العراق ولبنان اليوم: حيث أسئلة المستقبل

في العراق عداء المتظاهرين لإيران شديد الحدة في لبنان الأمر مختلف لكن لا أحد جاهل بالتأثير الإيراني عبر حزب الله ناهيك عما جرى في سوريا فهل من مصلحة إيران الوقوف حجر عثرة أمام مشاريع هويات جامعةٍ تولد؟

بقلم: سامر القرنشاوي

ككل لحظة ٍثورية يعرف من في الشارع في العراق ولبنان ما يرفضون، لكن ما يطلبون يبقى قيد التشكل، حتى وإن اتضحت بعض ملامحه. وضع مقلق لكن ليس سيئاً، فحسب الحكمة المعروفة: “نصف العلم حسنُ السؤال”، والأسئلة هنا لا تخص البلدين وحدهما.

في الحالة العراقية، بعد ستة عشر عاماً من الغزو الأمريكي، و سقوط صدام حسين، وصراعاتٍ ضروس ومئات الآلاف من القتلى والمهجرين، لا يبدوا أن أوضاع جُل العراقيين أصبحت أفضل، بل حديثُ الفساد هنا، في بلدٍ يمتلك أحد أكبر احتياطيات النفط في العالم، صدىً لما نسمع عن فسادِ ساسة لبنان وزعماء طوائفه، علماً أن التدهور في حيوات الناس لا يقف عند افتقاد الخدمات الأساسية، ولا حتى الفقر والبطالة، بل يصل إلى ميليشياتٍ “مجهولة” تقتل وتخطف كما لو أن شيئاً لم يتغير عبر العقد والنصف الماضيين. بديهي إذاً أن يكفر العراقيون بما هو قائم. وإن كان من علاج في حكومة “شيعية” ممن اضُطهدوا في عهد صدام (الذي لم توفر ديكتاتوريته أحداً)، فإن أكثر من ثلاثمائة قد قتلوا في شوارع بغداد وكربلاء وغيرها على يد حكومة “شيعية” مدعومة من الجمهورية الإسلامية في إيران خلال الأسابيع الماضية (بتوجيهاتِ إيرانية حسب روايات تتناقلها وسائل إعلام). إن كان للهوية الطائفية من وزن باقٍ في العراق، فدماء هؤلاء الشهداء أثقل بما لا يقاس. في لبنان لا يشكك أحدٌ، علانيةً على الأقل، في تاريخ “مقاومة” حزب الله.

لكن إن دخل الحزب شريكاً مع، ومن ثم غطاء على، طبقة سياسية فاسدة، من داخل وخارج “طائفته” الشيعية، في وقتٍ تعاني البلاد فيه أزمة اقتصادية طاحنة، فلابد أن يواجه العواقب. أما رد فعل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية تجاه أحداث العراق ولبنان فكرر ما سمعناه مراراً في طول وعرض المنطقة عن كل حراكٍ يطالب بأساسيات الحياة: مؤامرة خارجية. ما أسهل وضع اللوم على “أحدهم”، بعيداً عنا، وما أيسر تجاهل أسباب نجاح المؤامرة المزعومة، إن وجدت، والتعامي عن خصوبة التربة التي تلقفت بذرتها، منطقٌ لا مكان فيه لمعاناة العراقيين أو اللبنانيين، وإنكارٌ لواقع فقدت فيه شعاراتٍ وعقائد وعواطف كانت يوماً رأسمال سياسي فعّال قيمتها.

لكن أزمة تياراتٍ محسوبة على الإسلام السياسي الشيعي في البلدين تذهب أبعد. في الخطاب الرسمي الإيراني، العداء للولايات المتحدة وإسرائيل والصراع الذي لا ينتهي مع “الاستكبار العالمي” محوري، ومع ذلك ادعاءُ الزعامة الإسلامية. مما تسمعه من ألقاب يوصف بها السيد الخامنئي في دوائر حزب الله في لبنان: “ولي أمر المسلمين”. الدلالة الشيعية واضحة، فالرجل هو الولي الفقيه، ممثل الامام الغائب المعصوم على الأرض حسب المنطق الذي أسس عليه الخميني الراحل جمهوريته الإسلامية (منطق خلافي بين علماء الشيعة أنفسهم، ولكنه يبقى قابضاً على السلطة في طهران).

في حالة لبنان ارتبط الولي الفقيه بحزب الله ومقاومته التي أعلنت منذ ميلادها أنها تسعى لإبقاء البلد ساحة لصراعات المبادئ التي تخوضها طهران (حسب البيان الذي أعلن رسمياً ولادة الحزب عام 1985). سرعان ما أصبح اسم الحزب مقترناً بالمقاومة لإسرائيل، لا يستطيع أحد إنكار بطولاته وتضحياته في هذا المضمار. بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، بدأ الحديث يتصاعد عن مشروعية هذا السلاح خارج الدولة اللبنانية، لكن النظام السوري، الحاكم الفعلي للبنان آنذاك، وإيران كان لهما رأي آخر، علماً ان ذكرى تحالف قوىٍ من اليمين المسيحي اللبناني مع إسرائيل خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) كانت قريبة، كما ذكرى الاحتلال وجرائمه.

