"العويس" تحتفي بشعر البردُوني 

مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية تعقد ندوة عن الشاعر اليمني الراحل عبدالله البردّوني بمشاركة نخبة من النقاد والكتاب والمفكرين العرب.
البردّوني عاش حياةً فريدة، غنية بالتجارب والأحداث، متمردةً على بؤس الواقع وظلم الحكام
شعره كان فريداً، غنياً، مُحلقاً في سماوات الإنسانية وعذاباتها، ومتمرداً على المألوف الشعري
تجربة البردّوني الشعرية، الممتدة لأكثر من نصف قرن، وما تخللها من تنوع وتجريب على كافة الأصعدة والأوجه استطاعت أن تجذب إليها عدداً كبيراً من القراء

تزامنا مع انعقاد ندوة "البردوني الشاعر البصير" التي تنظمها مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، بمشاركة نخبة من النقاد والكتاب والمفكرين العرب، أصدرت المؤسسة قصائد مختارة من شعر البردوني بعنوان "وجع السكوت" اختارها وقدم لها الباحث اليمني د. همدان زايد دماج، مؤكدا فيها أن البردوني عاش حياةً فريدة، غنية بالتجارب والأحداث، متمردةً على بؤس الواقع وظلم الحكام، ومترعةً بالأحزان والآمال على حد سواء. وهكذا فإن شعره أيضاً كان فريداً، غنياً، مُحلقاً في سماوات الإنسانية وعذاباتها، ومتمرداً على المألوف الشعري.
وقال إن عملية انتقاء مختارات من بحر الإبداع البردوني الزاخر بالجواهر الشعرية، والذي يحوي أكثر من 400 قصيدة منشورة، لم يكن بالأمر السهل أبداً؛ ولهذا لن نستغرب إذا ما لامنا مُحبو شعره، لاستثناء هذه القصيدةٍ أو تلك، من هذه المختارات؛ فتجربة البردوني الشعرية، الممتدة لأكثر من نصف قرن، وما تخللها من تنوع وتجريب على كافة الأصعدة والأوجه، قد استطاعت أن تجذب إليها عدداً كبيراً من القراء، وأن تلامس ذوائقهم الشعرية على اختلافها. ويضم هذا الديوان عدداً من أجمل قصائد البردوني وأكثرها شيوعاً. وقد راعينا، في عملي الاختيار الصعبة هذه أن تشمل هذه المختارات تنوعاً زمنياً وفنياً وموضوعياً يمكِّن القارئ من الإبحار في عالم البردوني الشعري، وأن يتلمس تنوعات قصائده المدهشة، ويستكشف تضاريس تجربتها الخلاقة في عالم الشعر العربي المعاصر.

حياة البردوني، القادم "من أرض بلقيس"، كانت رحلةً طويلةً من الاشتعال الإنساني والشعري، ظلَ خلالها معتزاً بوطنه وهويته، متسامياً فوق آلامه وأحزانه، منتصراً للقضايا التي آمن بها

