العراق ولبنان.. السأم من التلاعب الإيراني بالحكومتين

 بعد مضي ستة عشر عاماً لزم قيام النظام الإيراني بالاغتصاب المنهجي للمؤسسات العراقية  بالإضافة إلى انسحاب إدارة أوباما من البلاد قبل الأوان لتنشيط الاحتجاجات الحالية التي تحمل في ذروتها الرمزية فكرة المواطنة.

بقلم: آدم غار فنكل

تثير الاضطرابات الأخيرة في لبنان والعراق اهتماماً شديداً، وربما تكون طلائع مهمة للغاية لمستقبل أفضل لهذين البلدين والمنطقة بأسرها. وعلى الرغم من اختلاف السياقات وتبعيات المسار التاريخي: فإن للمظاهرات في لبنان والعراق ثلاث خصائص مشتركة:

أولاً: أنها مناهضة للطائفية ومؤيدة للاندماج من الناحية الوطنية. وتجدر الإشارة إلى أن التطلّع في هاتين الحالتين إلى القومية الحديثة ليس ارتدادياً. فالقومية تقدّمية مقارنة بالإقطاعية الوراثية شبه الاتحادية في لبنان. بل هي أكثر تقدّمية مقارنة بالقبلية السابقة لفبر (Weber) في العراق. ولو لم تفرز أي من هاتين القوميتين ما يعتبره الغربيون قيمًا ليبرالية، فإنهما تشكّلان مع ذلك تقدّماً نسبياً. ومن المؤسف أن هذه الأشياء نسبية حقاً لا شاملة. لكن رفض الحركتين الاحتجاجيتين لسياسة الهوية الضيقة بداية جيدة باتجاه مشروع ليبرالي، لأنه يتعارض مباشرة مع النبض الشعبوي الأهلي في العديد من الدول الغربية في الوقت الحاضر.

ثانياً: تحدّد حركتا الاحتجاج جهة فاعلة خارجية، النظام الإيراني، بوصفها مصدراً لشكواهما. وفي كلتا الحالتين، يحدث الشباب الشيعة تحديداً، تأثيراً مهمًّا ردًّا على القوى الشيعية الرجعية الخاضعة للتأثيرات الخارجية، والحكومة نفسها في بغداد (وثّقها جيداً مستطلع الآراء العراقية منقذ داغر) وحزب الله في لبنان. ويوضح ذلك، كما أكّدت في سبتمبر (أيلول) 2014.

ثالثاً: أن كليهما أكثر تطوّراً في المنهجية من أسلافهما قبل تسع سنوات. ويعبّر هذا التطوّر الكبير عن نفسه بعدة طرق، لكن جوهره رفض توهّم تحقيق نتائج لفورية وعقلية المجموع الصفري. دعونا الآن نلقِ نظرة قريبة وعميقة على الحالتين.

القول بأنك مواطن لبناني فوق كونك سنيًّا أو شيعيًّا أو مارونيًّا يعني أن التعاون يمكن أن يحقّق أكثر من مجموع الأجزاء. إنه تحوّل نحن ضدّ هم وهم إلى نحن معاً مع هم وهم. إنها فكرة ثورية في السياق اللبناني، وهذه الفكرة هي ما تثير الاحتجاجات الحالية. لكن تحويل هذه الفكرة إلى واقع ثوري أمر آخر.

الحالة العراقية مختلفة ومتشابهة في آن معاً. مشابهة قبل كل شيء، لأنها ترفض عقلية المجموع الصفري. وليست سنّة ضدّ الشيعة وعرباً ضدّ أكراد، بل عراقيون بعضهم مع بعض. وقد أشار إلى هذه النقطة بوضوح سنة 2015 كوميدي عراقي يسمّي نفسه البشير. في أثناء بث برنامج “البشير شو” على التلفزيون العراقي، سخر البشير من العراقيين المشغولين برسم خرائط مواجهة مع خطوط ومناطق مرسومة من حولهم بعرض خريطة خضراء للعراق تحمل اسم “100% عراقية”. هتف الجمهور موافقاً. ولم تكن تلك المرة الأولى التي تصبح فيها النكتة السياسية الموجة المتقدّمة لحقيقة جديدة.

توجد تلك الخريطة الآن في الشارع، في قلوب وأفواه الشبّان العراقيين الذين سئموا من رجال الدين الإيرانيين الذين يتلاعبون بحكومتهم، بل سئموا أكثر من الميليشيات المسلحة الإيرانية التي تنهب البلد مثل عصابات المجرمين.

بعد مضي ستة عشر عاماً، لزم قيام النظام الإيراني بالاغتصاب المنهجي للمؤسسات العراقية الضعيفة في أعقاب النظام البعثي، بالإضافة إلى انسحاب إدارة أوباما من البلاد قبل الأوان، لتنشيط الاحتجاجات الحالية. وخلافاً لما حدث في لبنان، حيث قُتل متظاهر واحد حتى الآن، فإن الدم أريق بغزارة في شوارع العراق، أكثر من (325) قتيلاً حتى كتابة هذه السطور، و(15,000) جريح –أصابت الشرطة العديد منهم– في نحو ستة أسابيع. وذكرت صحيفة “ديلي صباح” (إسطنبول) في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) أن أحد المتظاهرين أحضر أسداً ملفوفاً بالعلم العراقي إلى الاحتجاج، كما لو أنه يقول: “لدينا أسود”.

هكذا لا تُظهر الاحتجاجات أي علامة على التراجع، خاصة وأن علي السيستاني قدّم الدعم للاحتجاج. وقد اتخذ الوضع في بغداد بعض خصائص الحرب في المدن، إذ يناور الجانبان لحماية قطاعات حضرية محدّدة والتقدّم نحوها. ويعتصم رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي في المنطقة الخضراء رافضاً الضغوط التي تدعوه إلى التنحي، لكن وقته بدأ ينفد. وليس هناك شك في سمة الاحتجاجات الصريحة المناهضة لإيران، إذ هاجم المتظاهرون القنصلية الإيرانية في كربلاء، أو في كل الأماكن.

تشتدّ حركات الاحتجاج بسبب الغضب المحقّ، لكنها لا تنجح إلا عندما تتغلّب مستويات وأشكال من الثقة الاجتماعية الجديدة على شكوك الماضي واستياءاته. ومن المفيد أن العاطفة تزيد من حدّة الغضب المحقّ، إذ لو هدأ الناس ومنحوا الوقت الكافي لتقييم ظروفهم تقييماً موضوعيًّا، لعاد معظمهم أدراجه على الأرجح وتوجّه إلى المنزل.

أدت هذه الاحتجاجات، التي تلت الاحتجاجات في الجزائر والسودان، إلى تقدّم الثورة إلى حيث تحظى بأكبر قدر من الأهمية، أي إلى قلوب الناس وعقولهم. لذا من المحتّم أن تنجح في نهاية المطاف. لكن ما يبعث على الحزن أن ذلك يمكن أن يستغرق طويلاً!

ملخص المنشور في مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي

"الاحتجاج ومخاطره ووعوده: الانتفاضتان اللبنانية والعراقية"