العراق.. الدولة الفاشلة باقية وتمدد

فشل القيادات السياسية في العراق وسوء إدارتها هو السبب الرئيس في ديمومة الإرهاب وانتشار الفساد وهذا ما يجعل العراق ماكثا في دائرة تصنيف الدولة الفاشلة والمشكلة الحقيقية تكمن في ضياع المسؤولية عن حالة التردي التي وصلت إليها البلاد بعد 16 عشر عاما.

بقلم: إياد العنبر

انعقد في بداية شهر مارس/آذار منتدى أربيل الأوّل بعنوان "الأمن والسيادة في الشرق الأوسط"، حيث اتفق المشاركون من السياسيين العراقيين على أن عجز الدولة عن القيام بوظائفها يخلق بيئة خصبة لبقاء الإرهاب، ويمكن له أن ينتج أجيالا جديدة من الجماعات الإرهابية قد تخلف تنظيم داعش. وهذا هو ما ركّز عليه "إياد علاوي" رئيس الوزراء الأسبق في كلمته التي ألقاها في الملتقى.

والمفارقة في الموضوع هي أن كثير من السياسيين يتحفظ على وصف العراق بالدولة الفاشلة، ويعدّون ذلك وصفا فيه الكثير من القساوة على تجربة حديثة لإعادة بناء الدولة في العراق! ويبدو أن هذا الرأي يتفق مع صندوق السّلام ومجلة السياسة الخارجية، فبعد أن اعتمدت على مدى أكثر من عشر سنوات توصيف الدولة الفاشلة، جرى تغيير الوصف إلى الدولة الهشة ابتداء من عام 2016.

بيد أن المعايير المعتمدة في إعداد قائمة بتصنيف الدول بقيت على حالها من دون تغيير، وهذا ما يعني بأن التغيير شمل التوصيف ولم يشمل المعايير. وبذلك يمكن القول إن الدولة سواء أكانت هشة أو فاشلة فذلك يقوم على أساس معياري وليس وصفي.

نميل إلى وصف العراق بالدولة الفاشلة، لأن تعريف لندن سكول للاقتصاد والعلوم السياسية لتلك الدولة في ورشة عن أزمات الدولة أقامتها في آذار/مارس 2006، ينطبق تماما على العراق. إذ يعرفها على أنها الدولة التي تفشل في تنفيذ وظيفتها الأمنية وفي تحقيق وظيفتها التنموية، فهي لا تستطيع إعادة إنتاج ظروف بقائها.

في التقرير الأخير لصندق السلام في عام 2018 لم يزل العراق يصنف ضمن دائرة الـ (HIGH ALERT) أي الدول التي في حالة خطرة من الفشل. بيد أن التقرير يدرج العراق ضمن قائمة البلدان التي تشهد تحسن قوي من خلال مقارنة المؤشرات في ضوء 10 سنوات (2008 ـ 2018).

المشكلة بالعراق ذات علّة مركبة، بلغة أهل المنطق، فهي ليست أمنيّة فحسب، فالإرهاب والجماعات المتطرفة باتت تنتشر في جميع بلدان العالم، ولم تعد هناك دولة في مأمن من تحركاتها وأهدافها. والمشكلة أيضا لا تنحصر في الاقتصاد؛ لأن كثير من الدول تواجه تحديات اقتصادية قد تكون أخطر بكثير من التحديات التي يواجهها الاقتصاد العراقي. إذ إن الاعتماد على الموارد النفطية يشكل عامل ديمومة لإدامة عجلة الاقتصاد، كونه يشكل ضمان لتوفير الأموال لإدارة مرافق الحياة العامة وليس إدارة الحقيقة للاقتصاد بالمعنى العلمي للكلمة.

إن فشل القيادات السياسية في العراق وسوء إدارتها هو السبب الرئيس في ديمومة الإرهاب وانتشار الفساد، وهذا ما يجعل العراق ماكثا في دائرة تصنيف الدولة الفاشلة. والمشكلة الحقيقية تكمن في ضياع المسؤولية عن حالة التردي التي وصلت إليها البلاد بعد 16 عشر عاما من سقوط النظام الدكتاتوري.

