العلاقات الغرامية حين تقود إلى السلطة والمنصب

إسكندر حبش يترجم نوفيلا إميل زولا "السيدة نيجون" التي صدرت عام 1884.
علاقات غرامية متشعبة لكن لا أحد يقف ضدها لأنها تقود إلى السلطة والمنصب
زولا يدخلنا في أجواء ترتيبات تجري من أجل الانتخابات النيابية

بعد ترجمته لرواية الفرنسي إميل زولا "من أجل ليلة حب" 1883 التي سرد فيها زولا عن استعباد الإرادة عبر الشغف العاشق، كما عن اللاعدالة الاجتماعية، التي عرف الكاتب عنها بأنها اللاعدالة التي تحمي أصحاب الثروات مهما كانت عليه جرائمهم، والتي صدرت عن دار خطوط وظلال، يترجم الشاعر والمترجم اسكندر حبش نوفيلا زوال "السيدة نيجون" ويقدم لها مشيرا إلى أن هذه القصة الطويلة صدرت عام 1884 أي بعد سنة من قصته السابقة، وهو ينحو فيها أكثر إلى تصوير بعض المشاهد من الحياة السياسية العامة في فرنسا ذلك العصر على خلفية "حب مجهض" ـ إن جاز القول ـ لم يصل إلى مبتغاه، كما أيضا على خلفية علاقات غرامية متشعبة، غير شرعية، لكن لا أحد يقف ضدها، لأنها تقود إلى السلطة والمنصب.
ويوضح حبش أن زولا يدخلنا في هذه النوفيلا في أجواء ترتيبات تجري من أجل الانتخابات النيابية، وكيفية إيصال مرشح إلى منصب ما. لكن ذلك كله، يمر عبر قصة شخص شاب، ينتمي إلى طبقة النبلاء الآتين من خارج باريس، من الريف، ترغب عمته ـ الثرية، التي تستقبل نخبة المجتمع في منزلها ـ في أن تعرفه إلى السيد نيجون أحد نواب المنطقة، ليوظف لها ابن أخيها في إحدى الوزارات، تمر أحداث هذه الرواية القصيرة من دون أن يلتقي بالسيد نيجون، بل بزوجته التي يقع أسير غرامها. وأعتقد فيما إعتقده عن هذه السيدة، إن ساعدها في إنجاح شخص آخر بالوصول إلى منصب نائب عن منطقته، فهي ستسمح له بممارسة الغرام معها. 
ما بين التهويمات والفانتسمات، ندخل إلى حياة طبقة من الطبقات العليا. لم يكن زولا بحاجة إلى خطابات سياسية، ليقص علينا تمفصلات المجتمع وتحولات أخلاقه، بل يكفيه بعض الأحداث الصغيرة، ليلتقطها وينسج حولها، كتابة، لن يترك القارئ إلا بعد أن ينتهي منها، مثلا انتهت السيدة نيجون من هذا الشاب بعد أن حققت ما كانت تصبو إليه، من دون أن يحدث أي شيء بينها.

كأننا نقرأ فصلا من "الكوميديا الإنسانية" لـ "بلزاك" أكثر من كوننا نقرأ عالم زولا الملقي بثقله علينا

