العقل المذهبي والطائفي وأزمات بناء الدولة.. في العالم العربي

العقل المذهبي والطائفي السياسي المسيطر في بعض البلدان العربية يبدو عقلاً لا تراكمياً يدور حول القوة وإمكانات السيطرة الفعلية دون استيعاب لميراث من التجارب السياسية والتنموية الفاشلة والأسباب التي أدت إلى إخفاقها في ظل الجمود النخبوي وأزمات بناء الدولة.

بقلم: نبيل عبد الفتاح

أحد أبرز إستراتيجيات الهيمنة الرمزية للعقل السياسي المسيطر لدولة ما بعد الاستقلال في العالم العربي تمثل في تمجيد الشعب، ووصفه بالقائد والمعلم والسيد وغيرها من النعوت السياسية العامة وشبه الاطلاقية التي تتعامل مع الشعب بوصفه كتلة اجتماعية متجانسة وهلامية وغير محددة التضاريس الطبقية، وذلك لستر عمليات التمييز السياسي بين هذه الكتلة التي يشوبها الغموض، وبين من هُم أعداء الشعب من بعض المعارضات السرية أو العلنية التي يمكن فصلها عن الكيان الكبير المعلم، ومن ثم يتم إخضاعها للمساءلة، والمحاكمات، والاعتقالات والسجون أيا كانت انتماءاتها السياسية، وهو ما حدث في العراق وسوريا والسودان والجزائر وليبيا، وغيرها من البلدان والأنظمة التسلطية والشمولية التي سادت منذ الاستقلال.

مديح الشعب كان يخفي وراءه التركيبات الاجتماعية الانقسامية، والولاءات إلى المكونات الأولية من القبائل والعشائر والعائلات الممتدة، والنزعات المناطقية، والاختلافات الدينية والمذهبية واللغوية والقومية في بعض البلدان، وذلك لتسويغ إستراتيجيات بوتقة الصهر من خلال السياسات الأمنية والدينية والإيديولوجية التي رمت إلى فرض شرعية الإجماع القسري، وسيطرة النخبة الحاكمة وأصولها الدينية والمذهبية والمناطقية وقواعدها القبلية والعائلية الممتدة، وذلك في غالب الحالات المجتمعية التي لم تتوافر فيها الشروط التاريخية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تشكل نموذج الدولة الأمة، أو شبه الأمة كما في الاستثناء التاريخي المصري والمغربي.

من هنا ظل الطابع التحيزي للعقل السياسي المذهبي والطائفي العملي المسيطر في هذه الأنظمة، يدور حول الانحياز للولاءات الأولية التي ينتمى إليها، في سياسات التوزيع، وفي بعض تركيبة بناء القوة، وفي عمليات التجنيد لأجهزة الدولة الأمنية، وفي بعض التشكيلات الحكومية، تركيبة الوزارات المتعاقبة، بل وتداخل منطق القرابة الصداقات في مثل هذه الاختيارات التي وسمت قيادة هياكل القوة السياسية في عديد من البلدان العربية ما دون الدولة / الأمة، أو شبه الأمة، على نحو أدى إلى فوائض متراكمة من الإحساس والوعى شبه الجمعي بالحيف السياسي والتمييز إزاء المكونات الاجتماعية التي تتشكل منها هذه المجتمعات.

من هنا بدا لدى هذه التشكيلات الأولية أن الدولة/ النظام، تبدو وكأنها بناء رمزي مغاير لها، وأن الدولة ضد المجتمع بجميع مكوناته الواسعة، على نحو ما ظهر في انقسام السودان إلى دولتين في الشمال والجنوب، وإلى مشكلات اندماج في عديد من مناطق الشمال في دارفور، وشمال كردفان وجبال النوبة، وقبائل البجا في شرق السودان، وذلك كنتاج للعقل السياسي العرقي والديني، من حيث آليات وعمليات تفكيره السياسي منذ الاستقلال، الذى اعتمد على قواعده الاجتماعية ممثلة في القبائل السودانية الشمالية الرئيسة: النوبة، الحلفاوين، والمحس وسكوت ودناقلة والشايقية والجعلية والشكرية وتحديدًا قبائل الوسط النيلي التي ترفع لواء الهوية العربية الإسلامية.

