ رسالة التحذير التي وجهها بومبيو في الشّرط المتعلق بالعراق، والذي جاء متزامنا من نهاية الانتخابات العراقية في أيار/مايو 2018. لكن القيادات الإيرانية قرأتها جيدا، واعتبرتها تحديا وفرض إرادات يجب أن ينعكس على تشكيل الحكومة الجديدة، وعليه عملت الجيوش الإلكترونية في وسائل التواصل الاجتماعي، على ترويج فكرة "3-0" والتي كانت تعني بأن اختيار الرئاسات الثلاث تم عن طريق فرض الإرادة الإيرانية.

مشكلة إيران، كانت وما تزال، تكمن في اعتمادها معيار الولاء بدلا من الحنكة والتدبير السياسي لدى القيادات السياسية في العراق، وبات إدراك هذه الطبقة الحاكمة بأن بقاءها في واجهة السلطة يحتاج رضا إيران وقبولها. ويبدو أن رهان إيران بات خاسرا اليوم، فالحُكّام الذين اعتمدت عليهم لم يتمكنوا من تقديم بدائل ناجعة لتخفيف الخناق الذي فرضته إدارة ترامب على إيران؛ وكيف لا يكون خاسرا، إذا كانت الطبقة الحاكمة في العراق قد فشلت في كسب ثقة الشارع العراقي، فكيف لها أن تكسب ثقة الإدارة الأميركية؟

لم تعمل إيران على ديمومة بقاء العراق جسرا للتواصل بين واشنطن وطهران، كما حدث في نهاية الولاية الثانية للرئيس جورج دبليو بوش، بل عملت على ترسيخ فكرة التفرّد بهيمنتها على القرار السياسي العراقي، وكان المستفيد مجموعة من قيادات سياسية فشلت في تقديم منجز سياسي أو اقتصادي للعراق، لكنها نجحت في الحفاظ على الولاء لطهران.

في قبال تصاعد التوتر والتهديدات، تحاول حكومة بغداد أن توهم نفسها بالحياد. فهي تدرك جيدا أنها لا تملك موقفا واضحا وصريحا يمكن له أن يتجسد بخطوات سياسية عملية على أرض الواقع، بل تكتفي بتكرار أحاديث دبلوماسية تنتمي إلى مفاهيم حقبة الحرب الباردة، وهذا ما نقرأه في خطابات الحكومة وأحاديثهم عن اعتماد العراق سياسة الحياد أو الحياد الإيجابي بين أميركا وإيران.

ويبدو أن حكومة السيد عادل عبد المهدي لا تملك القدرة على المناورة بين الأطراف المتصارعة. كما أنها لم تعر الاهتمام لرسائل إدارة ترامب التي تؤكد على ضرورة تصحيح أخطاء إدارة أوباما السابقة التي ساهمت بتسليم العراق إلى إيران. ومن ثم، فهي لن تقبل (حكومة عبد المهدي) بأن يكون العراق محايدا بشأن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن على طهران. ولذلك كانت الرسالة الأخير التي حملها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في زيارته الأخيرة والمفاجئة إلى بغداد، بأن أي تعرّض إيراني لمصالح وتواجد الأميركيين في العراق سيواجَه بقوّة.

مشكلة حكومة السيد عبد المهدي هي صعوبة وجود خيارات تشكّل بدائل لمواقف واضحة وصريحة، فاختياره لرئاسة الوزراء لم يكن على أساس كفاءته وقدرته على إدارة الدولة، بل كونه شخصية لا يمكن أن تواكب بسهولة مطالب واشنطن، ليكون مهددا لمصالح إيران.

من جانب آخر، يدرك عبد المهدي جيدا بأن بقاءه بمنصب رئيس مجلس الوزراء لا يمكن أن يستمرّ باتخاذ قرارات تتماهى مع سياسات إدارة ترامب ضدّ طهران. ويبقى الرهان قائما على أساس عامل الزمن من دون الاعتماد على استراتيجية واضحة لإدارة الأزمة بين طهران وواشنطن.

وسواء استمرت إدارة ترامب بسياسة العقوبات الاقتصادية، أو تطوّر الموقف إلى استخدام القوّة العسكرية، ففي كلتا الحالتَين العراق سيكون متورطا. وإلى الآن لا يوجد فك ارتباط ما بين العراق وإيران على المستويَين الاقتصادي والسياسي، ولم يُحدد العراق موقفا واضحا عن طبيعة علاقته بواشنطن؛ فهل هو حليف استراتيجي، أم أنه دولة صديقة؟ وبالتأكيد فإن عدم حسم العراق خياراته أو إقناع الأميركيين بصعوبة موقفه لن يُرضي ثلاثي الإدارة الأميركية الحالية (ترامب ـ بولتون ـ بومبيو)، الذي يجسد عمليا مبدأ "من ليس معنا فهو ضدنا".

واقع الأمر، أن العراق يقع ضمن دائرة الاشتباك بين طهران وواشنطن، وأي حديث عن الحياد هو نوع من الخطابات الساذجة التي تعبّر عن سوء فهم لمنطق العلاقات الدولية المعاصرة. فرسائل التهديد باتت أكثر وضوحا بأن العراق سيكون ساحة للصراع، سواء أكان الصراع اقتصاديا أو عسكريا.

ومن ثم، لا يوجد حلّ لمأزق الحكومة الحاليّ إلا بإقناع إيران بالتراجع عن خطوات محددة، إذ ليس من مصلحة العراق عدم الالتزام بالعقوبات التي فرضتها واشنطن ضدّ طهران، فتكلفة مثل هذه الموقف عالية جدا لا يتحمله العراق، وأيضا سيلحق ضررها بإيران.

وبالمقابل على الحكومة أن تقدّم لواشنطن استراتيجية واضحة وصريحة قادرة على رسم ملامح جديدة للعلاقة بين بغداد وطهران، هدفها الرئيس التقليل من دوائر المصالحة المتشابكة غايتها الأساسية تحقيق التوازن الفعلي لعلاقة العراق بين كل من أميركا وإيران وفق منظور توازن حقيقي في العلاقات الدولية، وليس في الخطابات واللقاءات الصحفيّة.