العراق.. هذا أوان الطقوس
بقلم: فراس مصطفى
وفقا للمنظور الديني، فإن الطقوس تعد جزءا لا يتجزأ من الفكرة الروحية للأديان ومن حياة المؤمن، وأركز على مصطلح المؤمن لأنه ليس بالضرورة أن يكون كل من ولد على دين ما قد أمن به إيمانا راسخا، إنما هو تحصيل حاصل، فمن يولد في عائلة مسلمة يصبح مسلما ومن ولد لعائلة مسيحية صار مسيحيا ومن ولد لعائلة تبتية صار بوذيا وهكذا لباقي الأديان، لكن السؤال المهم, كم منهم يؤمن بالدين أو العقيدة التي ورثها؟
في كل الكتب السماوية وغير السماوية تجد آيات وسور وأحاديث، تدعو إلى إعانة المحتاج وإطعام الجائع وكسوة العريان، خصوصا في الظروف الصعبة التي تتخللها أو تعقبها مجاعات كالأوبئة الفتاكة والحروب والكوارث الطبيعية، فجميع تلك الظروف تخلق حالة من الفوضى وتتسبب بنقص الغلة وشح الطعام وأول المتضررين منها هم الفقراء لاسيما وأنها غالبا ما تكون مفاجئة ومباغتة.
قبل عدة سنوات تم تداول فيديو لرجل بسيط يمشي إلى كربلاء لأحياء ذكرى زيارة الأربعين، أستوقفه أحد الإعلاميين وسأله عما أعجبه من خدمات في هذه الزيارة فأجاب بعفوية تامة "كل الخدمات ممتازة لكن الكباب قليل، وأتمنى أن أجد من يوزع الكباب لأنني أعشق الكباب"، لا أعرف شيئا عن هذا الرجل ولا علم لي بخلفيته الثقافية، لكن إجابته تنم عن حرمان وفقر كبيرين، فهو يتغزل بالكباب رغم أنه أرخص الأطباق الشعبية العراقية إذا ما قورن بالكافيار النادر الذي لا يأكله إلا المليارديرات.
كم لدينا اليوم مثل هذا الرجل المسحوق نتيجة البؤس الذي يعيشه العراقي منذ عقود بسبب الحروب والصراعات والفساد على أعلى المستويات؟ وكم هناك من يحلم أن يكون في صحنه قطعة لحم؟ وكم هناك ممن يقصد الزيارة أو غيرها ليجد ضالته في تذوق ما حرم منه؟ خصوصا وأن ذلك لا يعد عيبا في موروثنا الشعبي، بل أجرا يحصل عليه في الاخرة، انطلاقا من المثل الشائع (زيارة وتسيارة)، فهي فرصة مزدوجة الفائدة لمن يقصد الزيارة، إقامة الشعائر وأداء الطقوس من جهة، ومن جهة أخرى الترفيه عن النفس، ومن أهم وسائل الترفيه عن النفس هي تذوق الطعام، فكيف إذا كانت جميع الصنوف متاحة ومجانية؟
رغم أن الدين الإسلامي قد ربط الأجر والثواب بأداء بعض العبادات كالحج والصيام والمحددة أصلا بأشهر معينة من السنة الهجرية وكذلك ربطتهما بعض المذاهب الإسلامية كالمذهب الشيعي بطقوس تقام بتواريخ وأشهر معينة أيضا كواقعة عاشوراء وليلة النصف من شعبان وغيرها، إلا أن الدين والمذاهب كافة لم تمنع استمرار المؤمن بأداء العبادات والطقوس في أي وقت من السنة خصوصا وان الغاية منها هي التقرب إلى الله لكنها أكدت على أن الأجر والثواب قد يتضاعفان أضعافا مضاعفة أن قدمهما المؤمن في ظروف معينة كتلك التي ذكرها الله في سورة البلد "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ* أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ* عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَة حيث جعلها الله عقبة كبيرة وضعت المؤمن عند مفترق طرق بين الجنة والنار.
نظراً لما يمر به البلد اليوم من تحديات جمة نتيجة لتفشي وباء كورونا الفتاك وانهيار اقتصاده وهبوط أسعار النفط، وما قد تخلفه تلك الأحداث من كوارث إنسانية أهمها المجاعة فقد صار لزاما على كل من ينصب الخيام ويعد الموائد الفاخرة ويتباهى بصرف مئات الملايين من الدولارات لإطعام الزائرين، غنيهم و فقيرهم، أن يعد العدة اليوم وفي هذا الظرف العصيب ليطعم من لا يجد قوت يومه وهو أثوب له من أن ينتظر دوران الحول حتى يقيم طقوس الزيارة وفي وقت قد لا تحقق فيه أية نتائج روحانية أو أي أجر أو ثواب مثلما تحققه في هذا الوقت لاسيما وأنه لا يختلف اثنان على إن العبادات والطقوس لا تتحدد أو تتقيد بزمان و مكان معينين طالما أن الغاية منها التقرب إلى الله، والله في نظر المؤمن موجود في كل زمان ومكان، فهذا هو يوم المسغبة وهذا أوان العبادات والطقوس.
هذا هو الوقت الفعلي لمن يبحث عن الأجر والثواب وهنا يتجلى الإيمان الحقيقي لا الرياء الذي يتبارى فيه أولئك الذين يتسابقون في تسطير أكبر عدد من القدور في الشوارع أو توزيع أكبر كمية من الطعام في وقت طبيعي لا مجاعة فيه نتيجة لكارثة طبيعية أو حرب أو وباء فتاك كي يجعلوا منها قصة يتحدث بها الناس ظنا منهم أنهم تقربوا بذلك إلى الله أكثر من غيرهم، فكل تلك الطقوس لا قيمة لها إن لم تكن في وقتها الواقعي والفعلي لا وقتها المرتبط بتواريخ محددة وأشهر معينة من السنة.