وأشار د. دماج مدير مركز الدراسات والبحوث اليمني إلى أن البردوني منذ بداية تجربته الطويلة، اكتسب شعره خصائصَ متعددة، مستمَدَّة أساساً من شخصيته المتفردة كإنسان شجاع متمرد على الواقع، وشاعر مرهفٍ متألم، ودارسٍ عميق للتراث، ومفكرٍ ثائرٍ مناكف للظلم والظلام الذي ذاق مراراته في طفولته القاسية. وإذا كان الجُدَري قد أطفأ الضوء في عيني البردوني وهو لا يزال في الخامسة من عمره؛ فإنه لم يتمكن من إطفاء جذوة بصيرته التي كشفت له ما احتجب عن غيره. تاهت أقدار الصبي، القادم من قرية "البَرَدُّون"، وهو يتحسس طريقه في ظلام أزقة المدينة وقسوة أهلها؛ لكنه اهتدى إلى نور العالم وفضاء المعرفة. وتكالبت عليه صروف الدهر، ومكائد الأيام، وذاق وحشة السجون؛ لكنه رفع رايات التحدي، وانفتحت أمامه أبواب العبقرية والخلود.
هدَّني السجنُ وأدمى القيدُ ساقي
فتعاييتُ بـجرحي ووثاقي
وأضعتُ الخطوَ في شوك الدجى
والعمى والقيدُ والجرحُ رفاقي
ومللتُ الـجرحَ حتى ملَّني
جـُرحي الدامي ومكثي وانطلاقي
وتلاشيتُ فلم يبقَ سوى
ذكريات الدمع في وهم الـمآقي
في سبيل الفجرِ ما لاقيتُ في
رحلة التيه، وما سوف ألاقي
سوف يفنـى كلُّ قيدٍ وقوى 
كلِّ سفاحٍ، وعطرُ الـجرح باقي.
وكشف أن البردوني عاش طفولةً دراميةً بامتياز، شبيهة كثيراً، في تفاصيلها المؤلمة والقاسية، بعذابات الطفولات البائسة التي قرأنا عنها في كلاسيكيات الأدب العالمي. وأضاف "لا شك أن معاناته في طفولته قد تركت في نفسه آثاراً عميقة، وجراحات غائرة، كان لها دورٌ كبيرٌ في تشكيل وجدانه وسمات شخصيته التواقة للخير والعدل، التلقائية والمنفلتة من كل أنواع القيود واليأس، كما كان لها، وللقضايا العامة التي آمن بها لاحقاً، وكرَّسَ من أجلها جُلَّ حياته، تأثيرٌ واضحٌ على شعره، الذي جاء مُحمّلاً بعبق أنفاس الحياة والحرية والإنصاف، مشحوذاً بكل ما يشعل الروح من حبٍّ وعطفٍ وشجنٍ وشكوى، وانكساراتٍ وآلام.

متألمٌ، ممّا أنا متألمُ؟!
حارَ السؤالُ، وأطرقَ المستفهمُ
ماذا أحسُّ؟! وآهِ! حزني بعضُهُ
يشكو فأعرفه، وبعضٌ مُبهمُ
بي ما علمتُ من الأسى الدامي، وبي
مِن حُرقةِ الأعماقِ ما لا أعلمُ
...
وأُعارِكُ الدنيا وأهوى صفوَها
لكنْ كما يهوى الكلامَ الأبكمُ
وأُبارِكُ الأمَّ الحـياةَ لأنها
أمِّي، وحظّي من جناها العلقمُ
حرماني الحرمانُ، إلا أنني
أهذي بعاطفةِ الحياةِ وأحلمُ
والمرءُ إنْ أشقاهُ واقعُ شؤمِهِ
بالغبنِ، أسعدَهُ الخيالُ الـمنعمُ.
ورأى د. دماج أن القصيدة "البردونية" استأثرت بوجدان القارئ العربي كواحدة من أهم التجارب الشعرية العربية المعاصرة، ومن خلالها لم يكفّ البردوني عن مباغتة القلوب والعقول بسهام اللمحات الجارحة، والصور المدهشة، والعبارات اللاذعة، والأسئلة المتكررة والمستفزة، التي تحمل طيات بعضها إجاباتها الصادمة:
لماذا ليَ الجوعُ والقصفُ لك؟!
يُـناشدُنـي الجوعُ أن أسألَكْ
وأغرسُ حقلي فتجنيهِ أنتَ،
وتُسكرُ من عَـرَقي مِنجلكْ
لماذا - وفي قبضتيكَ الكنوزُ-
تَمُدُّ إلـى لقمتي أنـمُلَـكْ
وتقتاتُ جوعي وتُدعى النَّـزيهَ!
وهل أصبحَ اللصُّ يوماً مَلَكْ؟!
لماذا تسُودُ على شقوتي؟!
أجب عن سؤالي وإن أخجلَكْ!
ولو لم تُـجب فسكوتُ الجوابِ
ضجيجٌ يردِّدُ: ما أنذلكْ!
بينما يشحذ ببعضها الآخر التفكير والفضول للبحث عن إجابات:
لماذا المقطفُ الداني
بعيدٌ عن يدِ العاني؟!
لماذا الزهرُ آنيٌّ
وليس الشوكُ بالآني؟!
لماذا يقدرُ الأعتى
ويعيا المرهفُ الحاني؟!

