الفكر والخطاب.. متعانقان فى التجديد الديني

الأديان ذاتها تتجه بقواعدها إلى المخاطبين فكما لا تجديد بغير فهم يعرف الصواب فإنه لا جدوى ولا حصاد لفهم يبقى حبيس الصدور الفهم والخطاب لا غناء لأحدهما عن الآخر كلاهما متعانقان للتجديد فى الدين ما جدوى فهمى لموجبات التجديد وأسانيده إذا لم أنقله إلى جمهور المخاطبين؟!

بقلم: رجائي عطية

من الظواهر المؤسفة، أن يتعرض من لا يعرف للإفتاء فيما لا يعرفه . لم يعد لزوم التجديد فى الدين محل مجادلة، بل صار الآن من المسلمات التى تركن إلى الدليل النصي، وإلى الدليل العقلي.

فى حديث نبوى: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». ولم ينقطع هذا التجديد حتى فى عهود الهبوط والتراجع والجمود، فظهر المجددون قديمًا ، وظهروا حديثًا، ولا بأس من أن يتعددوا فى الزمن الواحد.

والصيرورة سنَّة كونية مشهودة فى الكون، كما هى واقعٌ فى حياة ودنيا الناس، ومن ينظر إلى الأفلاك وحركة الشمس والقمر والكواكب السيارة والنجوم فى السماء ، تتمثل أمامه هذه الصيرورة، مثلما فى دورة الحياة، وهذه الصيرورة اقتضت مواجهتها بما تستوجبه.

حاجات الناس متجددة متغيرة، حالها كحال الكون الصائر دائمًا، والدين الذى لا يواجه مقتضياتها يُهجر ويتحول إلى مجرد مناسك ورسوم، بينما الإسلام دين حياة لأحياء.

القرآن الكريم، معجزة الإسلام إلى الدنيا، تناول معجزاته فقهاء عظام استقصوها ودرسوها وكتبوا فيها آلاف المصنفات، يجمع بينها أن القرآن يغني الإنسانية فى باب الاعتقاد، ولا يصدها عن سبيل المعرفة والتقدم. يعطيها كل ما يعطيه الدين من خير، ولا يحرمها شيئًا من خيرات العلم والحضارة ومواكبة الحياة.

ومن موجبات هذه الصيرورة، أن مستجدات الحياة لا تتوقف ، وكذلك اكتشافات العلم ، ومواكبة هذه وتلك كفلتها «البنية الحية» للإسلام، حالة كونه رسالة عامة للناس كافة ، فى كل زمان ومكان. بينما النصوص بطبيعتها «محدودة» متناهية، والحادثات «غير محدودة» و«غير متناهية». الأمر الذى جعل من التجديد آلية واجبة لمعرفة رأى الدين وحكمه فى هذه المستجدات غير المحدودة، واللامتناهية.

من آيات الإعجاز القرآني، تفرقته الحكيمة بين الأصول والثوابت، وبين المتغيرات. خارج دائرة الأصول والثوابت، من توحيد وفرائض وعبادات وقيم ومبادئ لا تتغير ولا تتبدل ولا تتطور بتغير الأمكنة أو الأزمنة، حرص القرآن أن يكتفى فى دائرة المتغيرات بالمبدأ دون التفاصيل.

من ذلك أنه مع تقريره مبدأ الشوري، ترك تفاصيل تطبيقه لمتغيرات الزمان والمكان، ولذلك كانت مبايعة الراشدين أبى بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على ـ مبايعة صحيحة وفقًا للمبدأ، برغم اختلاف الصورة والتطبيق فى كل منها. هذا ولا يعني التجديد إنكار الدين أو تفصيله على الهوى.

التجديد اجتهاد محمود فى فهم لا يخرج عن الدين، وإنما يتغيا الإعمال الواعى للمبادئ ورعاية المقاصد. وهذه المهمة السامية، والواجبة اللازمة، تستلزم علمًا وإخلاصًا وفهمًا حكيمًا قوامه العقل، ونقل هذا الفهم إلى حيز الخطاب والتطبيق.

لا يجادل ولا يمكن أن يجادل عاقل فى وجوب الفهم ولزومه للتجديد الديني. فلا تجديد ولا تصويب إلاَّ بفهم قوامة العقل مع الإلمام بأدوات البحث والتحصيل والاستنباط. فالنص لا يتجه إلى فراغ، وحياته فى سداد وصواب فهمه . والتفكير ذاته فريضة من فرائض الإسلام، ومن مزايا القرآن المجيد أنه نوه بالعقل بكل ملكة من ملكاته، وعول عليه فى أمر التبعة والتكليف، ولم يأت ذلك فى القرآن عرضًا، وإنما نوه بكل وظيفة من وظائف العقل. العقل الحكيم، والعقل الوازع للضمير، والعقل المدرك المنوط به الفهم والتصوير، والعقل المفكر والعقل الرشيد المستوعب لوظائف العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم.

وأينما يولى القارئ للقرآن الحكيم، يرى قوارع لا تقع تحت حصر ، للتنبيه إلى كل وظيفة من وظائف العقل والفكر والفهم والإدراك والرشد. من نحو: «أَفلاَ تَعْقِلُونَ». «وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ» «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ».«أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ». «لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». «لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ». «أَفَلَا يَنظُرُونَ». «أَفَلا تُبْصِرُونَ».«أَفلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ». «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ». «قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ». هذه محض أمثلة تدل على عناية القرآن الحكيم بكل وظيفة للعقل والتفكير والفهم.

هذا الفهم لازم للتعرف على النص وحكمه، ولازم لمعرفة المقاصد وهى جزء لا يتجزأ من فهم النص، ولازم لاستنباط الأحكام من أدلتها، وللتفرقة الواجبة بين الدين وبين الشريعة. فالدين كلمة الله، والشريعة اجتهاد بشري، يرد عليه ما يضيفه العلم والفقه من رؤية عساها تكون أفضل أو أصوب من رؤية بشرية سبقت.

لا تجديد إذن بغير فهم. بيد أن هذا الفهم ليس مجرد «مونولوج» داخلي، حَسْبُ الفاهم أنه أدركه وكفي. فلا حصاد لهذا الفهم ما لم ينتقل ـ بالخطاب ـ إلى المتلقين.

الأديان ذاتها تتجه بقواعدها إلى «المخاطبين». فكما لا تجديد بغير فهم يعرف الصواب! فإنه لا جدوى ولا حصاد لفهم يبقى حبيس الصدور! الفهم، والخطاب، لا غناء لأحدهما عن الآخر، كلاهما متعانقان للتجديد فى الدين. ما جدوى فهمى لموجبات التجديد وأسانيده إذا لم أنقله إلى جمهور المخاطبين؟!

إن الأديان ذاتها تقوم على «الدعوة». ولم تكن وظيفة الرسل ـ عليهم السلام ـ إلاَّ النهوض بأعباء هذه «الدعوة». هذه «الدعوة» خطاب. الفهم لازم، والخطاب لازم. وكلاهما متعانقان لتحقيق ما ننشده من التجديد فى الدين!

نُشر في الأهرام المصرية