العراق.. الأبوية في خطاب السلطة

قوى دينية وعقائدية لا تعرف معنى الجمهور ومعنى للثورات إلا من خلال وجود قائد أو ملهم أو مرشد يتولى هو التفكير نيابة عن الشَّعب.

بقلم: إياد العنبر

إن إخضاع سلوكيات المجتمع السياسي إلى ممارسات وهيمنة الأنظمة الشمولية والاستبدادية، إنما هو من أخطر وأعقد إشكاليات وعقبات التحوّل من نظام دكتاتوري إلى نظام يسعى إلى أن يكون ديمقراطيا.

لعلَّ من يتابع الأحداث السياسية في العراق بعد تغيير نظام البعث الشمولي في 2003 سيجد هذه الإشكالية واضحةَ المعالِم؛ فعلى الرغم من مرور سبعة عشر عاما على التغيير فإن نمط التفكير بطريقة الأوصياء على المجتمع لا تزال فاعلة ومؤثّرة في المجال السياسي، والتغيير الذي حدث هو تحوّل ممارسة هذه الفكرة من الحزب الواحد والزعيم الأوحد إلى مجموعة من زعماء الطوائف والقوميات، والتي باتت تحكم بعناوين سياسية.

ونموذج بقايا نمط التفكير الشمولي في العراق نجده واضحا في خطاب الأبويّة الذي يتردد كثيرا في قراءات ومواقف وتبريرات زعامات السلطة والنفوذ، والذي يتم طرحه في المواقف السياسية، وحتى النخبوية، من حركة التظاهرات التي بدأت في أكتوبر 2019 ولا تزال مستمرة.

إذ نجد خطاب الأبوية مرة يسوق وفق محاولة تفسير التظاهرات بناءً على نظرية المؤامرة والجمهور غافل عن ذلك، ومن منطلق "الأبوية" يجب تحذيرهم؛ لأن هدفها تآمري على النظام والمجتمع، ومرة أخرى من خلال تبني التظاهرات لكن وفق الرؤية التي يريدها الزعيم أو القائد، ومن منطلق "الأبوية" يتم تحديد الصحيح والخطأ لضمان الطهرانية الثورية وتنقية الحراك الجماهيري من الانحرافات.

يقوم التصور الأبوي في المجتمعات التقليدية على أساس يفترض أن المجتمع مكوَّن من أناس طيبين وصالحين، وأنهم عُرضة للإفساد من أناس آخرين حاملين نيّات سيئة. ولذلك يكون خطاب الوصاية على المجتمع حاضرا لتبرير منطق "الرعاية الأبوية".

العدو الموهوم الذي يترصد بنا خلف الأبواب، يراد منه الهروب من الأسئلة الصعبة التي تطرحها شعارات المحتجين في ساحات التظاهر، فالطبقة السياسية جميعها متهمة بالفساد ونهب الثروات والفشل في حماية أرواح الناس الذين تحولوا إلى أرقام لضحايا الإرهاب وعجز الحكومة عن حمياتهم، أو ضحايا "الطرف الثالث" الذي لا يزال، وسيبقى، مجهول الهويّة.

لا تدرك زعامات السلطة أن تذاكيها على الجمهور وادعاءها بمعرفة الخفايا والأسرار التي يحيكها الأعداء، لم تعد مقنعة للكثير من شباب هذا الجيل، وحتّى إذا وظَّفت جيوشها في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي للترويج لادعاءاتها بالكشفِ عن المستور، ومن يقف خلف التظاهرات ومن يحركها ومن يموّلها.

وإذا كانت لحركة التظاهرات من فضيلة، فضلا عن مطالبها المشروعة، فهي كشفها عن مفارقة كبيرة تتجلى في الوهم الذي يهيمن على تفكير زعامات السلطة وأتباعهم، والذي يتجسَّد في "الوصايا الأبوية" التي يصرحون بها. فهي تحمل في طياتها تبريرات ادعاء على الكشف والتفسير للأحداث السياسية، ولكنها بالمقابل تعبر عن تبرير لمصالحها في إبقاء الوضع على ما هو عليه، ورغبتها بالإبقاء على التخادم المصلحي بين الطبقية السياسية، والسعي نحو عدم المساس بالمكاسب التي تحققت في ظل منظومة الفساد السياسي.