ويرى أن رواية "السيدة نيجون" هي قصة الإطراء المتبادل والتزلف والتقرب والإغواء ما بين نساء "زانيات" ورجال مخدوعين. كما هي أيضا قصة الصراع ما بين المظاهر والواقع! لنقل هي أيضا قصة التعليم، تعلم الراوي ماهية الحياة الباريسية، حيث إن كل نجاح فيها له ثمن، فهو يتعلم كيف يقترب من نساء المجتمع الراقي، لكي يطلب منهن الخدمات التي توصله إلى تحقيق طموحه السياسي والاجتماعي. من هنا اقترب من السيدة نيجون، تلك المرأة الغامضة، الجاذبة والهاربة في الوقت عينه، الصامتة والخارقة، والتي تخفي ابتسامتها الكثير من الأشياء التي لم يكن هذا الشاب قد توصل إلى فك طلسمها بعد.
ويقول حبش إن ما يلفت نظرنا في هذه الـ "نوفيلا" الممتعة، أن كتابة زولا فيها كانت أقل كثافة عما اعتدنا عليه في أدبه، كما أن شخصياته أقل توترا، بمعنى آخر تصح فيها ما قاله بعض النقاد عنها، بأننا نشعر أنفسنا وكأننا نقرأ فصلا من "الكوميديا الإنسانية" لـ "بلزاك" أكثر من كوننا نقرأ عالم زولا الملقي بثقله علينا. وبرغم من أن صورة بعض النساء هنا هي صورة "مهتزة" إلا أن الكاتب لا يخلع عنهن كرامتهن!
مقتطف من الرواية
كان العشاء يصل إلى نهايته. لم يتهيأ لي من قبل أبدا، بأن الأعاشي في باريس ستكون أكثر روحانية مما هي عليه في كاين. وحدها بيرت من فاجأني. تذمرت عمتي من الحرارة، فعاد الحديث من أوله حول الموضوع عينه، تناقضوا في دعوات فصل الربيع، ليختموا أحاديثهم بالقول، إن المرء لا يأكل فعلا بشكل جيد، إلا في فصل الشتاء. من ثم، انتقل الجميع إلى الصالة، لتناول القهوة. شيئا فشيئا توافد العديد من الناس. امتلأت بهم الصالات الثلاث كما صالة الطعام. التجأت إلى زاوية، كما أن عمتي كانت تمر بالقرب مني، قالت لي بسرعة:
ـ جورج، لا ترحل... لقد وصلت زوجته، وعد أن يأتي لاصطحابها، وسأعرفك به.
كانت لا تزال تتحدث عن السيد نيجون. إلا أنني لم أكن أستمع إليها مطلقا، إذ سمعت شابين يتبادلان الحديث أمامي بكلمات سريعة، مما أثار عاطفتي. كانا يتكئان على أحد أبواب الصالة الكبيرة، وفي اللحظة التي دخل فيها فيليكس بودان، زميلي السابق في كاين، وحيّا السيدة غوشورو، حتى قال الشاب الأصغر لمن معه:
ـ ألا يزال برفقتها دائما؟
ـ أجل، أجابه الشخص الأكبر سنا. آه! ارتباط على الأصول، سيستمر الأمر الآن، إلى فصل الشتاء، ما من مرة احتفظت بشخص لمدة طويلة.
لم يسبب هذا الأمر بالنسبة إليّ عذابا أليما، لم أشعر سوى بجرح بسيط، جرح الحب، لِم قالت لي، بنبرة حنونة جدا، إنها تعشق الشكاكر؟ بالتأكيد، لا أنوي منازعة فيليكس عليها. أقنعت نفسي في نهاية الأمر، بأن هذين الشابين يفتريان على السيدة غوشورو. أعرف عمتي جيدا، لا يمكنها أن تستقبل في منزلها نساء قد يتعرضن للخطر. أسرع غوشورو ليقف أمام فيليكس، لكي يصافح يده؛ ربت على كتفه بود، وغطاه بنظرة مليئة بالحنان.
آه! ها أنت هنا، قال لي فيليكس، حين اكتشف وجودي.  جئت من أجلك.. حسنا، هل تريدني أن أقودك؟
بقينا واقفين، نحن الاثنين، عند فتحة الباب. رغبت فعلا في أن أسأله عن السيدة غوشورو؛ إلا أنني لم أعرف كيف أقوم بذلك بشكل انسيابي. ومع بحثي عن طريقة انتقالية، كنت أساله عن جمهرة من الأشخاص الآخرين، الذين لا أبالي بهم في واقع الأمر. كان يسمي لي الحاضرين، يملك معلومات دقيقة عن كل واحد فيهم. فهو، المولود في باريس، كان قد أمضى سنتين فقط في ثانوية كاين، بينما كان والده محافظ منطقة كالفادوس. وجدته يتكلم بحرية مطلقة. غمزت ابتسامته شفته السفلى، حين سألته تفاصيل عن بعض النساء الحاضرات.
ـ إنك تنظر إلى السيدة نيجون؟ قال لي فجأة.
في الحقيقة كنت أنظر إلى السيدة غوشورو، وسرعان ما أجبته بشكل أخرق للغاية:
ـ السيدة نيجون، آه! أين هي؟
ـ تلك المرأة السمراء، هناك، الواقفة بالقرب من المدخنة، التي تتحدث مع امرأة شقراء ترتدي الفستان المقور من على الصدر. في الواقع بالقرب من السيدة غوشورو كانت هناك سيدة لم ألحظها أبدا، وكانتا تضحكان.
ـ آه! إنها السيدة نيجون، رددت كلامي هذه مرتين.
وتأملتها جيدا. مغيظ جدا أن تكون سمراء، لأنها لي أيضا امرأة ساحرة، وأصغر سنا من بيرت بقليل، مع تاج شعرها الأسود. عيناها، وفي الوقت عينه، ساطعتان وحنونتان. صغيرة الأنف، مرهفة الفم، غمازتان على خديها، تشيران معا إلى طبيعتها المضطربة والعميقة التفكير. هكذا جاء انطباعي الأول عنها. لكن، وبعد تمعني فيها، اضطرب حكمي، إذ وجدتها أكثر جنونا من صديقتها، وصوت ضحكتها أعلى.
 ـ هل تعرف نيجون؟ سألني فيليكس.
ـ أنا، أبدا، تريد عمتي أن تقدمني له.
ـ أواه! كائن تافه، هو الخرق بالذات. الرداءة السياسية بأبهى تجلياتها، أحد هذه الثقوب التي تتكلم، والمفيدة جدا تحت النظام البرلماني، وبما أنه لا يملك حتى فكرتين خاصتين به، لذا تجد أن كل رؤوساء الأركان يستغلونه، لديه تحالفات هي الأكثر تناقضا.
ـ وزوجته؟ سألت.
ـ زوجته، حسنا! كما تراها. إنها ساحرة الجمال.. إن رغبت في الحصول على شيء منه، عليك أن تغازل زوجته.
أظهر فيليكس عن رغبته بعدم إكمال الحديث. لكن، في المحصلة النهائية، جعلني أفهم بأن السيدة نيجون هي السبب في ثروة زوجها وبأنها تستمر في السهر على ازدهار الحياة، باريس بأسرها تتحدث عن عشاقها.