الكويت... الحرب الأخرى!

لم يعد هناك من هو على استعداد لدخول لعبة المزايدات التي دفعت الكويت ثمنا كبيرا لها.

ما عاد أحد في الكويت مغرما بـ"الصوت العالي" في مقاربة الأمور السياسية. حتى اولئك الذين صدرت بحقهم احكام نهائية ويعيشون اليوم في المنافي يوسطون الجميع للحصول على عفو خاص، بل يذهب اكثر المتطرفين سابقا في حدة المواقف ضد السلطة الى الطلب من زملائه النواب والسياسيين الا يزايدوا في مواقفهم لأن ذلك قد يضر سعيهم الى الحصول على العفو خاص.

الصوت الهادئ هو ما يحكم العلاقة بين رئيسي مجلسي الأمة والوزراء مرزوق الغانم وجابر المبارك، والاثنان يعملان تحت مظلة الأمير الشيخ صباح الأحمد الذي كان حازما في تحذيره للنواب بالنسبة الى ضرورة وقف لعبة المزايدات والاستجوابات لرئيس الوزراء. وهذا الصوت الهادئ أدى الى معالجات جذرية لأمور اساسية في الكويت من دون مزايدات شعبوية او مصالح انتخابية. وهو ما ترجم في الجلسة الافتتاحية لدور انعقاد البرلمان في سحب الاستجواب الذي كان مقدما من نائبين لرئيس الوزراء على خلفية قضايا عامة وخاصة اتضح لاحقا ان حلولها محسومة حكوميا.

لكن الصوت العالي عاد بقوة الى الكويت انما من رأس الهرم هذه المرة وبطريقة مختلفة، اذ زود الأمير الشيخ صباح الأحمد الحرب على الفساد أسلحة جديدة تمثلت في مجموعة مواقف علنية أهمها عند استقباله وفد ديوان المحاسبة حيث ركز عند استلامه التقرير السنوي في اسئلته على المخالفات اكثر من الانجازات، كذلك طالب الأمير في كل لقاء له مع رئيس الحكومة او الوزراء بضرورة المبادرة بالرقابة والمحاسبة من المستويات العليا وتحميل قياديي الدولة المسؤولية عن أي تقصير او او تراخ.

ووثقت الحكومة توجهات الأمير في الملتقى الحكومي الأول لـ«تعزيز النزاهة». اكّد رئيس الوزراء الشيخ جابر المبارك في الملتقى أنه لن يسمح بأن يكون هناك فساد في الجهات الحكومية وأنه سيحمّل قياديي تلك الجهات المسؤولية في حال وجود فساد.

وقال المبارك لعشرات القياديين في الدولة انه يحملهم المسؤولية «ومَن لا يستطيع مواجهة الفساد بعد أن أدى واجبه، فأرجو أن يطلب إعفاء نفسه». هذه سابقة في الكويت حيث كان عدد لا بأس به من الفاسدين يجد دائما وسيلة ما لتغطية فعلته.

كذلك كان الصوت العالي موجودا وايضا من ديوان الإمارة حين أراد الشيخ صباح توجيه رسائل الى الداخل والخارج عن الحصن الحامي للتجربة الكويتية اي الحريات وحقوق الانسان. فعندما استقبل رئيس الديوان الوطني لحقوق الإنسان واعضاءه، طالبهم بالعمل بشكل متحرر من أي وصاية او ضغط واضعين نصب اعينهم تعزيز الحريات وحقوق الانسان. ويومها تعمد الشيخ صباح ان تكون كلمته متلفزة وعلنية ومباشرة خصوصا حين قال للوفد الزائر: "ما نبيكم (نبغيكم) في مخباتنا (اي في جيبنا)، نريدكم ان تكونوا أحرارا، لكن في الوقت نفسه لا تنسوا هذه بلدكم ومثلما أنا مسؤول أنتم مسؤولون". واضاف: "أهنئكم لاختياركم لهذه المهمة الإنسانية، وفي الوقت نفسه أتمنى أن تحافظوا على سمعة بلدكم. كثير من الناس يسيئون الى حقوق الإنسان، وأنتم كلكم لكم معرفة بحقوق الإنسان". اي انه اطلق يدهم في التصدي لكل من يسيء الى حقوق الانسان في الكويت وأمرهم بأن ينجزوا عملهم من دون خوف من وساطات وتدخلات المسؤولين، ومن سيجرؤ على التدخل اذا كان رأس البلاد قال علنا ما معناه: "لا نريدكم في جيبنا كسلطة بل نريدكم احرارا في جيب الكويت".