المأزق الحقيقي الذي تعيشه أحزاب السلطة وزعمائها، ملازم لخطاب المؤامرة مع هيمنة فكرة الأبوية. انظروا إلى سلوك وخطاب الزعامات السياسية الشيعية، ففي الوقت الذي يعتقدون بوجود مؤامرة لتقسيم العراق، يتم تسويق رفضهم لهذه المؤامرة مِن خلال خطاب الأبوية للحفاظ على الوحدة الوطنية. بيد أنهم يتناسون مسؤوليتهم عن تثبيت فهمهم المشوّه عن الفدرالية في دستور 2005، والذي كان قد أنتجه تحالف المظلومية بين الشيعة والكرد، ومن ثمَّ رسخ نظاما فدراليا هجينا هو أقرب لتأسيس العلاقة بين دولة داخل دولة، منه إلى نموذج يحدد علاقة اتحادية بين المركز والإقليم. ومن جانب آخر يتجاهلون تماما واقع الدولة الفاشلة التي لا تزال موحدة ليس بسبب رغبة زعماء السياسيين للمكونات، وإنما لممانعة القوى الإقليمية والدولية لرغبات الانفصال.

وصدع رؤوسنا الزعماء السياسيون الشيعية بتحذيرهم من سيناريو حرب شيعية ـ شيعية، لكنَّهم بالوقت ذاته يرفضون الاعتراف بالحرب الباردة بين الأحزاب والشخصيات السياسية الشيعية وصراعهم على مغانم السلطة ورغبتهم في إقصاء شركائهم أو منافسيهم من السياسيين الشيعة.

لا يختلف كثيرا عن هذه السردية من يدعون الزعامة السياسية من السنة بزعمهم الأبوية على أبناء المكوّن السنّي والحديث باِسمِ حقوقه واستحقاقاته السياسية. لكنَّهم تركوا أبناء محافظاتهم بين ضحايا ورهان، أو مهجرين بعد سيطرة جماعات داعش الإرهابية على مناطقهم. لا بل استغلوا ذلك كفرصة للمتاجرة السياسية والترويج للتهميش والإقصاء وعدم تحمل المسؤولية بفساد وفشل منظومة الحكم.

حتى الزعامات السياسية الكردية، لا يخلو خطابها من ادعاء أبويتها للكرد ودفاعها عن حقوق المكوّن الكردي، لكنَّ هذا الخطاب الأبوي يكون موحدا في حال وجود أزمة أو خلاف مع حكومة بغداد. أما في البيت الكردي فالتنافس والتنازع واضح بين الإقطاعيات العائلية الحزبية، والتي تتقاسم الموارد بينها وترفض السماح لظهور شركاء سياسيين جُدد في المجال السياسي الكردي، ناهيك عن فشلها في توفير توظيف مواردها إلا لخدمة الأوليغارشية العائلية الحاكمة، بدلا من توظيفها في تحقيق تنمية اقتصادية للمجتمع الكردي، ولذلك واجهت أزمة اقتصادية بعد الخلاف بشأن رواتب موظفي الإقليم بسبب عدم تسديد مبالغ تصدير نفط إقليم كردستان في حكومة حيدر العبادي.

إذا، تبقى المشكلةُ في خطابِ قوى السلطة الأبوي انحسار تفكيرها في مساحة محددات تتراوحُ بين الهروب نحو الأمام والعودة إلى الماضي، إذ أن هذا الخطاب لا يقبل بالمساءلة أو النقد، ويعيش بحالة إنكار للعجز أو الفشل.

الأدهى من ذلك يريد هذا الخطاب أن يوظّف نفوذه لإقناع الأجيال بأنه أكثر دراية ومعرفة بالأعداء ومؤامراتهم التي تحاربهم، لأنهم يؤمنون بعقائد تهدد مصالح الآخر المختلف دينيا وطائفيا وعِرقيا.

ولعلَّ في ذلك تفسير لرفض أحزاب السلطة القبول بفكرة خروج الجماهير إلى الشارع للتعبير عن رفضها الظلم والفقر والحرمان، وهي معذورة بهذا الرفض؛ لأنها لا تعرف معنى الجمهور، ولا تعرف أي معنى للثورات إلا من خلال وجود قائد أو ملهم أو مرشد يتولى هو التفكير نيابة عن الشَّعب.

نُشر في شبكة الشرق الأوسط للإرسال