العراق القادم تصنعه إرادة المقاطعين

المقاطعة كانت ضرورية من أجل أن يعرف سياسيو الصدفة العراقيون حجمهم الحقيقي.

العراقيون في غالبيتهم قاطعوا الانتخابات النيابية الأخيرة. فعلوا ذلك إما عن يأس واحباط وتململ بسبب اثنتي عشرة سنة من حكم حزب الدعوة انتزعت فيها المواطنة وارتفع فيها منسوب الفساد وضربت لغة الكراهية الألسن، وإما عن شعور بالقرف والاشمئزاز من المستوى الرث لخطاب الأحزاب السائدة السياسي وأداء افرادها الوضيع على مستوى المسؤولية.

قاطع العراقيون الانتخابات وهم يدركون جيدا أن مقاطعتهم تلك لن تُسقط العملية السياسية الجوفاء التي لا تزال تحظى برعاية أميركية عمياء ودعم إيراني هو مكافأة للأحزاب التي نقلت بولائها قاسم سليماني من مرتبة الضيف الاستثنائي إلى مرتبة صاحب البيت والحاكم الذي لا يُرد له أمر.

من خلال تلك المقاطعة أرادوا أن يجبروا العالم إلى الانصات إلى صوتهم الرافض لاستمرار العراق مريضا على سرير صُنع في إيران لا يملك الطبيب سوى أن يبقيه مربوطا بأجهزة صُنعت في أميركا من أجل أن تبقيه حيا لأهداف لا تتعلق بسلامة شعبه.

بهذا المعنى فإن العراق منذ أكثر من خمس عشرة سنة يعيش حالة موت سريري، عملت أجهزة الدعاية الأميركية والإيرانية على تضليل العالم في ما يتعلق بحقيقتها.

العراقيون يعرفون ذلك فهم وحدهم مَن يدفع الثمن.

لذلك قرروا هذه المرة أن يزنوا أصواتهم بميزان الذهب وهي الأصوات عينها التي سبق لهم أن أهدروها في مزاد رخيص جلب لهم النحس وسوء الطابع والكوابيس التي صارت تلاحق طريقة تفكيرهم في المستقبل.

في ظل تلك المقاطعة انكشفت حقيقة الكثير من السياسيين العراقيين الذين كانت تملأ سلالهم الانتخابية أصوات لم يكن أصحابها يشعرون بقيمتها، لذلك كانوا يهبونها بطريقة مجانية لأول شخص تقع أنظارهم عليه.

لقد هوت المقاطعة بهواة سياسة طائفيين إلى الحضيض وأخرجتهم من السباق الانتخابي بعد أن صدقوا أنهم قد تمكنوا من اللعبة السياسية بهراء ما كانوا يقولونه على الفضائيات من جمل طائفية مسمومة.

كانت المقاطعة ضرورية من أجل أن يعرف سياسيو الصدفة حجمهم الحقيقي. لقد سمحت المقاطعة لدعاة الدولة المدنية بالانفراد بصناديق الاقتراع. اما ما حصل عليه الحشد الشعبي من أصوات فإنها أتت من الخارج ومن مقاتلي الحشد (الخارج والتصويت الخاص). وهي معلومة لا يمكن أن تصرح بها مفوضية الانتخابات.

وكما أرى فإن المقاطعة هي التي جعلت الطريق سالكة أمام معارضي العملية السياسية الميتة للوصول إلى مجلس النواب.

ولإن معارضي العملية السياسية هم أنفسهم معارضو الهيمنة الإيرانية على العراق فإن ما ينتظره العراقيون منهم هو أشبه بولادة عراق جديد. صنيع بمثابة معجزة. ولكنها معجزة ممكنة الوقوع. فالعراق في حقيقته بلد ثري بشريا وماديا. وهو ما يؤهله دائما للانبعاث بشرط خروجه من النفق المظلم الذي أدخلته فيه العملية السياسية، وهو ما يعني أن العراق لن يبدأ عصر التغيير الحقيقي إلا إذا تخلص من نظام المحاصصة الطائفية الذي اعتقد أنه سيلفظ أنفاسه قريبا.  

سيكون واضحا بالنسبة لتحالف الكتل السياسية العابرة للطائفية أن المقاطعين الذين يسروا له الوصول إلى منطقة الحكم ينتظرون من ممثليه في مجلس النواب والحكومة أداءً وطنيا نزيها يكون في إمكانه أن يعوض العراقيين سنوات القهر الطائفي التي عاشوها في ظل حكم حزب الدعوة.

ما هو مهم هنا أن الحكومة التي ستتشكل بناء على توافقات برلمانية لن يكون في إمكانها أن تدعي أنها تمثل غالبية الشعب العراقي. سيكون شبح الغالبية التي قاطعت الانتخابات حاضرا في المشهد كما لو أنه رقيب.

فممثلو الشعب في مجلس النواب هم ممثلو أقلية. والحكومة هي الأخرى ستكون حكومة أقلية. وهو ما يمكن أن يؤدي إلى ولادة نوع جديد من العلاقة بين السياسيين والشعب، تقع الحكومة بموجبها تحت المساءلة التي قد يتم تأجيل التعبير عنها إلى الانتخابات القادمة.       

في سياق تلك العلاقة ستبدو الحكومة ضعيفة ولا يمكنها الادعاء بأنها تمثل الشعب العراقي وهو أمر غير مطلوب منها. المطلوب منها أن تستجيب لمطالب الشعب العراقي وتنهي معاناته على المستويات الاقتصادية والصحية والتعليمية والخدمية بما يضعها في خدمة الشعب لا عبئا عليه كما حدث في عهد حزب الدعوة المظلم.

السياسيون في الحكومة وفي مجلس النواب سيبقون ممثلي أقلية ما لم يثبتوا بأفعالهم أنهم يستحقون أن يتراجع المقاطعون عن مقاطعتهم. وذلك لن يحدث إلا بعد أن يتأكد العراقيون من أن أولئك السياسيين لن يكملوا ما بدأه أسلافهم من عمليات فساد قيدت الشعب بأصفاد من الفقر والجهل والمرض والانهيار الأخلاقي وأفقدت العراق سيادته وضيعت كرامته.