الفن.. فى مواجهة الكراهية والتطرف الدينيين

القرى المحرومة ثقافيا وجمالياً تركت للفكر الديني المتشدد وسادة الحقائق المطلقة وناشرى فقه الكراهية وتحريم الفنون وهو ما أسهم فى خلق بيئات حاضنة لنمط من التدين الوضعى وتأويلاته المتعددة أدى إلى إحداث تغيرات خطيرة فى نمط التدين الاعتدالى الذى وسم به التدين المصرى تاريخيا والذى يتراوح بين الإيمان بالعقائد والطقوس الدينية والقيم الفضلي وبين حقائق الحياة النسبية وتحدياتها ومشكلاتها وأسئلتها المتغيرة.

بقلم:  نبيل عبد الفتاح

تركز الغالبية الساحقة من الخطابات السياسية المضادة للعنف والتطرف والإرهاب والكراهية على ضرورة معالجة مصادر هذه الظواهر الاجتماعية والسياسية، ويتم التركيز على أن المواجهات الأمنية والعسكرية ليست هى الحل فقط على أهمية هذه الأدوات، ويميل غالب السياسيين والأمنيين إلى ضرورة مواجهة جذور العنف والكراهية وتجلياتهم فى المعالجات الفكرية والثقافية، العديد من الدراسات السياسية والأمنية قدمت تصوراتها لبناء سياسة أمنية ودينية ملائمة للتعامل مع الجماعات الدينية والسياسية، والبنى الأيديولوجية واستراتجياتها فى التجنيد وتكوين الكوادر والتعبئة والحشد والعمليات، وقليلة الكتابات التى تناولت الأبعاد التعليمية والتربوية والثقافية اللازمة لسياسة المواجهة، وذلك فى عمومية وغموض بعضها أقرب إلى الشعارات العامة منها الى الدراسات الدقيقة.

تبدو المفارقة بين غياب سياسة ثقافية شاملة ترمى إلى إشاعة الجمال والعقلانية واحترام الرؤى الأخرى، ونسبية الحقائق الإنسانية، وبين الواقع الموضوعى الذى يحفل بالفكر الخرافى والأساطير، والحث على التطرف والعنف وكراهية الحياة وإشاعة القبح، ولا توجد مساع جادة لصياغة رؤية متكاملة لكيفية توظيف الثقافة والأشكال الفنية والإبداعية والفكرية فى التعامل مع مصادر تكوين العقل العنيف وبنيته النفسية وأصوله الاجتماعية، إن أى محاولة فى هذا المجال لابد أن تعتمد على عديد الدراسات العلمية الأولية، وذلك للسعى من خلال رؤية تكاملية للسياسات الثقافية والتعليمية والتربوية، لتكوين العقل النقدى الذى يؤمن بنسبية الحقيقة ويحترم الرأى الآخر، ويحبذ الجمال، والإيجابية إزاء السلوك السلبى واللامبالي، هذا المسعى لابد أن يستمد قوامه من ابتكار لبعض الأفكار والمبادرات المستمدة من الفنون والأشكال الإبداعية المتعددة، ومن الثقافة الشعبية، سواء أكانت مبادرات طوعية فردية أو جماعية، من الأجهزة الثقافية الرسمية، أو من الجمعيات الأهلية العاملة فى الحقل الثقافي.

 إحدى هذه المبادرات المهمة والمستمدة من التجارب الفنية السابقة مشروع مسرح الجرن الذى تقدم به المخرج المسرحى أحمد إسماعيل، والذى ينطلق من واقع الحرمان التاريخي للقرى المصرية من الخدمات والأنشطة الثقافية والفنية، والمسرح على وجه الخصوص، وأن وضعية التهميش الثقافى الرسمى للقرية ـــ 4800 قرية كبيرة و 25000 نجع وكفر توابع للقري ـــ أدت إلى تحول الريف إلى بيئة حاضنة لبعض أفكار ومقولات وتأويلات الجماعات المتطرفة، وللفكر الخرافي، والتعصب، وكراهية الآخر الدينى المختلف، والتأقلم مع ثقافة القبح وقيمها وسلوكياتها الاجتماعية.

