المجالس الأدبية عند العرب من الأسواق إلى قصور الخلفاء
القاهرة ـ من أحمد رجب
لم تفرق المعاجم العربية القديمة بين المجلس والنادي، فالباحث عن مادتي (جلس، ندى) يجد لهما مدلولات متقاربة بدرجة تجعل الكلمتين مترادفتين، لكن المعاجم الحديثة تعاملت معهما بدقة أكثر فبان الاختلاف بينهما، وبان اتساع دلالة كلمة "جلس" عن كلمة "ندى"، فالنادي لا تطلق على المكان إلا إذا اجتمع الناس فيه، بينما كلمة مجلس تطلق على المكان وعلى الجماعة، كما تدل على وجود رابط ما بين المجتمعين في المكان، كأن يكونوا شعراء أو أدباء.
وقد بدأت مجالس العرب بسيطة هدفها السَمَر والفُكاهة وتبادل النوادر والأخبار، ثم تعقدت تدريجيا ببعدها عن العوام وأسواقهم، واقتصارها على الخلفاء والأمراء والأعيان، فأصبحت مجالس عامة تناقش فيها أمور متعددة دينية أو سياسية وأدبية ولغوية، وفق ما يعرض صاحب المجلس، ووفق المدعوين إليه، فلم تعد هذه المجالس عفوية يتداول روادها ما يعن لهم في لحظتهم، بل أصبح لها إعداد وتنظيم، فأصبحت مرآة للحضارة العربية في مراحل ازدهارها، وتعددت بتعدد مراكز هذه الحضارة، وامتدت بامتداد تاريخها. وغالباً ما يتخذ المجلس طابع أهله ومكانتهم من حيث البساطة أو الفخامة، فمجالس العلماء والفقراء غالباً ما تكون بسيطة متواضعة، بينما مجالس الخلفاء تكون مترفة، وتختلف هذه المجالس شكلاً ومضموناً باختلاف العصور والبيئات.
وتحفل المصادر العربية بالكثير من الكتب التي أفردت للمجالس صفحاتها، ومن أهمها كتاب الأغاني وتاريخ الطبري ومعجم الأدباء ووفيات الأعيان، وقد أبانت عن عدد يستحيل احصاؤه من المجالس، وإن ارتبط أغلبها بالشعر الذي كان ديوانا للعرب ووسيلة لحفظ أنسابهم وتواريخهم وذكر مفاخرهم، وقد غاص الكاتب السوري محمد جميل الحطاب، في بطون كتب التراث مستخرجا منها ما يخص مجالس الشعر تحديدا، في كتابه الموسوعي "المجالس الأدبية عند العرب"، والصادر مؤخراً عن الهيئة السورية للكتاب، ضمن سلسلة "آفاق ثقافية" فيتناول عبر 304 صفحات، تضم اثني عشر فصلا، هذه المجالس عارضاً لأهمها وأشهرها، ومبينا أن شعر المجالس كشف للباحثين مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية عند العرب، أيضا أدت النقاشات بين رواد المجالس إلى ظهور نزعات نقدية ساهمت رغم تواضعها على التمييز بين جيد الشعر ورديئه.
الكتاب يرصد انتقال الخلافة من الشام إلى بغداد، إثر زوال دولة بني أمية، حيث شهدت عاصمة الخلافة العباسية حركة أدبية زاهرة، وتشجيع الخلفاء لأهل العلم والأدب حتى كاد مجلس الخليفة يصبح منتدى أدبياً يفدون إليه من كل أصقاع الدولة المترامية
مجالس الأسواق
أنشأ العرب أسواقا يتبايعون فيها، فالسوق هو المكان الذي تساق إليه البضائع، ويذكر الكتاب أن المصادر أثبتت ستا وعشرين سوقا شهيرا، أهمها عكاظ، التي يصفها بأنها المعرض العربي العام أيام الجاهلية، فهي مجمع أدبي رسمى، له محكمون تضرب عليهم القباب، فما استجادوه من شعر فهو الجيد، وما رفضوه فهو الزائف، كما كانت وسيلة للإشهار، فمن أطلق عليه لقب في عكاظ عرف به، ومن أتى عملا شائنا تأباه مروءة العرب نصبوا له راية غدر في السوق لتأباه الناس وتتجنبه، ويربط الكاتب بين المعلقات التي احتلت المقام الأول بين قصائد الجاهلية، وسوق عكاظ، ويقول: كان الشعر في عصر البطولة الوسيلة الوحيدة للتعبير الأدبي عن الأفكار، وكانت القصيدة الطراز الأمثل والأوحد في الفن الشعري، ويحكى أن المهلهل المتوفى سنة 531، وهو بطل تغلب في حرب البسوس، كان أول من نظم القصائد الطوال.
