العراق يحاول طي أزمة المحكمة الاتحادية العليا بترشيح قاض لرئاستها
بغداد - أعلن مجلس القضاء الأعلى الأحد عن ترشيح قاضٍ جديد لرئاسة المحكمة الاتحادية العليا، بعد إحالة الرئيس الحالي القاضي جاسم محمد عبود العميري على التقاعد لأسباب صحية، وذلك في مسعى لحل الأزمة التي بدأت باستقالات في أعلى سلطة قضائية في العراق، والتي تشكل تهديدا لاستقرار النظام القانوني والسياسي، وتبرز بشكل جلي تأثير التدخلات السياسية على استقلال القضاء.
وذكر إعلام القضاء في بيان أن "اللجنة المنصوص عليها في المادة (3 / أولاً وثانياً) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 المعدل، اجتمعت ووافقت على إحالة رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي العميري على التقاعد لأسباب صحية، وترشيح نائب رئيس محكمة التمييز الاتحادية القاضي منذر إبراهيم حسين بدلاً عنه، حيث تمت مفاتحة رئيس الجمهورية لإصدار المرسوم الجمهوري بالتعيين".
والقاضي منذر إبراهيم حسين من مواليد بغداد 1963، حاصل على شهادة القانون من كلية القانون في جامعة بغداد سنة 1989، وتخرج من المعهد القضائي سنة 1998 وعمل في محكمة التمييز الاتحادية منذ عام 2018، ويشغل حالياً منصب نائب رئيس محكمة التمييز الاتحادية ورئيس الهيئة الجزائية فيها وعضواً احتياطاً في المحكمة الاتحادية العليا.
وتأتي هذه التطورات في سياق أزمة غير مسبوقة داخل المحكمة الاتحادية العليا نفسها، تمثلت في استقالات جماعية لتسعة من أعضائها الأسبوع الماضي، بينهم ستة أعضاء رئيسيين وثلاثة احتياط، وذلك قبيل ساعات من انعقاد جلسة حاسمة كانت مقررة للبت في ملفين شائكين: ملف قطع رواتب موظفي إقليم كردستان من قبل الحكومة الاتحادية، وملف خور عبدالله الحدودي الحساس.
وتشير العديد من التقارير إلى أن استقالات القضاة، بما في ذلك رئيس المحكمة، قد تكون نتيجة لـضغوط وتدخلات سياسية. وحتى لو كانت الإحالة للتقاعد بسبب "أسباب صحية"، فإن توقيتها في خضم هذه الاستقالات يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هذه "الأسباب الصحية" مرتبطة بطريقة أو بأخرى بالضغط السياسي أو الإحباط من الوضع.
ورجح متابعون أن الاستقالة تراوحت أسبابها بين الاحتجاج على التدخلات السياسية، وتدخلات محكمة التمييز الاتحادية التي يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان.
ونقلت شبكة "رووداو" الكردية العراقية عن عضو في المحكمة الاتحادية العليا، رفض الكشف عن اسمه، قوله أن رئيس المحكمة قدّم الأحد رسميا طلبا لإحالته على التقاعد، وليس استقالة كما تداولت بعض وسائل الإعلام.
وكانت تقارير إعلامية قد ذكرت في وقت سابق أن العميري قدم استقالته بعد خلافات مع أعضاء في المحكمة، وأن قبول استقالته قد يمهد لتغييرات عميقة في الجهاز القضائي العراقي.
ورفض رئيس الجمهورية العراقية عبداللطيف جمال رشيد، الأحد الماضي طلبا كان تقدم به العميري، ويتضمن دعوة ائتلاف "إدارة الدولة" الذي يضم جميع القوى السياسية المشاركة في الحكومة إلى حل "أزمة القضاء" الناجمة عن النزاع المتفاقم بين المحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز الاتحادية.
والرفض الثاني من نوعه في غضون أيام قليلة، بعد رفض مماثل صدر عن رئيس البرلمان محمود المشهداني لعقد اجتماع تحضره الرئاسات وجميع أعضاء ائتلاف إدارة الدولة لفض النزاع القضائي.
وانشأت المحكمة الاتحادية العليا، في عام 2005، ومقرها بغداد، وتتألف من رئيس وثمانية أعضاء، تختص بالفصل في النزاعات الدستورية وتعتبر قراراتها باتّة وملزمة للسلطات كافة.
ورغم أنها يفترض أن تكون مستقلة وفق الدستور العراقي، إلا أن الأحزاب النافذة تناوبت على طرح أسماء قضاة يمثلونها، حيث لا يوجد قانون يمنع عنها التأثيرات السياسية، ما يدفع سياسيين بين فترة وأخرى إلى المطالبة بتشريع قانونها الخاص.
وتأتي هذه التطورات وسط تصاعد الخلافات السياسية والقانونية بين العراق والكويت بشأن ملف خور عبدالله، وما ترتب عليه من تداعيات إقليمية وحكومية، ما ينذر بأزمة دستورية وقضائية جديدة داخل مؤسسات الدولة العراقية.
وكانت المحكمة الاتحادية العليا قد أقرت في الرابع من سبتمبر 2023 بعدم دستورية القانون 42 لسنة 2013 الخاص بتصديق الاتفاقية، لمخالفة أحكام المادة (61 / رابعاً) من الدستور التي نصت على ضرورة تصديق المعاهدات بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
في سياق متصل، أكد رئيس المحكمة الاتحادية العليا، القاضي جاسم محمد عبود العميري، خلال لقائه رئيس الجمهورية في منتصف يونيو/حزيران، على ضرورة إيجاد حل نهائي لصرف المستحقات المالية لموظفي إقليم كردستان. غير أن أزمة الاستقالات داخل المحكمة قد يعيق ذلك، بحسب مراقبين وسياسيين.
وتُظهر الأزمة التي تضرب المحكمة الاتحادية العليا، والتي تُعد الركيزة الأساسية للنظام القضائي والدستوري في العراق، مدى الهشاشة التي تعتري مؤسسات الدولة في ظل الصراعات السياسية المتواصلة.
وغياب الاستقرار القضائي، والشكوك حول استقلالية أهم هيئة قضائية، لا يؤثر فقط على قضايا مصيرية كرواتب الموظفين والملفات الحدودية، بل يهدد بتقويض الثقة في النظام القانوني بأكمله، ويفتح الباب أمام تعقيدات دستورية عميقة قد تزيد من اضطراب المشهد السياسي العراقي المتقلب أصلاً. ويبقى مصير المحكمة واستقلاليتها محط ترقب، فقدرتها على تجاوز هذه الأزمة ستحدد إلى حد كبير مستقبل الاستقرار القانوني والسياسي للبلاد.