نمط من التشكيلات القبلية التي تداخلت في تكوين النخب السياسية والحاكمة منذ الاستقلال في ظل ثنائية الحكم المدني، ثم العسكري، وهكذا في ظل إعادة إنتاج سياسي مستمر للأزمات الهيكلة لسياسة الاندماج الوطني، لاسيما في ظل إيديولوجيا دينية وسياسية استمرت لمدة ثلاثين عاما ولا تزال، اعتمدت على التمييز العرقي والقبلي والمناطقي، وإعادة إنتاج الانقسامات الأولية، بقوة أجهزة القمع وفشل سياسات التنمية والتكامل الوطني.

انكشف العقل السياسي المذهبي في العراق مع انهيار الدولة عقب الغزو الأمريكي، وبناء نظام المحاصصة المذهبية والقومية الذى أسسه بريمر، وكرس العقلية المذهبية والقومية، سنة وشيعة وأكراد، وأدت إلى تداخلات إقليمية - إيرانية - في بناء الولاءات المذهبية، وفي تشكيلات القوة الداخلية، وذلك من خلال إعادة إنتاج مجدد للتمييزات الطائفية/ المذهبية والمناطقية، في عمليات التوزيع والمشروعات الإنمائية.. إلخ.

العقل المذهبي والطائفي السياسي المسيطر في بعض البلدان العربية، يبدو عقلاً لا تراكمياً يدور حول القوة، وإمكانات السيطرة الفعلية، دون استيعاب لميراث من التجارب السياسية والتنموية الفاشلة، والأسباب التي أدت إلى إخفاقها في ظل الجمود النخبوي، وأزمات بناء الدولة، والعجز عن بناء التكامل والتوحد القومى من خلال سياسات التنمية والتوزيع والمؤسسات السياسية التمثيلية الفاعلة، التي تعكس المكونات الأولية، وتعبر عن مصالحها ورؤاها، ومن ثم تشكيل موحدات وطنية تتجاوز الانقسامات الأولية، وتعبر عنها في أطر سياسية جامعة.

من ناحية ثانية: يدور العقل السياسي الديني والمذهبي والقبلي وسواه حول ذاته دون مراجعات إلا استثناء، ومن ثم لا يتجاوز تمركزه حول الذات الأولية إلى الإقليم والعالم. غالب العقل المذهبي والقبلي والمناطقي، لا يستفيد من فشل الآخرين في تعظيم أدوات القمع الداخلي. هذا النمط العقلي المذهبي والقبلي والعشائري أحادي البعد، لا يميل إلى النقد الذاتي، وإلى تجاوز تمركزاته الأولية، ولا ينظر إلى تجارب التنمية الناجحة في العالم، في دول ومجتمعات عاشت انقسامات داخلية، وأنظمة قمعية، وتجاوزت مشكلاتها الأساسية، في الصين، وكوريا الجنوبية.

عقل تابع لتحالفاته الغربية، والإقليمية، ولا يقتصر فقط على السلطات السياسية الحاكمة في بعض الدول العربية، وإنما يمتد إلى بعض الفاعلين الإقليميين دون الدولة على نحو ما يظهر في الحوثيين من جماعة أنصار الله اليمنية، وغيرهم، حيث يذهب العقل المذهبي والطائفي إلى اتباع سياسة الحليف الإقليمي من دول الجوار الجغرافي العربي، ورفض أي محاولات للسعى إلى تسوية خلافاته وصراعاته الداخلية مع نمط آخر من العقل القبلي التابع، وتستمر الحرب الأهلية، وشلالات من دماء الشعب التي ينطق باسم شرعية تمثيله له سياسيًا دونما تفويض حقيقي، سوى قوة السلاح والقهر.

نُشر في الأهرام المصرية