أما ثاني الأسواق في الأهمية فهو سوق المِربَد في البصرة، وقد ورث عكاظ كدليل على انتقال مركز الحضارة من قلب الجزيرة العربية إلى أحد أطرافها، وكان المِربَد في الأصل سوقاً للإبل، لكن في عهد الأمويين صار سوقاً عاماً تُتخذ فيه المجالس، وهو يشبه عكاظ بالنسبة للشعر وحلقاته، بل يزيد عليه، فلكل شاعر حلقة، ولكل متهاجيين مجلس، ولكل قبيلة نادٍ وشاعر يذود عنها، فكان لجرير حلقة، وكذلك للفرزدق وذي الرّمّة وغيرهم.
ويتحدث الكاتب عن الأثر الذي تركه المربد في اللغة العربية، نتيجة اختلاط العرب بالعجم، وفي أواخر العصر الأموي والقرن الثاني للهجرة، نضجت حركة المربد الأدبية والعلمية نضجاً يتسق مع ما وصلت إليه الدولة. لكنه يأخذ على المربد إفساحه المجال للشعوبيين.
مجالس الأمراء والخلفاء
نقل أمراء الغساسنة والمناذرة مجالس الأدب من الأسواق إلى بلاطهم، وهو ما أفرد له الكتاب فصلا، عرض فيه المؤلف في هذا الفصل جملة من أخبار الشعراء الذين اعتادوا التوافد على البلاط، ومن ذلك ما حكاية النابغة الذبياني مع النعمان بن المنذر الذي غضب عليه إثر وصف النابغة للمتجردة زوج النعمان وصفاً فاحشاً، مما دفعه للهرب إلى بلاط الغساسنة، والشاعر طرفة بن العبد الذي هجا عمرو بن هند وأخاه قابوس بقصيدة كانت هذه القصيدة سبباً في مقتل طرفة بن العبد بعد أن وصل خبرها للملك فأمر عامله في البحرين بقتله.
وعلى دربهم سار الخلفاء الأمويون الذين اهتموا بالثقافة العربية فأرسلوا أبناءهم إلى البادية لإتقان اللغة وحفظ الشعر، واهتموا بعقد المجالس، ويشير الكتاب إلى المجالس الأدبية لمعاوية بن أبي سفيان، وقد كان كان يستقدم الشعراء والأدباء، ويستمع إلى قصائدهم ومناظراتهم ويشارك فيها، كما يتحدث في فصل آخر عن مجالس عبدالملك بن مروان، التي جمعت الثالوث الشعري جرير والفرزدق والأخطل، وآخرين منهم كثيّر عزّة.
ويرصد الكتاب انتقال الخلافة من الشام إلى بغداد، إثر زوال دولة بني أمية، حيث شهدت عاصمة الخلافة العباسية حركة أدبية زاهرة، وتشجيع الخلفاء لأهل العلم والأدب حتى كاد مجلس الخليفة يصبح منتدى أدبياً يفدون إليه من كل أصقاع الدولة المترامية.
ويعد مجلس الخليفة هارون الرشيد من أهم المجالس، وينقل المؤلف قول أبو منصور الثعالبي "لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك ما اجتمع بباب الرشيد من فحول الشعراء"، وحتى في الأندلس ارتبطت المجالس الأدبية بالبلاط، فيعرض الكاتب لمجالس بني عباد في الأندلس، الذين استطاعوا أن يجمعوا في دولتهم بين الزعامتين السياسية والأدبية، فتناول الكتاب مجلسي الصاحب بن عباد والمعتمد بن عباد، قبل أن ينهي كتابه بمجالس النساء، فأفرد الفصل الأخير لمجلس الأميرة ولّادة بنت المستكفي. (وكالة الصحافة العربية)