بعد خروج سوريا من لبنان بُعيد اغتيال الحريري (الذي اتهم به النظام السوري أولاً ثم حزب الله لاحقاً)، قدم اختطاف حزب الله لجنود إسرائيليين في صيف 2006 عذراً لهجوم وحشي على لبنان. ادعى حزب الله الحرب نصراً إلهياً، رغم التكلفة البشرية والمادية الهائلة. في 2008 دخل الحزب حرباً أهلية قصيرة خرج منها اللاعب السياسي الأقوى بلبنان، ثم في 2013 دخل طرفاً فاعلاً في الحرب الأهلية السورية دعماً لحكم آل الأسد، ودفاعاً، حسبما أعلن، عن المقدسات الشيعية في سوريا ضد السلفيين الجهاديين السنة. خلال كل مرحلةٍ من هذا التاريخ كان الإجماع اللبناني حول حزب الله يقل قليلاً أو كثيراً، وفي الأسابيع الأخيرة خرج بعض جمهوره ضد تحالفه السياسي كما رأينا.

التحالف مع الفساد كفيلٌ بتسويد بياض صفحة أي مقاومة لأي احتلال، فما بالك إن كانت “المقاومة” محل خلافٍ متزايد؟ وبينما على كل عاقل أن يتفهم الخوف عموماً، والخوف الشيعي خصوصاً، من تمدد السلفيين الجهاديين في سوريا، ألم يكن هناك بديل عن نظام آل الأسد؟ ألم يكن ممكناً الوصول إلى حلٍ وسط مع الشعب السوري الذي عانى الأمرّين من حكامه؟ لكن هذه أسئلة مع الأسف لا نملك ترف التفكير فيها اليوم، لكن أخرى تفرض نفسها علينا الآن فرضاً. الأصل بالنسبة للبنان وأهله أن “المقاومة” لإسرائيل، لكن هل المقاومة طريقةٌ واحدة؟ وإن كانت حصراً مسلحة، ما الحكمة فيها بمنطق الدولة إن لم يكن للدولةِ قرار يحكمها أو يحميها (أي الدولة) من تبعات ما تقرره المقاومة منفردةً، كما رأينا في 2006؟ من الظلم لإنسانيتنا أن نتخلى عن حقوق الفلسطينيين السليبة.

 لكن من الظلم لفلسطين وحقوق أبنائها أن يكونوا أساساً لسلب حقوق الآخرين، كما سمعنا مراراً في هذه المنطقة عبر العقود الماضية. وهل السلاح دوماً فعال ضد عدو قدراته التدميرية بحجم إسرائيل؟ هل الغرض من دخول أي مواجهة مسلحة هو الفوز الواضح أم الانتحار الجماعي؟  أليس من وسائل سلمية كثيرة يُلجأ أليها؟ هل لراديكالية العداء للصهيونية (التي في رأيي يجب الالتزام بها) صورة واحدة فقط؟ أضف إلى ذلك كله أن ما يجري في لبنان اليوم هو تحديداً السعي نحو كيان وطني، بناء سياسي جامع، كيف يستقيم ذلك مع سلاح تحت سيطرة دولة أخرى؟  خاصة إن اقتصر السلاح على أتباع طائفة واحدة؟ هذه أسئلة تلمسُ الآن النفوذ الإيراني في لبنان، لكنها، هي أيضاً، تذهبُ أبعد منه.

من ناحية، في العراق ولبنان قاعدة النفوذ الإيراني ولاء بعض شيعة البلدين، أي أن الأساس هنا التركيبة الطائفية القائمة التي تقف حائلاً دون ولادة مشروع وطني جامع، من ناحية أخرى، لا بد أن يؤدي ذلك إلى النظر بعين الريبة أحياناً، إلى الشيعي المخالف ناهيك عن غير الشيعي (علماً أن ولاية الفقيه فكرة خلافية بين الشيعة كما أسلفنا). أي سعي للمواطنة الجامعة لا بد أن يتناقض مع النفوذ الإيراني هذا، لكن مرة أخرى الأسئلة هنا تذهب أبعد مما نرى في العراق ولبنان. الوطن والمواطنة مفاهيم علمانية، الأصل فيهما أنهما للجميع دون تمييز، ما رأينا في العراق من حكم تيارات مختلفة محسوبة على الإسلام السياسي الشيعي متهم بالتمييز ضد السنة، إلى مستوياتٍ وصُفت أحياناً بالجرائم، أما في إيران فيصعب الحديث عن مواطنة يتساوى فيها الشيعي وغير الشيعي. علماً أن تجربة الإسلام السياسي السني حيثما اتيحت له الفرصة ليست أفضل (مثلاً لا حصراً، مشهد مؤتمر “نصرة سوريا” الكارثي في مصر عام 2013 بحضور الرئيس الإخواني المنتخب وما حواه من سباب وتحريض على الشيعة وتكفير للمخالفين سياسياً، وإسلاميو المشهد السوري، و”داعش”… وغيرهم).

