العراق شبهة وليس وطنا

كل ما وهبه العراق للعالم من خبرات فذة في مجالات العلم والثقافة صار هباء أمام الحثالة التي تحكمه الآن.

العراق يبتعد. في كل يوم جديد من أيام تعاسته يزداد رثاثة وتتعمق انهياراته وينفصل عن نفسه وأهله ومحيطه أكثر.

أيكفي أن نسأله "ما الذي فعلته بنا لكي نعلن عن ندمنا وغضبنا مشتبكين؟"

أيندم المرء على عراقيته وهي التي لم تكن من صنع يديه ولا خيار عقله؟ يُعاقب على ذنب لم يقترفه، جريمة لم يرتكبها تنتظره أشباحها في كل منعطف من منعطفات حياته.

يكفي أن تكون عراقيا لكي يكون حظك سيئاً.

يذهب العراقي إلى أقصى بقاع الأرض حاملا مثل سيزيف صخرة عراقيته التي كلما أراد الوصول بها إلى القمة ليتخلص منها تتدحرج لتعيده إلى نقطة الصفر. هناك حيث يقيم أحبته مكبلين بمرثيات جلجامش في وداع صديقه انكيدو.  لقد كُتب على العراقي أن يلتقي انكيدو في باب كل حانة يغادرها في طريقه إلى البيت.

كمَن يقضي عمره كله وهو يشوي على نار هادئة حطب عودته إلى بيته يمشي العراقي أعمى في ليل كله أمطار. لن أكون متشائما إذا ما قلت إن العراقي لا ماض له سوى ذكريات هي أشبه بالحجارة التي تسقطها طيور السماء على رؤوس الغزاة. يقضي العراقي عمره وهو يفكر في غزاة قلبه.   

أيصح الرثاء الذي يشبه الهجاء أم أنهما الشيء نفسه حين تحل اللعنة؟ 

لا ينفع أن أنظر إلى ما يجري في العراق بعيني المحلل السياسي فلا مكان للسياسة في المختبر العراقي.

ملعب الثيران، سوق الهرج، مقبرة النبلاء، مرجل الفساد، خان المنسيين، بلاد الملل التي تنتحر، مجزرة الضمائر، صرح الخيانة. كلها مسميات مخادعة لمكان محيت عنه بركة السماء وصارت الأرض تنفر منه بازدراء لا لشيء إلا لأنه المكان الفريد من نوعه من جهة غربته عن نفسه قبل غربته عن أهله.

متى لم يكن العراق مختبرا لكل مفردات الشقاء والتعاسة والنبذ والقسوة؟

يفخر العراقيون بعراقيتهم ممزوجة ببحيرات من النكد. فخر يذلهم بغرورهم المضحك الذي يذكر بمشية ممثلي السيرك على الحبال. إن وقع الممثل فلا أحد يحزن وما دام معلقا في الهواء فإنه يظل مبعثا للفكاهة المدهشة.

"أنا عندي من الأسى جبل" يقول شاعرهم الكبير الجواهري ويضيف "يتمشى معي وينتقل" وهو وصف عبقري للعراقي مهما اتسعت أمامه الدروب وبغض النظر عما يصل إليه من مواقع. فلكل عراقي مضيقه الذي يحمله معه أينما ذهب وهو ما يقف بين العراقيين وبين لحظة وفاق تجمعهم.

شتات العراقيين في وطنهم أكبر من شتاتهم في غربتهم.

أبهذا المعني يتعرف المرء على عراقيته؟

كل ما وهبه العراق للعالم من خبرات فذة في مجالات العلم والثقافة صار هباء أمام الحثالة التي تحكمه الآن. في بريطانيا وحدها هناك الاف الأطباء من أصل عراقي فيما يعاني العراق من شلل في القطع الصحي. يدير عراقيون مؤسسات إعلامية في العالم العربي في الوقت الذي يحتفي فيه اتحاد الادباء في العراق بأحد رموز الإرهاب. خبراء نفط عراقيون يديرون كبرى الشركات النفطية في العالم فيما يدير شؤون النفط في العراق لصوص الأحزاب الدينية.

لا أعتقد أن بلدا أذل مواطنيه بالطريقة التي فعلها العراق.

غالبا أو مغلوبا لم يكن العراق وطنا حقيقياً.

كان الانتظار كذبة. نحسد الغرباء العرب من أمثالنا لأنهم يعودون إلى أوطانهم. تلك أوطان سيئة كما نعرفها غير أنها ليست كالعراق. ما هذا العراق إذن؟

صعب على المرء أن يرثي وطنه. من اليسير أن يهجوه.

وهو ما يجربه العراقي في كل لحظة عيش. فبلد ثري لا يشعر بعار الفقر الذي يجلل الملايين من مواطنيه هو بلد يستحق الهجاء.

هناك خطأ في جينات ذلك الوطن. أهذا ما ينتظره الفاسدون؟

فلكي تكون عراقيا عليك أن تكون فاسدا أولاً. خطيئة أن تكون عراقيا لا تكفي.

وهكذا يكون العراق شبهة وليس وطنا.