المجاهرة بالإفطار جدل يتجدد في تونس على وقع 'حرية الضمير'

مع حلول كل شهر رمضان تعيش الساحة التونسية سجالات حول ظاهرة المجاهرة بالافطار بين مؤيد لها باعتبارها تدخل في إطار الحرية الشخصية وبين رافض لها باعتبارها انتهاكا لحرمة الشهر واستفزازا لمشاعر الصائمين.

المجاهرة بالإفطار تثير سجالات حادة في تونس
المدافعون عن المجاهرة بالإفطار يجادلون بالحرية الشخصية المكفولة دستوريا
الرافضون للمجاهرة بالإفطار يجادلون بالمنطق الأخلاقي والديني
تحميل الظاهرة أكثر من حجمها يؤجج السجالات ولا يعالج أسبابها

تونس - يتجدد الجدل في تونس مع حلول كل شهر رمضان حول ظاهرة المجاهرة بالإفطار بين من يراها حقا يكفله الدستور ومن يراها انتهاكا لحرمة الشهر وبين من يعتبرها عملا مستفزا لمشاعر الصائمين.

وتعالت في الفترة الأخيرة السجالات بعد أنباء إيقاف مفطرين وأصحاب المقاهي من خارج المناطق السياحية أقدموا على فتح محلاتهم للعموم في النهار.

وأثار إيقاف شرطي لأستاذ الجامعي داخل إحدى مقاهي محافظة صفاقس جنوب شرق البلاد، قبل أيام بتهمة الإفطار في شهر رمضان، غضبا واسعا تجاه استمرار التضييق والملاحقات ضد المفطرين، في دولة ينص دستورها على حرية الضمير.

واعتبر رئيس قسم التاريخ في كلية الآداب في محافظة صفاقس التونسية عبدالمجيد الجمل الذي كان بين الذين تم إيقافهم في تدوينة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي أن ما حدث يعتبر انتهاكا كبيرا للحريات الفردية مستنكرا تعليق وزارة الداخلية عن الحادثة.

وكتب "ما نستنجه مما حدث، أن مسالة الحريات الفردية تشهد ردة ما بعد الثورة وسنواصل النضال من أجلها. وبقدر احترامنا الكبير للعديد من رجال الأمن ، فإن بعضهم وأتمنى أن تكون أقلية مازالت تحتاج إلى المزيد من التكوين على المستوى القانوني والحقوقي".

وكانت الداخلية التونسية قد أوضحت أن 'إيقاف' الجمل جاء على خلفية مشادة مع رجل أمن كان يقوم بإجراءات روتينية ولا علاقة له بالإفطار وقد أطلق سراح المذكور في حينه.

وأيدت الباحثة في القانون  رحمة الصيد ما اعتبرته حقا قانونيا للمفطرين جهرا لأسباب أخلاقية سياسية، قائلة إن دفاعها عن المجاهرة بالإفطار من منطلق قانوني، مضيفة "دفاعي عن حرية عدم الصوم تأتي من مبدأ حرية الضمير المنصوص عليه في دستور البلاد لسنة 2014 في الفصل السادس الذي يقضي بعدم الدخول في ضمائر الناس وعدم محاسبة المفطر أو المختلف عن السائد".

وينص الفصل السادس من الدستور على أن "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. وتلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها."

وأوضحت الصيد أنه وفي سياق البحث عن الأساس القانوني لغلق المقاهي في رمضان وتتبع المفطرين تبين أن الأمر يتم بناء على منشور يعود لسنة 1981 معروف بمنشور مزالي كان ألغاه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بعد أيام من صدوره وتم إعادة تفعيله مع نظام بن علي.

رحمة الصيد
رحمة الصيد

وقالت "لدى تفحصنا أكثر تبين لنا أن المنشور غير موجود لا في الرائد الرسمي ( الجريدة الرسمية) ولا في المطبعة الرسمية، كما طالبنا هيئة النفاذ للمعلومة بالإطلاع على هذا المنشور فلم نتلق أي جواب وحتى اليوم لا يوجد أي مبرر قانوني لغلق المقاهي وحجب الواجهة وغيرها من الإجراءات".

 وكانت وزارة الداخلية التونسية قد أعادت بتاريخ العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 تفعيل القرار الذي يعرف باسم "منشور مزالي" نسبة إلى وزير الداخلية الأسبق والذي شغل أيضا منصب الوزير الأول في آخر حكومة تونسية في عهد بورقيبة محمد مزالي الذي أصدره عام 1981 ، والذي يقضي بحظر فتح المقاهي في شهر رمضان.

وفي المقابل لم يؤيد الدكتور في علم الاجتماع الطيب الطويلي ظاهرة المجاهرة بالإفطار، مشيرا إلى ضرورة تجاهل المفطرين الذين حصر أغلبهم في مجموعة من المراهقين تريد الظهور في ثوب مختلف عن المجتمع.

