العسكر والتغيير في الجزائر

هل تساهم المؤسسة العسكرية في التغيير ام تبقي الجزائر تحت رحمة أسعار النفط والغاز؟

دخلت المؤسسة العسكرية الجزائرية على الخط. تبيّن ان عبدالعزير بوتفليقة لم يستطع وضع حدّ لدورها وانّ هذه المؤسسة ما زالت العمود الفقري للنظام القائم في الجزائر. هل يستمرّ النظام على هذه الحال ام ان تغييرا كبيرا يمكن ان يحصل، وان تدريجا، بعدما بدأ الجزائريون يبحثون عن الامل. لا يريد الذين نزلوا الى الشارع وحالوا دون الولاية الرئاسية الخامسة لرجل مقعد لا يستطيع الكلام منذ العام 2013 التخلّص فقط من عبدالعزيز بوتفليقة والمجموعة المحيطة به التي حكمت البلد منذ العام 2013. كان الناس العاديون يبحثون في واقع الحال عن التغيير والانتقال بالجزائر الى مرحلة أخرى مختلفة. هذا ما لم يستطع عبدالعزيز بوتفليقة عمله بعدما تمسّك بالكرسي ثمّ وُجد من يمسّك عبره بالسلطة.

كانت المؤسسة العسكرية وراء إيصال عبدالعزيز بوتفليقة الى الرئاسة في العام 1999. كانت قبل ذلك وراء منعه من ان يكون خليفة هواري بومدين في العام 1979. ما زالت المؤسسة العسكرية الجزائرية، وليدة النظام الذي اسّسه هواري بومدين في مرحلة ما بعد الاستقلال في العام 1962، تحكم الجزائر.

حاول بوتفليقة الانتهاء من المؤسسة العسكرية وتطويعها. نجح جزئيا في ذلك، خصوصا عندما عزل الجنرال محمد لعماري رئيس الأركان في العام 2004 في مطلع ولايته الرئاسية الثانية. كسر شيئا فشيئا شوكة الجيش. ازاح المحيطون به في العام 2015 الجنرال محمد مدين (توفيق) ا لذي كان يتحكّم بالجزائر والجزائريين من منطلق انّه كان المسؤول عن جهاز المخابرات العسكرية. كان "توفيق" الرجل القوي في الجزائر، خصوصا انّ لديه كل الملفّات الخاصة بالشخصيات النافذة. كان الرجل الصامت والغامض الذي لا صورة له سوى صورة وحيدة في استقبال ضيف كبير. لم يوجد من يتحقق من ان تلك الصورة كانت صورة حقيقية لـ"توفيق" ام انها صورة لشخص آخر.

كانت إزاحة "توفيق" نقطة تحوّل. امكن التخلص من الرجل في مرحلة صار فيها عبدالعزيز بوتفليقة مقعدا. كان معنى ذلك ان الذين باتوا يتحكمون بالسلطة مكانه صاروا قادرين على كلّ شيء بما في ذلك ممارسة كلّ الصلاحيات الرئاسية وصولا الى ترشيح مقعد لولاية خامسة. ذهب هؤلاء، على رأسهم شقيق الرئيس، ويدعى سعيد، الى النهاية في لعبتهم. لم يدركوا ان المؤسسة العسكرية ما زالت حاضرة وانّ كلّ الاقالات التي حصلت داخل تلك المؤسسة لم تقض كلّيا على دورها. اكثر من ذلك، لم يدركوا انّ هناك حراكا شعبيا حقيقيا يرفض النظام الحاكم الذي فرضه هواري بومدين منذ توليه السلطة في العام 1965.

لا بدّ من نسيان مرحلة بوتفليقة في الجزائر، بوضعها بين هلالين، على الرغم من انّه بقي رئيسا لمدة عشرين سنة، من بينها اربع سنوات عن طريق المجموعة المحيطة به التي ما زالت تبحث عن حماية من ملاحقة قانونية لها في مرحلة ما بعد بوتفليقة. توجد الآن طبيعة جديدة للصراع على السلطة. في أساس هذا الصراع المؤسسة العسكرية التي فهمت انّ الجزائريين يرفضون الولاية الخامسة لبوتفليقة. سارعت المؤسسة العسكرية الى الاستجابة لمطلب الناس. قطعت الطريق علي بقاء بوتفليقة رئيسا او على تمديد ولايته عن طريق "الندوة الوطنية". خرج رئيس الأركان قايد صالح عن صمته واعتبر ان موقع رئيس الجمهورية صار شاغرا في ضوء الوضع الصحّي لبوتفليقة وطالب بمباشرة تطبيق المادة 102 من الدستور التي تعالج مسألة الشغور الرئاسي.

