العلمانية – إمكانية المصالحة مع الدين

تاريخيًا وطوال المراحل السابقة على الحداثة، ظل هذا التوتر مكبوتًا أو تحت السيطرة في ظل الهيمنة الواسعة للدين على مجمل الثقافة واندماجه في سلطة الدولة ذات الطابع الشمولي حيث تراجع الوعي الذاتي الفرداني وغاب مفهوم التعددية.

بقلم: عبد الجواد ياسين.

ما يزال الفكر الغربي يشتغل على مراجعة المسلمات التاريخية المؤسسة للحداثة، بما في ذلك مفهوم العقلانية بمعناه الأنواري المناقض للدين. جرى التجاوز عن إشكالية البحث في مصير الدين وقدرته على البقاء في المجتمع التقني الحديث.

فالدين، خلافًا للنبوءة الأنوارية، لم يخرج سالمًا من معركته مع حركة التطور العلمي فحسب، بل يعاود الظهور بصيغته التقليدية في نسق هجومي صريح يستهدف المجال العام ويعبر عن ذاته بعنف. المشكل الآن يتعلق بالوضعية الجديدة للدين في المجتمعات المعاصرة، وما تثيره من توتر في الفضاء العام على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي. السؤال الذي صار مطروحًا اليوم بدوافع عملانية هو كيف يمكن الوصول إلى أرضية مشتركة للتعايش بين الدين والعلمانية؟

يعتقد هابرماس أن الوصول إلى هذه الأرضية المشتركة ليس ضروريًا فحسب، بل هو أيضًا ممكن، فالقيم المختلفة لا يقصي بعضها بعضًا كالحقائق المختلفة، ولذلك يستطيع الطرفان القيام بعملية مشتركة تبدأ بتقبل كلٍ منهما لمنظور الآخر، أي تنطلق من الإقرار بفكرة التعددية.

من وجهة نظر متفائلة وطموحة أخلاقيًا يتصور هابرماس أن اضطراب التوصل المؤدي للعنف بين الثقافات يمكن علاجه عن طريق تكريس التسامح بإعادة بناء صلة أساسية من الثقة بين الناس، وهو ما لا يمكن أن يتم في ظل سياسة الخوف والاضطهاد، ومن هنا فعملية بناء الثقة تحتاج إلى عاملين: تحسين الظروف المادية، وتنمية الثقافة السياسية.

على الطرفين –حسب هابرماس- تقديم تنازلات متبادلة للوصول إلى ما يسميه المجتمع ما بعد العلماني؛ فأولاً: على العلمانية أن تكف عن المراهنة على زوال الدين، وأن تعمل بدلًا من ذلك على استنطاق عقلانيات الدين ومضامينه الإنسانية التي يمكن أن تحد من ظواهر العنف والتمدد الأصولي. وعليها الإقرار بصلابة الدين كظاهرة تستند إلى نوع من الإجماع، وبأهميتها الوظيفية في عملية الدمج الاجتماعي وتشكيل الهويات. وعليها أيضًا الاعتراف بمديونيتها للدين في كثير من ثوابتها المفهومية مثل الحرية والعدالة، والشرعية القانونية، فالجذور الدينية لهذه المفاهيم لا تزال تغذي فهمنا لها. الشرعية القانونية –يشرح هابرماس– لها أسس أخلاقية، وهي لذلك، تضرب بجذورها في فكرة المقدس.

والعادات القانونية والأخلاقية لها منذ البداية خاصية الوصفات الطقسية، وكثير من العادات تميزت بتحررها من تقييداتها الأولية لتدل على معنى غير عادي nontrivial لأصول الممارسة الطقسية (The Theory of Communicative action).