حرب اخرى داخلية تخوضها الكويت على الفساد والتجاوزات استكمالا لحربها الخارجية من اجل تحقيق الاستقرار وابعاد المنطقة عن الأزمات والخضات. واللافت انك صرت تقرأ وتسمع في الكويت عن احالة 360 من حملة الشهادات الجامعية الى النيابة لان شهاداتهم مزورة او مشكوك فيها، كما تسمع وزيرة تقول ان هدرا حصل نتيجة خطأ كلف المال العام عشرات الملايين من الدولارات، والأكثر وضوحا هو متابعة فصول قضية ما عرف بـ"ضيافة الداخلية" التي اطاحت اسماء كبيرة من داخل وزارة الداخلية واخرى من كبار رجال الاعمال. وهي القضية التي تتلخص في ان مسؤولين من الوزارة اتفقوا مع اصحاب فنادق وغيرهم على مضاعفة فواتير ضيافة بعض الاشخاص والوفود لتصل الى ما يتجاوز 100 مليون دولار. نعم 100 مليون دولار!

أمور كثيرة تموج بها الكويت، لكنها مضبوطة بالمؤسسات القوية من جهة وبالخوف من عواصف الوضع الاقليمي من جهة اخرى. وهذا الإنضباط تحديدا هو ما طلبه أمير الكويت من عدد من النواب التقاهم بمعية الرئيس مرزوق الغانم، اذ تمنى عليهم ان ينتبهوا الى ما يجري في الإقليم ويحصنوا بلدهم من اي خضات او هزات، وفي الوقت نفسه دعاهم الى رفع سقف ممارستهم لدورهم الرقابي والتشريعي انما من ضمن المؤسسات لا بالقفز فوقها.

اذا كان لا بدّ من اختصار الوضع في الكويت، حيث استوعبت المعارضة، بما في ذلك المعارضة المتطرفة قبل غيرها، دقة الوضع الإقليمي واهمّية الاحداث التي تقع في الجوار، يمكن القول انّ هناك نوعا من النضوج السياسي في البلد. انّه نضوج على كل صعيد في وقت تستعد الولايات المتحدة لفرض رزمة عقوبات جديدة على ايران. لم يعد سرّا ان امير الكويت ابلغ النواب ان ما قبل العقوبات الاميركية الجديدة على ايران ليس كما قبلها.

تجد الكويت نفسها في وضع يفرض على الجميع تحصين الوضع الداخلي. الامر لا يقتصر على ما يمكن ان تقدم عليه ايران من ردود فعل. هناك أيضا الوضع في جنوب العراق وفي مدينة البصرة تحديدا. ليست البصرة بعيدة عن الكويت، بل هي الأقرب اليها جغرافيا وتاريخيا. يبدو الوضع في البصرة الذي هدأ نسبيا قبل أسابيع، مرشح لانفجار جديد وكبير سيكون من الصعب ضبطه، خصوصا انّ ليس ما يشير الى ان الحكومة الجديدة التي شكلها عادل عبدالمهدي مستعدة لايلاء أي اهتمام لمشاكل اهل المدينة التي تعاني من كلّ أنواع الإهمال. لم تضم الحكومة ولو شخصية واحدة تمثل البصرة وتستطيع ان تلفت السلطات العليا الى همومها ومشاكلها ومياهها المسمومة وكهربائها المعدومة.

هناك بكل بساطة حرب أخرى من نوع مختلف عن الحروب العسكرية مسرحها الكويت. اسم الحرب تحصين الوضع الداخلي. من حسن الحظ انّ ثمة وعيا على الصعيد الوطني لذلك. كان ملفتا ان جلسة افتتاح مجلس الامّة مرت بهدوء باستثناء كلمة الأمير التي تضمنت غير تحذير. لم يعد هناك من هو على استعداد لدخول لعبة المزايدات التي دفعت الكويت ثمنا كبيرا لها. في كلّ مرّة تجاوز هؤلاء اللاعبون حدودا معيّنة كان على امير الدولة التدخل عبر اللجوء الى إجراءات حازمة وحاسمة ورادعة. يتدخل الشيخ صُباح الأحمد ولكن بطريقة مختلفة. يعتمد القوّة الهادئة لا اكثر ولا اقلّ. هذه القوة الهادئة اكثر ما يلاءم المرحلة الراهنة حيث هناك هياج في غير منطقة في الخليج والشرق الاوسط.