من الواضح ان المؤسسة العسكرية تريد وضع عهد عبدالعزيز بوتفليقة خلفها واختيار رئيس جديد من منطلق انّ النظام القديم باق. يعني ذلك المحافظة على نفوذ لكبار الضباط بما يتجاوز القضايا العسكرية والأمنية الى المصالح ذات الطابع الاقتصادي. ليس سرّا ان المؤسسة العسكرية امتلكت في الماضي عبر عدد من كبار الضباط مصالح خاصة بها، بما في ذلك الاقتطاع من موازنة مخصصة لاداة اسمها "بوليساريو" او من مساعدات انسانية خارجية تحصل عليها تلك الأداة من جهات دولية تريد مساعدة الرهائن الصحراويين الموجودين في مخيمات تندوف في الأراضي الجزائرية.

المطروح مع انتهاء عهد بوتفليقة هو مصير النظام الجزائري. يبقى النظام ام يتغيّر. بكلام أوضح يبقى العسكر في السلطة ام لا؟ السؤال الطبيعي الذي يفرض نفسه في هذه الحال الى ايّ حال ستتمكن المؤسسة العسكرية من استغلال الغليان الشعبي وتوظيفه في خدمة مصالحها؟

ما لا يمكن تجاهله ان النظام العسكري- الأمني الذي اسّسه هواري بومدين عاد على الجزائر بالكوارث التي بقيت الى اليوم أسيرة أسعار النفط والغاز. لم يستطع هذا النظام الاستثمار في قطاعات أخرى، على الرغم من كل الثروات التي تتمتع بها الجزائر. كان بين اسباب الانفجار الكبير في العام 1988 هبوط أسعار النفط والغاز فجأة. لم يعد لدى الدولة ما ترشو به الشعب الذي نزل الى الشارع وكان بين اوّل ما فعله تحطيم المكاتب التابعة لما يسمّى "جبهات التحرير"، من بينها مكتب "بوليساريو" في شارع ديدوش مراد.

كان هناك وعي شعبي دائم لحقيقة النظام القائم الذي لم يفعل شيئا من اجل تطوير السياحة والصناعات الخفيفة والتقليدية، التي يمكن ان تفيد الجزائر، والزراعة والقطاعات المنتجة عموما، فضلا عن الاستثمار في التعليم. اعتقد الشاذلي بن جديد في خريف 1988 ان المشكلة في الجزائر تعود الى غياب الشقق الجديدة، فاستنجد بشركات تنتج الاسمنت عن طريق سفن راسية قبالة الشاطئ الجزائري. لم يدر في خلده وفي خلد المؤسسة العسكرية ان مشكلة الجزائر ذات طابع بنيوي وان معالجة ازمة السكن لن تحول دون "العشرية السوداء". ساعد اختيار المؤسسة العسكرية لعبدالعزيز بوتفليقة في فتح صفحة جديدة في تاريخ الجزائر ادّت الى عشرين عاما من شبه الهدوء. لا شكّ ان شخصية بوتفليقة لعبت دورا في ذلك. لكنّ ما لا يمكن انكاره ان ارتفاع أسعار النفط والغاز ساعده كثيرا في شراء السلم الاجتماعي... وان موقتا.

يفترض وجود وعي لدى المؤسسة العسكرية التي اخذت على عاتقها استئصال الإرهاب في الماضي، ونجحت في ذلك الى حدّ كبير، لواقع يتمثّل في ان الجزائر في حاجة الى تغيير كبير. في استطاعة المؤسسة العسكرية لعب دور المساهمة في التغيير اذا اقتنعت ان النظام، الذي حال دون وصول بوتفليقة الى الرئاسة في 1979 ثم استعان به في 1999، انتهى الى غير رجعة. هل تساهم المؤسسة العسكرية في التغيير ام تبقي الجزائر تحت رحمة أسعار النفط والغاز في وقت تشير الأرقام المتداولة انّ الاحتياط من العملات الأجنبية يتدنى بطريقة مخيفة. مخيفة الى درجة تجعل من انفجار 1988 مجرّد نزهة.