في المقابل سيتعين على الدين أن يقدم على تغيير بنيوي في آلية تعامله ليتقبل الخارج على نصه، ويتطلب ذلك أن يشتغل الفكر الديني على ثلاثة إنجازات محددة:

  •  يتجاوز التفاوت المعرفي بين الديانات والطوائف الأخرى.
  • يتماشى مع سلطة العلوم التي ستحتفظ بالاحتكار الاجتماعي للمعرفة في العالم.
  • ينفتح على أولويات الدولة الدستورية، أي القبول بالمفهوم القانوني للتعددية السياسية، التي تتسع للديني وغير الديني.

وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن يقبل الديني الدستور العلماني، ففي ظل هذا الدستور يمكن استيعاب الديني، فيما لا يمكن قبول العلماني تحت مظلة دستور ديني.

مجتمع هابرماس ما بعد العلماني يقوم -إذن- على تفكيك الدوجما المتحجرة لدى الدين والعلمانية كليهما، في إطار نظام سياسي ديمقراطي يكفل حضور العقلانية، كما يكفل حضور المعتقدات الدينية وخصوصياتها دون أن تكون معيارًا للتشريع أو التعامل مع الآخر.

يراهن هذا الطرح المتفائل على قابليات التواصل الاعتيادية الكامنة في غريزة الاجتماع. ولكنه يظل نظريًا ومفتوحًا على الأسئلة: ما المقصود بالدين المقابل للعلمانية هنا؛ هل هو الدين المطلق، أي الدين ككل أو كفكرة؟ فمن الذي يملك التحدث باسمه؟ أم هو الدين التاريخي، أعني الديانات المتعددة، التي تتوافر على سياقات تشكل أنساقاً مختلفة تاريخيًا، ومن ثم على أنساق تفكير وتدين متباينة، والتي هي ليست مجرد حزمة من الأفكار، بل حضورات فعلية متواصلة تمثل قطعًا من الواقع الاجتماعي؟ هل يمكن التسوية، مثلا، فيما يتعلق بالعلمانية، بين المسيحية والإسلام على الصعيدين التاريخي والنظري؟ هل يتنازل الإسلام التاريخي (الفقهي) طواعية عن هيمنته التقليدية على المجال العام، التي تضم صلاحيته التشريعية؟ وقبل ذلك هل يقبل بالتخلي عن فكرة الامتلاك الحصرية للحقيقة، بما يؤدي إلى استيعاب التعددية ومفهوم الدولة الدستورية؟

للمقارنة بين النموذجين المسيحي والإسلامي يمكن النقاش حول فوارق بنيوية وتاريخية ثلاثة:

  • حضور الشريعة: في الإسلام التاريخي تدخل الشريعة في بنية الديانة كركن أساسي صريح، فيما يتأخر موقعها في المسيحية “النظرية” ذات البنية اللاهوتية الخالصة، وفي المسيحية “التاريخية” التي انطلقت من نقطة الإقرار بعلمانية الدولة (الرومانية) من جهة، وبثانوية الشريعة العبرية من جهة ثانية.
  • حضور المؤسسة: في الإسلام – حيث لعبت الدولة منذ البداية دور المؤسسة في تمثيل الديانة، تكرس مفهوم الشريعة، واندماج الدولة في الدين. فيما نشأت المسيحية وتبلورت كديانة مستقلة على يد الكنيسة من موقع مقابل (مضاد) لموقع الدولة. لاحقًا وبعد دخولها في المسيحية، ظلت الدولة تحافظ على مسافة فاصلة لحماية سلطتها الزمنية خصوصًا في القسم الغربي من الإمبراطورية على الرغم من التوغل التاريخي للكنيسة طوال العصور الوسطى. غياب المؤسسة الدينية في “النص” الإسلامي فتح الباب أمام الدولة للقيام بوظيفة الكنيسة في تمثيل وحراسة الديانة، ولكنه فتح الباب –أيضًا– لتعدد قنوات التمثيل والحراسة من قبل الفرق والجماعات والأفراد، الأمر الذي يعني نظريًا توسيع فرص التوليد الأصولي، خصوصًا بعد سقوط الدولة “الدينية” الحارسة والتحول إلى الدولة الوطنية.
  •  التطور العام: في سياق المسيحية الغربية، وتحت ضغط التطورات الجذرية (الاقتصادية/ الاجتماعية/ العقلية) فرضت العلمانية فرضًا على الكنيسة، التي أقرت في نهاية المطاف بالتخلي عن سلطتها التاريخية في المجال العام لصالح فكرة الدولة الدستورية. وعلى الرغم من الإصرار النظري على فكرة امتلاك الحقيقة الدينية، أبدت الكنيسة مرونة عملية فيما يتعلق بالتعددية وإمكانية التعايش مع الآخر الديني.