مدير مركز الدراسات والبحوث اليمني
د. همدان زايد دماج

هذه الأسئلة عادة ما كان يبثها في الحوارات الذاتية أو السردية التي تمتلئ بها قصائده، والتي أصبحت أيضاً من السمات الأسلوبية المميزة لشعره، وحظيت – ولا تزال – باهتمام النقاد والقراء على حد سواء.
كما شِئْتَ فَـتِّش أين أُخفي حَقَائبي
أتسألني: مَن أنتَ؟... أعرفُ واجبي
أجِبْ، لا تحاولْ، عُمرَكَ؟ الاسمَ كاملاً؟
ثلاثونَ تقريباً، "مُثَنَّى الشواجبي"
نعم، أين كنتَ الأمسِ؟ كنتُ بمرقَدي
وجـمجُمتي في السجنِ، في السُّوقِ شارِبي.
وأوضح د. دماج أنه مما يلفت انتباه قارئ البردوني كثرة استخدامه للمفارقات الشعرية التي يخفي فيها ظاهرُ النص المعنى الحقيقي الذي عادة ما يكون على تضادٍ معه، واشتغاله بشكل واضح على التجاور النصي للمتناقضات، وما ينتج عنه من مفاجآت من شأنها أن تكسر أفق التلقي، إلى جانب استخدامه المكثف للسخرية والتهكم كأدوات إيصالٍ وإمتاع على حد سواء، موظفاً إياهما توظيفاً مدروساً ينم عن حسٍّ مرهفٍ وذكي، ووعي فكريٍ واسع الآفاق، وقدرةٍ فائقة على إيصال قضاياه النقدية والإنسانية إلى عمق أحاسيس القارئ أو المستمع، مثلما نقرأ في قصيدته الشهيرة "لصٌّ في منزل شاعر"، وهو يخاطب اللص:
لم تسلبِ الطيـنَ السكونَ،
ولـم تَرُعْ نومَ الحجارةْ
كالطيفِ جئتَ بلا خُطى
وبلا صدى، وبلا إشارة
أرأيتَ هذا البيتَ قزماً
لا يكلفكَ الـمهـارة
فأتيته ترجو الغنائم
وهو أعْرَى من مغارة؟!
ماذا وجدتَ سوى الفراغ،
وهرّةٍ تَـشْـتَمُّ فارة
ولهاثِ صعلوك الحروف
يَصوغُ من دمِهِ العبارة
يُطفـي التوقّدَ باللظى
ينسى المرارةَ بالمرارة. 

