القاهرة تمنح سودانيين مساحات جديدة لفنهم

الحرب السودانية أدت إلى نزوح الكثيرين، بينهم فنانون كانت وجهتهم مصر، حيث تمكنوا من ممارسة أنشطتهم الفنية من جديد على أمل عودة قريبة إلى بلادهم.

الخرطوم - عندما سقطت أولى القنابل على الخرطوم، ترك أمجد وفاطمة ومازن ألوانهم وآلاتهم للبحث عن مأوى آمن في المنفى… اليوم، يعيد السودانيون الثلاثة في القاهرة حيث استقروا إحياء بعض من أنشطتهم الفنية التي اعتادوا عليها في العاصمة السودانية.

على بعد بضع خطوات من ميدان التحرير الشهير في العاصمة المصرية، تنبعث نغمات سودانية. هنا، يستمتع قرابة مئة سوداني بحفلة موسيقية ومعرض للفن التشكيلي بعيدا عن الحرب التي تدور رحاها منذ ثمانية أشهر في الخرطوم.

يتمايل الجمهور على موسيقى مازن حامد، وهو موسيقي ومنتج شاب في الحادية والثلاثين من عمره، مشهور في بلاده ويعمل على تحديث التراث السوداني.

عندما اندلعت الحرب في 15 أبريل/نيسان، خرج حامد للذهاب إلى عمله كالمعتاد، بعدما عايش خلال السنوات الأربع السابقة أحداثا سياسة كبيرة بدأت بـ"الثورة" ثم الانقلاب والقمع الدامي لأنصار الديمقراطية.

وكان عليه أن ينهي الموسيقى التصويرية لـ"وداعا جوليا"، أول فيلم سوداني روائي طويل يُعرض في المسابقة الرسمية في مهرجان "كان" ويحصل على جائزة.

وكان يضع اللمسات الأخيرة، واعتقدَ أنه سيمضي بضع ساعات في الأستوديو حيث كان يسجل عمله، ريثما تهدأ النفوس. لكن الجنرالين اللذين بدآ الحرب في ذلك اليوم ما زالا يتقاتلان حتى الآن.

وأسفر النزاع عن مقتل أكثر من 13 ألف مدني حتى الآن، وفق منظمة أكليد المتخصصة في إحصاء ضحايا النزاعات. غير أن جهات كثيرة تؤكد أن الحصيلة الفعلية للضحايا أعلى بكثير.

الحرب التي بدأت في العاصمة السودانية، امتدت إلى إقليم دارفور في الغرب، ثم إلى ولاية الجزيرة حيث سيطرت أخيرا قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" على مدينة ود مدني بعد أن انتزعتها من الجيش السوداني الذي يقوده الفريق أول عبدالفتاح البرهان.

وأدت الحرب إلى نزوح 7.1 مليون شخص، وفق ما أعلنت الأمم المتحدة معتبرة أنها "أكبر أزمة نزوح في العالم"، فيما حذرت المنظمة الدولية للهجرة من أن ما يشهده السودان "مأساة إنسانية ذات أبعاد هائلة، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الرهيبة في الأساس".

ومن خلف الجدران العازلة للأستوديو الخاص به، لم يسمع حامد إلا بضع طلقات نارية هنا وهناك. ولكن عندما سمع أصوات الطائرات الحربية أدرك، بحسب ما روى لوكالة فرانس برس أن "الأمر خطير".

ولذلك، قرر الفرار شأنه في ذلك شأن آخرين كثيرين، "من دون أن يحمل معه آلاته أو معداته لكي لا يلفت الانتباه عند نقاط التفتيش" التي أقامتها قوات الجيش وقوات الدعم السريع في مناطق مختلفة.

وظلت الرسامة فاطمة إسماعيل التي تعرض اليوم لوحاتها في القاهرة، من جانبها حبيسة شقتها "في صمت"، قائلة إنها اختبأت لأن معلومات كانت انتشرت في الخرطوم عن حالات اغتصاب.

وتمكنت إسماعيل (26 عاما) من الفرار مع أسرتها عندما استقلّوا، وفقا لها، أول حافلة رأوها في مدينة خاوية ومدمرة.

وقبل أن ترحل، رسمت الشابة العشرينية بدقة تفاصيل الحياة داخل منزلها "والدتها التي كانت تطبخ ووالدها الذي كان يتلو القرآن"، لتسجل ذكرياتها من حياة يومية تبدلت إلى الأبد.

وبعد أن صارت في أمان في القاهرة، عادت إسماعيل إلى لوحاتها التي تحاول من خلالها مكافحها شياطين الحروب، قائلة "أبدأ من الصفر مجددا"، إذ إنها لم تحمل معها أدواتها أو معداتها، مؤكدة "الله والرسم أنقذاني".

وأمجد بدر (28 عاما)، فر هو الآخر من الخرطوم تاركا خلفه آلاته ومعداته في الأستوديو الخاص به.

وأشار بدر "هذا المساء، أعزف على غيتار أعارني إياه أحد الأصدقاء"، وهو عاد إلى العزف بعد رحلة طويلة إلى القاهرة "و11 يوما أمضاها في النوم" تعويضا عن مشقة السفر في البحث عن مكان آمن.

وأضاف "كان من المهم جدا بالنسبة لي أن أعبر عمّا مررت به" من خلال الفن، متابعا "هناك فنانون سودانيون في القاهرة وكذلك في نيروبي وفي أثيوبيا"، حيث لجأ سودانيون هربا من الحرب إلى جانب قرابة 400 ألف سوداني اختاروا اللجوء إلى مصر.

في المكان نفسه، يعرض هاشم نصر (33 عاما) صورا فوتوغرافية تروي قصة عائلته وقصص المنفى والحرب والموت.

المصور الفوتوغرافي الذي كان يعمل طبيبا للأسنان، حط الرحال في مدينة الإسكندرية في شمال مصر على البحر المتوسط، حيث عاد لتسجيل اللحظات من خلال الكاميرا.

ولكنه يقول إنه "لا يعرف أحدا هنا"، مضيفا "من دون علاقات، من الصعب العثور على أشخاص يمكن تصويرهم"، ولذلك فقد اكتفى بتصوير أفراد أسرته.

ويقول أمجد بدر إنه من الصعب كذلك إيجاد "الدافع والإلهام" في مثل هذه الظروف. ولكنه يضيف بثقة "سنعود"، لافتا إلى أن "الساحة الموسيقية كانت بدأت تتطور حقا قبل الحرب، لذا فإننا سنعود قريبا أقوى مما كنا".