هل هناك إسلام سياسي غير طائفي؟ أليس نقيضاً للتعددية والديمقراطية المقترنين بالعلمانية كيفما عرفّناها؟  أضف إلى ذلك أن أي تركيبة سياسية طائفية ليس لها أن تدعي التوافق مع الديمقراطية إلا حيث تناقصها، فتعريف الزعامات والولاءات دينياً وعرقياً يعني حتما تغليب المحاصصة والهويات التي تقوم عليها على حرية الاختيار والكفاءة، ناهيك عن عرقلة المسائلة وتقديم كرامة الطائفة على محاسبة رموزها كما يشهد لبنان. لذلك كله يطالب متظاهرون لبنانيون بالعلمانية صراحةً، بالفصل الكاملِ بين الدين والدولة، لا يسمونها “مدنية” توقياً أو مداراةً. العراقيون إن أرادوا وطناً جامعاً لهم جميعاً، سائرون حتماً في هذا الاتجاه أيضاً، توجه لن تعارضه مؤسسة الولي الفقيه فقط، بل مراجع النجف الأشرف ذوي النفوذ أيضاً. وعاجلاً أم آجلاً سنجبر جميعاً على المطلب نفسه، فمن غير المرجح في منطقتنا هذه أن يتوقف توظيف الهوية الدينية في السياسة طوعاً، لا فقط من الإسلام السياسي أو التركيبات الطائفية القائمة، بل أيضا من أنظمةٍ تدعي العداء الوجودي للإسلام السياسي لكنها تستخدم الدين قاعدةً أساسية لشرعيتها.

من طريف التناقضات هنا أن النفوذ الإيراني يرتكز على شرعيةٍ سياسيةٍ منتسبة للإسلام، لكن إيران، حكمها الشاه أو الولي الفقيه، تملك من مقومات ومنطق الدولة -الأمة أكثر بكثير من غيرها، ولا مقارنة هنا بهشاشة الدولة القومية حيث مناطق النفوذ الإيراني في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن.

في العراق عداء المتظاهرين لإيران، بما في ذلك من قلب كربلاء، شديد الحدة، تختلف الصورة في لبنان، لكن لا أحد جاهل بالتأثير الإيراني عبر حزب الله، ناهيك عما جرى في سوريا. هل من مصلحة إيران، أن تقف حجر عثرة أمام مشاريع قومية وهويات جامعةٍ تولد؟ أو أن تُتهمَ بحماية الفساد، أو بما هو أسوأ بكثير كما في العراق، بالمسئولية عن مقتل مئات المتظاهرين العُزل؟ لكن مرة أخرى السؤال هنا يذهب أبعد من أزمة النفوذُ الإيراني. المشروع السياسي الإيراني لا يعبر الحدود فقط كنفوذ دولة، لكن كوحدة مفترضة تجمعها عقيدة الولاء للولي الفقيه. في صيغ تتراوح بين السلطوية والشمولية، لا يختلف ذلك كثيراً عن إصرار الإسلام السياسي السني على إحياء “الخلافة”، ولا عن تطلعات الوحدة العربية سابقاً في هذا الجزء من العالم تحت سطوة هذا “الزعيم” (الدكتاتور حكماً) أو ذاك. علاقة كل هذه “الوحدويات” مع الديموقراطية والمواطنة سلبية حتى الآن على الأقل، فماذا يبقى منها في وجه السعي للحقوق والحريات؟ ترى، هل لهذه المشاريع أن تولد في صيغٍ جديدة تنبثق من جرأة طرح أسئلة قلما سمعنا سلفاً؟ وهل من المنطقي اليوم الحديث عن مشاريع عابرة لحدود دول تكافحُ لتكون أمماً؟ أسئلة كثيرة أخرى لا بد آتية، تنم كلها عن واقع تأخر تغييره، وعن شكوكٍ مشروعة بمقدساتٍ عفا عليها الزمن. من رحم ذلك كله، نتاجاً لما بدأ في تونس قبل تسعة أعوام، نعيش مخاض ثقافة سياسية مختلفة، بل وربما، على عكس ما عرفنا سابقاً، ولادة هويات وروابط جديدة، داخل حدود بلادنا وعبرها، تقدس الحرية والحياة.

نُشر في صفحة درج اللبنانية