من أجمل قصائد البردوني
بلاغة شعرية بصرية مذهلة

ولفت د. دماج إلى توظيف البردوني لمعرفته العميقة والواسعة بالتراث العربي، واطلاعه على الثقافات الشعبية العربية، مكنه – عن طريق استلهامه للشخصيات والوقائع التاريخية والموروث الأسطوري – من أن يقدم للقارئ بُعداً ثقافياً واسع الدلالة والثراء في شعره. ويجدر بنا هنا أيضاً أن نشير إلى أن البردوني، كغيره من كبار الشعراء العرب المكفوفين، لم يثنه فقدان بصره عن شحن قصائده ببلاغة شعرية بصرية مذهلة.
الصمتُ يُعْشِبُ طحلباً، حُمَّى، ذيولاً عوسجية
وقرونَ أشباحٍ كأبـوابِ السجونِ العسكرية
سقفٌ من الحَيَّاتِ والأيدي وألوان المنية
يطفو ويركضُ، يمتطي عينيه، يسقط كالمطية
ماذا هنا؟! شيءٌ كلا شيءٍ، شظايا متحفية
ولعل أكثر ما يتميز به شعر البردوني هو الحداثة التي عبّرت فيه عن نفسها بجوهرها التجديدي وروحها العصرية دون الحاجة إلى تغيير قالبها الشعري العمودي، الذي تمسَّك به دائماً. ففي الوقت الذي حرص شعره على التوجه إلى جموع الناس والتواصل المباشر معهم والتعبير عن قضاياهم، فإنه أيضاً قد استطاع مخاطبة الذهنية الثقافية المتقدمة شعرياً، عبر مخالفته للمألوف، واعتماده على طقوس شعرية ولغوية غير مسبوقة، حتى على مستوى عناوين قصائده، جاعلاً من شعار "الأصالة والمعاصرة" واقعاً ملموساً في شعره، الذي جمع بين الحداثة والتراث الشعري، بوعي ناضجٍ وتناغمٍ مدهش.  
للريح طعمٌ في حلوق الحصى
وللحواري بالنجوم اكتحالْ
هذي الشبابيكُ لها صبوةٌ
إلى وصالٍ غير ذاك الوصالْ
تلك القناديلُ وإن راوغَت
لها غموضٌ واضحُ الانفعالْ.
ولفت د. دماج إلى الحضور الطاغي لواقع اليمن والأمة العربية، وقضاياه السياسية والاجتماعية، في شعر البردوني؛ وقال "تكاد العشرات من قصائده تنطق بحاضر الأمة المرير، لكأنَّ الزمن اليمني والعربي هو نفسه لم يتغير، ولكأنَّ الآلام والآمال والتحديات هي ذاتها التي شغلته طيلة مسيرة حياته، والتي كرَّسَ من أجلها أنوار فكره وشعلة إبداعه الشعري، وخلاصة آرائه التي بثها في مؤلفاته الفكرية والأدبية الأخرى.
"حبيبُ" ما زالَ في عينيكَ أسئلةٌ
تبـدو، وتنسى حكاياها فتنتقبُ
وما تزال بحلقي ألفُ مُبكيةٍ
من رهبة البوح تستحيي وتضطربُ
يكفيـك أنّ عِدانا أهدروا دَمَنا
ونحـن مـن دَمِنا نحسو ونحتلبُ
سحائبُ الغـزوِ تشوينا وتحجبنا
يوماً ستحبل من إرعادنا السّحبُ
ألا ترى يا "أبا تمّام" بارقنا؟!
"إنّ السّماء تُرجَّى حين تحتجـِبُ"
وخلص د. دماج إلى أن حياة البردوني، القادم "من أرض بلقيس"، كانت رحلةً طويلةً من الاشتعال الإنساني والشعري، ظلَ خلالها معتزاً بوطنه وهويته، متسامياً فوق آلامه وأحزانه، منتصراً للقضايا التي آمن بها، صامداً وساخراً من الأسى، ومتهكماً على شقاء الواقع وقسوة الدهر؛ فترك لنا شعراً إنسانياً بديعاً متألقاً في صوره ومفرداته وموقفه، وفي حنينه الدائم إلى العدل والمساواة، وفي تحديه لكل محاولات التدجين والاحتواء. 
لهذا عاش البردوني بسيطاً زاهداً. وكان عزوفه عن المغريات المادية أو المناصب الرسمية، أو حتى العمل السياسي المباشر، رسالةً ووعياً، وموقفاً ثابتاً لم يتزحزح عنه. ولا تزال الأجيال في اليمن تتذكر كيف أنفق قيمة جائزة العويس، التي فاز بها في دورتها الثالثة (1992-1993)، في تمويل طباعة كل مؤلفاته وبيعها للجمهور بأقل من نصف سعر التكلفة. لم يكن الأمر مستغرباً حقاً، فهذا هو "جوَّاب العصور" الذي عرفوه، والذي ما يزال مُلهماً أساسياً للتجربة الشعرية العمودية المعاصرة في اليمن، لتزخر بأسماء مهمة من الشعراء الشباب المبدعين الذين أصبحوا في الصفوف الأولى للحراك الشعري العربي، في ظاهرة تستحق الوقوف عندها كثيراً.