في المقابل، لم يتعرض الإسلام الفقهي في محيطه الجغرافي بعد، لضغوط جذرية من قبل التطور الاقتصادي والاجتماعي والعقلي. أعني لم يتعرض لهذه الضغوط بالقدر الكافي لفرض تحول ديني جسيم. والمعنى الواضح هنا هو أن التحولات الكبرة على مستوى الثقافة تنتج كرد فعل لإكراهات الواقع الاجتماعي العام، وليس عن خيارات تأملية من قبل الفكر.

المشكل الذي يتصدى هابرماس لمعالجته تحت عنوان المصالحة بين الدين والعلمانية، هو مشكل التوتر الواضح في علاقة الدين بالاجتماع. وهو مشكل تاريخي مزمن، لم ينشأ مع الأصوليات الإسلامية العنيفة المعاصرة. هذه الأصوليات تمثل التجلي الأخير للمشكل وإحدى صوره الأكثر حدة.

تاريخيًا وطوال المراحل السابقة على الحداثة، ظل هذا التوتر مكبوتًا أو تحت السيطرة في ظل الهيمنة الواسعة للدين على مجمل الثقافة، واندماجه في سلطة الدولة ذات الطابع الشمولي، حيث تراجع الوعي الذاتي الفرداني وغاب مفهوم التعددية.

التطورات الحداثية التي أسفرت عن تفاقم الوعي الفردي وفرضت التعددية كمفهوم سياسي واجتماعي – كشفت عن الأصول الجذرية للمشكل الكامنة في صلب الدين التاريخي. أعني في بنية الطرح الفقهي المدرسي للدين (التوحيدي) حيث تبرز معضلة نظرية مزدوجة:

  • القول بالحق الحصري يتناقض مع قانون “التنوع” الطبيعي داخل الاجتماع، وإذ يؤدي إلى نفي الآخر، يشتغل كمصدر دائم مرشح لتوليد العنف.
  •  القول بالشريعة التفصيلية يتناقض مع قانون “التطور” الطبيعي داخل الاجتماع، وإذ يؤدي إلى تأبيد القانون، يمنع من الاستجابة للحاجات المتغيرة بالضرورة.

معنى ذلك أن التناقض بين العلمانية والدين “التاريخي” هو تناقض نظري في الماهية وبالتالي فالمصالحة بينهما لا تعني أكثر من تعايش على مستوى الواقع تفرضه غريزة الاجتماع (يتسع الواقع لقبول القوى المتعارضة، فيما لا يتسع النظام العقلي لقبول الأفكار المتناقضة).

في السياق الإسلامي لا يمكن التعويل في عملية المصالحة على الدين الرسمي ممثلاً في مدونة الفقه التاريخية المكتوبة، التي تحرسها هيئات حكومية تابعة لجهاز الدولة “الوطنية”.

نسبيا وعلى المدى الطويل، يمكن التعويل على التدين الشعبي من حيث هو بطبيعته أكثر استيعابًا لقابليات التواصل الاجتماعي، ومن ثم أكثر قدرة على التعبير عن حقائق التنوع الطبيعي وأسرع استجابة لمثيرات التطور، من خلال آلياته التوفيقية الدارجة.

عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي