العراق.. الطقوس الدينية لمجتمعات الأفق المسدود

منذ 2003 والتجييش للطقوس الدينية جارياً فالمسيرات الراجلة وتمثيل التشابيه واللطم والتطبير ونصب المواكب على طول الطريق وتهييج المشاعر وجوقة الإعلام الداعي لممارسة هذه الطقوس وتعطيل الحياة بالكامل هذا الهيجان يأتي في صميم العمل السياسي للقوى المسيطرة.

بقلم: قاسم علي فنجان

    "احتياج الطبقات العليا والقوية في المجتمع للترويج لأيدولوجياتهم وتقوية القوة الموجودة وحنين الناس الى وجود شيء مقدس، كلها تتلاقى في الطقوس، وعلى الارجح يتصور القادة السياسيون والدينيون ان الطقوس تتمتع بفاعلية كبيرة وانه من مصلحتهم بناءً على توجيهات مستشاريهم وعديد من الخبراء، عدم تحطيم ايمان شعوبهم بتلك الطقوس"(برتي السوتاري).

الطبقات العليا بحاجة ماسة وضرورية لكل الطقوس الدينية، لأنها منفذ اساسي للترويج لأيدولوجياتهم، وهذه الايدولوجيات هي الكفيلة ببقاء الهيمنة والسيطرة لهم على المجتمع، فلا نستغرب من رئيس وزراء وهو يمشي وسط الممارسين للطقوس ويوزع الحلوى (الداطلي)، او يلطم او حتى يعفر جبينه بالتراب، لا بأس في ذلك اذا كانت تلك الافعال والممارسات تديم بقاءه او تنشر من افكار حزبه او تياره، بغض النظر عن مدى ايمانه بهذه الطقوس.

شاهدنا ومنذ احداث 2003 الاتجاه العام والتجييش الكبير للطقوس الدينية وبكل اشكالها، فالمسيرات الراجلة وبالملايين، واعادة تمثيل المشاهد "التشابيه"، واللطم والتطبير، ونصب المواكب على طول الطريق، وتهييج المشاعر بأقصى ما يمكن، وجوقة الاعلام الذي اخذ دور الداعي القوي لممارسة هذه الطقوس والناقل لكل مشاهدها، بل والمنبه والمذكر بها، وتعطيل الحياة بالكامل بل شلها لفترات تطول او تقصر حسب الحدث الطقسي، فضلا عن حالة من الارباك والفزع تصيب الشارع، كل هذا الهيجان والفوضى وعدم الاستقرار يأتي في صميم العمل السياسي للقوى المسيطرة.

ليس هنالك من شك بوجود الحنين والشوق لدى المجتمع لعادات وطقوس معينة كان قد دأب على ممارستها، فاحتفالات اعياد رأس السنة في العالم تكاد تكون شاملة لكل الكوكب، وما يتخللها من عادات وطقوس، من شجرة الميلاد الى الاحتفالات التي تجري في الشوارع حتى الصباح الخ، كل ذلك لا بأس به، لكن عندما تأخذ هذه الطقوس ابعادا سياسية فعند ذاك يجب التوقف والنظر الى هذه الممارسات بشكل آخر، فالتأكيد على طقوس محددة والمبالغة والتطرف في الدعوة الى ممارستها، وتسهيل كل الامور لها، يؤكد ان هذه الطقوس المعينة تخدم قوى سياسية مسيطرة وهو ما يراد تطبيقه، لأن الطقوس في جانب منها تعبير عن سيطرة طبقة، فحتى تسيطر او قل حتى تديم سيطرتك على المجتمع، يجب ادامة هذه الممارسات، لأنها تزيد من ابقاء المجموع عند حدود تفكير معين ومحدد، لهذا فأن الفتاوى تتسارع من مراكز القرار الديني عندما يمارس الناس طقوسا اخرى، هي ايضا دينية في المحصلة النهائية "رأس السنة مثلا"، لأنها كما يقولون "تبعدك عن دينك"، والحقيقة هي انها تبعدك "عنا" نحن السلطة والقوة، لأن مثل هذه الطقوس ستكون فاعليتها عكسية، وهو ما لا يمكن ان يسمح به حتى لو اضطروا الى ان يلجئوا للعنف للحفاظ على مكانتهم، لهذا فأن ماكس فيبر على حق عندما يقول: "صاحب السلطة هو الذي يسمح بوجود الهة جديدة وعلوم دين وطقوس حسب رغباته او ان يمنعها". لكن ايضا حسب حاجاته التي تضمن له الولاء.

يجب ألا نغفل حقيقة أن أغلب الذين يمارسون الطقوس هم من الطبقات المسحوقة، ففيها يتركز الجهل والخرافة، والقوى المسيطرة تبقي مناطق هؤلاء بنفس البؤس الذين يعيشون فيه، فمثلا مدينة الثورة في بغداد، وهي من المناطق المكتظة بالسكان، يقطنها اكثر من ثلاث ملايين نسمة، هي وما انتجته من ملحقات لها "سبع قصور، الحميدية، الغرير، حي النصر، الرشاد، الشماعية، حي طارق، المعامل، حي الكوفة، ولا نريد ذكر مناطق "شاعوره ام جدر او جف تنك" فحالة البؤس لا يمكن ان يتصورها احد، بالإضافة الى العشوائيات "الحواسم" الكثيرة المحيطة بها وداخلها" فمجلس محافظة بغداد يقول: إن هناك مليونين يسكنون العشوائيات في بغداد فقط، قطعا اغلبهم في جانب الرصافة.