فعلى مستوى الطبقة السياسية التي تدير البلاد، لا تجد فروقات كبيرة في المضمون بين سوء إدارة النظام الشمولي وسوء إدارة قيادات سياسية تعمل بعنوان نظام "ديمقراطي". فكلاهما يعمل ضمن منظومة سياسية تجتهد لضمان ديمومة بقاءها بالسلطة بغض النظر عن القبول والرضا التي يمكن أن ينعكس عن السياسات العامة للنظام السياسي.

فشل الدولة لا يقف على المستوى المادي، المتعلق بتقديم الخدمات أو ما يعرف بمفاهيم السياسة العامة السلع السياسية political good، فالفساد الإداري والمالي، وسوء الإدارة يمنعان أي منجز سياسي أو خدمي يقدَّم للمواطن.

لكن الأخطر من ذلك هو فشل الدولة في تحقيق الاندماج السياسي والاجتماعي، وإعادة ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها. فتوالي ضياع الفرص من قبل النخب الحاكمة لا يزال يعتمّ الظروف ويحجب أيّ بصيص أمل نحو مستقبل الإصلاح السياسي.

فنوري المالكي أضاع فرصة بناء دولة القانون والمؤسسات، وبداية إعادة الثقة بين المواطن والحكومة التي وفرتها هزيمة القاعدة وخطة فرض القانون في بدايات 2007، ولكن سعي المالكي لتمركز السلطة في شخصه كان كفيلا في تلاشي أي منجز سياسي أو أمني أو خدمي.

وفي السنة الأخيرة من ولايته، لم يستثمر حيدر العبادي إعلان النصر على داعش، إذ انشغل بترتيب وضعه الانتخابي على حساب شعارات سياسية افتتح بها بداية تسلمه السلطة في 2015 برفعه شعار محاربة الفساد والإصلاح. وانتهت فترة حكمه من دون أن يتلمس المواطن إصلاحا حقيقا أو خطوات جدية لمحاربة الفساد.

يبدو أن السيد عادل عبد المهدي، وبعد أكثر من 100 يوم على تسلمه مقاليد السلطة، لا يزال يدور في دوامة الشعارات. فعبد المهدي، البارع في التنظير السياسي وتشخيص أزمات الدولة وسوء الإدارة، لا يزال غير قادر على إقناع العراقيين بخطواته نحو تقديم منجز خدمي لمواطن ينتظر كثير من الأفعال الملموسة، وغير مهتم بالوعود بمشاريع استراتيجية.

لا تزال الطبقة السياسية عاجزة أو غير قادرة على استيعاب مسألة انتهاء زمن الشعارات والوعود التي لا تتلاءم مع نظام سياسي يعتمد الانتخابات مدخلا لمنحه الشرعيّة. فما يوحّد الجمهور في العراق هو المعاناة وتزايد الشعور بفقدان الثقة بالأحزاب والطبقة السياسية الحاكمة. ويبدو أن هناك ملامح تحرر في وعي الجمهور من المخاوف المرتبطة بالهويّة وقلق العلاقة مع الآخر المختلف في المذهب والقومية، هذه المخاوف التي كانت تخدم الخطاب السياسي التبريري للطبقة الحاكمة.

يحتاج العراقيون في مرحلة ما بعد داعش، إلى زعيم أو نخب سياسية حاكمة تستمد شرعيتها من المنجز، ولا تتبجح بالاستحقاق الانتخابي لتشكيل الحكومة ومن ثم تنصرف لتوزيع مغانم السلطة. ويجب أن يكون هناك إجماع سياسي على أن ما يهدد العراق ليس تنظيم داعش أو الجماعات الإرهابية مهما اختلفت عناوينها وتسمياتها، بل أن التهديد الأكثر خطورة هو بقاء وتمدد الدولة الفاشلة في العراق.