القرى المحرومة ثقافيا وجمالياً، تركت للفكر المتشدد، وسادة الحقائق المطلقة، وناشرى فقه الكراهية، وتحريم الفنون، وهو ما أسهم فى خلق بيئات حاضنة لنمط من التدين الوضعى وتأويلاته المتعددة، أدى إلى إحداث تغيرات خطيرة فى نمط التدين الاعتدالي الذي وسم به التدين المصري تاريخيا، والذى يتراوح بين الإيمان بالعقائد والطقوس الدينية، والقيم الفضلي، وبين حقائق الحياة النسبية، وتحدياتها ومشكلاتها وأسئلتها المتغيرة. هذا الحرمان الثقافى التاريخي.

 يعود إلى تركز اهتمامات الأجهزة الثقافية الرسمية، بالأنشطة المقدمة إلى مواطني المدن الكبرى، وحول القاهرة والإسكندرية أساسًا، وبعض مدن المحافظات، وهو أمر يعود إلى ربط الإنتاج الثقافي والفني بالسلطة السياسية، وهى نظرة وإدراك يلحق الثقافة كتابع فى إطار سياسة التعبئة التى اعتمد عليها النظام، وذلك على الرغم من بعض النتائج الإيجابية التى تحققت من وراء هذا الاتجاه، فإن ما كان يتم فى عديد العقود السابقة يحتاج إلى مراجعات، لأن الواقع السياسي والاجتماعي تغير على نحو كبير، ومن ثم لم تعد الاستعراضية فى تقديم الأنشطة الثقافية والفنية، قادرة على أن تسهم بفاعلية فى مواجهة الفكر المتطرف، أو فى صياغة سياسية ثقافية ترمى إلى دعم أى مشروع للتنمية المستدامة فى مختلف جوانبها.

يقوم مشروع مسرح الجرن، على تصميم مسرح فى مائة قرية كبيرة تخدم القرى والنجوع والكفور الفقيرة المرتبطة بها. المسرح غير تقليدي فى شكله أو تكاليف إنشائه، من خلال بناء مسرح مدرج وغير مغلق ومتطور للرؤية، وخشبه وملحقاته بحيث يبدو بمنزلة مقر ثقافة للتدريب والإدارة وإقامة المعارض، والندوات وذلك بتكلفة لا تتجاوز 4 ملايين جنيه، ومتسع لألف متفرج، بينما إعادة ترميم وتأهيل مسارح هيئة قصور الثقافة تتراوح فى بعض التقديرات بين 40 و 60 مليون جنيه لكل مسرح.

يهدف مشروع مسرح الجرن إلى تحقيق الأهداف التالية: بعث روح الانتماء الوطنى بين المواطنين فى المناطق الريفية من خلال مد جسور العمل الثقافي، والتكامل بين المدن والقري، ونشر البهجة وثقافة الجمال. ومواجهة الفكر المتطرف، وثقافة الكراهية وسط القواعد الاجتماعية الشعبية من خلال الأعمال المسرحية التى تقوم على الحوار، وتبادل الرؤي، على نحو يكرس مفهوم الحوار، وعدم احتكار الحقيقة، واكتشاف المواهب بين الأطفال والشباب المشاركين فى أنشطة مسرح الجرن. وإشاعة محبة الفنون بين المواطنين. ينقسم مشروع مسرح الجرن إلى قسمين أساسيين هما:

  • مسرح الجرن المفتوح الذى يقدم التجارب المسرحية إلى أهالي القرية وما حولها من قرى صغيرة وكفور ونجوع بما فيها مشاركة الموهوبين من كبار السن فى هذه التجارب. تعتمد على تجربة المسرح فى قرية شبرا بخوم التى قدمها المخرج أحمد إسماعيل لأكثر من 35 عاما، وقدم خلالها إسكتشات أولية.
  • أغنية على الممر، والزوبعة والغريب وليالى الحصار لمحمود دياب، والشاطر حسن، وأطيب أهل لفؤاد حداد، وثلاثية سهرة ريفية، وهى تجربة فى العمل المسرحى الجماعى من خلال الفرقة نفسها التى شكلت الأفكار الأساسية للعمل، مع استدعاء أهالى القرية وتوظيف ما يقدمونه من ارتجالات فى أثناء التدريبات.