مدينة الثورة هذه ولواحقها تعد الخزان البشري لسلطة الإسلام السياسي في العراق، ومن المعروف فأن احد اقطاب العملية السياسية يسيطر عليها بالكامل منذ 2003 "التيار الصدري"، نسبة الامية والجهل فيها جدا عالية، قضايا السحر والخرافة والشعوذة والدجل منتشرة فيها، الخدمات المقدمة لها تكاد تكون صفراً، البطالة بين الشباب تشكل نسب مرتفعة، الخلافات التي تحصل-وهي كثيرة-لا يحلها قانون بل العرف العشائري، وبالنتيجة المنطقية لذلك كله فهي اكثر مدينة تمارس الطقوس وبتطرف لا مثيل له، بل انها اكثر مدينة انتاجا وتوليدا للخرافات والطقوس، فمثلا في احد البيوت والتي بدأت الناس تزوره، لأنه وجد في ذلك البيت شجرة قالوا عنها انها "بكت على الحسين" ، واذا بالناس من كل مدينة الثورة ولواحقها تزور هذه الشجرة، وتتبرك بها، وقد ارتفع سعر هذا البيت كثيرا رغم تهالكه، او تلك الشجرة في احد الجوامع https://youtu.be/54pY8VkHplg - طوطمية الاشجار موجودة بكثرة- او بئر الماء المقدس في منطقة سبع قصور https://youtu.be/RkszJqhsHuM ، او السيدة المبروكة في منطقة "شاعوره ام جدر"، غير ذلك السيد او الشيخ المبروك، ولا غرابة في ذلك، فأن القوى المسيطرة عليها تبقي على هذه المدن بهذا الشكل وهذه الصورة، "واقع سبع قصورhttps://www.youtube.com/watch?v=pvqJlnivDgo ، واقع الحميدية،   https://youtu.be/57rTZistZ8o وهناك العشرات من هذه التوثيقيات"، لأنها تخدمهم أكثر، فلا يهم عند هؤلاء الناس الخدمات او تشغيل العاطلين او التعليم او الصحة، المهم فقط ان طقوسنا نمارسها بحرية، ونمط التفكير هذا لم يأت من فراغ، بل هو حصيلة سياسات مستمرة منذ خمسة عشر عاما، لتنظيم وعي محدد غير قابل للتطور، فلا يمكن للناس ان تسأل لماذا نحن هكذا؟ او لما يستمر الحال بهذا الشكل؟ لقد منعوا حتى السؤال او التساؤل مع الذات، بل ان تساؤل الناس اصبح، لماذا السيد يحمل العصا يجددونها ويعيدون انتاجها كلما بدأت بالخمول او الضمور، فالوضع السياسي قائم على ذلك، وأي تماهل او تهاون من قبل هذه القوى، فأن الوضع سيفلت منهم، التجهيل ثم التجهيل ثم التجهيل، هو ذا قانونهم، وتلك هي كلمة السر التي بها يديمون سيطرتهم وهيمنتهم على المجتمع.

إذن هناك علاقة قوية وواضحة بين الممارسات الدينية والفقر وما ينتجه من جهل، فواقع مدينة الثورة او سبع قصور او الحميدية كنماذج مليونيه، هو واقع بائس ومزري بكل ما تعنيه الكلمات من معنى، مدارس عبارة عن (كرفانات) مكتظة بالتلاميذ، لا توجد مستشفيات او عيادات صحية، وأن وجدت فخدماتها اسوأ من السوء، الاتجاه العام للصحة في هذه المناطق زيارة الاضرحة المقدسة لديهم لطلب الشفاء، او التطبب بالأعشاب، لا شوارع مبلطة، النفايات تملأ المناطق، افق مغلق تماما، لهذا فأن هذه الكتل السكانية هي اكثر من يثبت ويقوي ويؤبد مثل هذه الانظمة السياسية، هذه العصابات التي تحكم، تصرف على هذه المناطق في ايام الطقوس اكثر مما تصرفه على الخدمات، فأي موكب يكلف ما بين 5-3 الاف دولار، في حين ان ترميم مدرسة او وضع "براد ماء" للشرب للتلاميذ، او وضع زجاج للصفوف او اجهزة تبريد، كل ذلك لا يكلف هذا المبلغ، اذن عملية بقاء هذه المناطق في عموم العراق بهذا الشكل سياسية بامتياز، فالمسيرات المليونية لكل الطقوس الدينية تخرج منها، وادامة الحروب الطائفية بشباب هذه المناطق، بالإضافة الى انها سوق ممتازة لتجارة المخدرات والجنس لهذه العصابات.

انهم ينتجون المزارات الجديدة، ويشيدون القبور، ويولدون مناسبات دينية جديدة يعطونها التفاصيل الكاملة، انهم يعملون ليل نهار لتغييب الوعي.

كتب مونتسكيو عن الانكليز يقول: "إنهم اكثر شعوب العالم قدرة على الانتفاع من اشيائهم الثلاث الكبرى: الدين، التجارة، والحرية". ونحن نقول ان هذه العصابات التي تحكم، هي اكثر فهما منا ومقدرة لتطويع المجتمع على ما يريدوه ولقد استفادوا وما زالوا مستفيدين من اشيائهم التي انتجوها (الطقوس، الخرافة، والطائفية).