وقال "نلاحظ أن المجاهرة بالإفطار في رمضان في المجتمع التونسي ترتفع عند فئات عمرية معينة هم الشباب، حيث تظهر هذه الظاهرة بشكل جلي أمام المعاهد الثانوية وفي الجامعات، اذ يحاول الشاب إبراز سيجارته أو إظهار إفطاره. والأمر هنا لا يتعلق بعلاقة الشاب بالدين، كما أن قيامه بهذه السلوكيات لا تعبّر عن نظرة معمقة أدت إلى إعادة تشكيل  لوعيه الديني، وإنما هي تمثّل سلوكيات التمرد التي ترافق مرحلة المراهقة والتي يحاول عبرها أن يظهر اختلافه عن المجتمع ونشوزه عنه، ويحاول أن يبيّن تميزه عن باقي الأفراد. ويكون شهر رمضان فرصة لبعض المراهقين لإعلان اختلافهم وقدرتهم على الرفض وعدم الانقياد والانصياع للبنية الاجتماعية السائدة."

ويرى الدكتور الطويلي أن عدم الاهتمام بسلوك هؤلاء هو الطريقة الأمثل وذلك لسببين، أولهما أن المفطر قد يكون قد أفطر لأسباب صحية أو شرعية لا نعلمها ولا حاجة لنا كي نعلمها، وثانيهما أن المجاهر بالافطار قد يكون قام بذلك لأسباب نفسية أو سياسية أخرى يحاول بها استفزاز الصائم والحل هنا في تجاهله وعدم منحه الفرصة للوصول إلى مبتغاه. 

وأضاف "إعطاء مسألة التجاهر بالإفطار حجما أكبر من حجمها يمثل خطأ تقديريا، باعتبار أننا بهذا نمنح المجاهرين القيمة المعنوية والنجومية التي كانوا يبتغونها من وراء مشهدية الإفطار العلني ومسرحته".

الدكتور الطيب الطويلي
الدكتور الطيب الطويلي

واختتم الدكتور الطيب الطويلي بالقول إن المجتمعات تتكون غالبا من أفراد تتشابه في معظمها في الأفكار والمعتقدات والآراء واللغة والتقاليد والأعراف كما تجمعهم هوية واحدة وخصائص مشتركة تكون شخصية المجتمع، لكن هذا التشابه والتجانس لا يتعارض مع أهمية التنوع والاختلاف في المجتمع والذي يكوّن ركيزة من ركائز البناء الثقافي وحتى الديني للمجتمع. كما لا ننسى أن الدين الإسلامي قائم على تعدد المذاهب وعلى الحرية في الإيمان. ولهذا من الواجب إرساء ثقافة التسامح و احترام حرية الآخر وتفكيره وآرائه السياسية والدينية.

وانتقدت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان استهداف المقاهي المفتوحة نهارا مؤكدة أنها ستواصل الدفاع عن الحريات الفردية.

وفي تعليقها على حادثة ايقاف الأستاذ الجامعي في صفاقس، اعتبرت المنظمة ما حدث "انتهاكا صارخا لكل المعاهدات والقوانين المصادق عليها بالبلاد التّونسية، والتي تنتصر للحقوق والحريات الفردية وحريّة المعتقد والضمير على غرار الفصل 6 من دستور 2014 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الفصل 18 وكذلك مثل هذه الانتهاكات تعدّ تجاوزا للعهد الدولي للحقوق المدنيّة والسياسية في الفصل 18".

من جهته يرى الشيخ بدري المدني الباحث في  الفكر الإسلامي أن الطريقة المعتمدة في مكافحة المجاهرين بالإفطار أحدثت تشنجات كان في الإمكان تجنبها.

واعتبر أن التعاطي مع المفطرين في رمضان في تونس كان يمكن أن يمر مرور الكرام لو لا بعض الشطحات التي يدعي أصحابها الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو حرص في غير محله، فالمحاولات التي ادعت مكافحة المجاهرة بالإفطار خلقت فتنة وتشنجا وردود فعل تحولت إلى العنف والمحاكم والسباب وهذا كله لا صلة له بالدين ولا برحمته ولا بسماحته ولا أيضا بجوهر الإسلام المقام على الحرية الفردية ولا يعقل أبدا أن يوافق الإسلام على أن يكون الفرد مقيدا. ولا يعني هذا أن تكون الحرية مطلقة تسمح بالاعتداء على الآخرين.

وتابع أنه لا يجوز كبت الحرية أو قتلها وإنما ترشيد استخدامها في إطار العقل والحكمة. و من حق المجتمع كبح جماح أفراده عند ممارستهم لحرية الفكر والرأي بمراعاة الضوابط التي توضع في هذا الشأن.

وهذا الكبح لا يعني التقييد المطلق والزجر العنيف بل بضبط قوانين تراعى فيها احترام خصوصية كل مواطن. والحقيقة أنه قبل القوانين وقوتها الردعية. يكون الوعي وزرع بذوره هو السبيل الأفضل والأقدر على بناء علاقات متينة بين الناس فلا الصائم يجاهر بصومه ويجاهر بعنفه وتعديه على حريات الناس ولا المجاهر بالإفطار يجاهر بالإفطار مستفزا. قد يكون الأدب واللياقة والتحضر سبيل قويم للقضاء على الفتن المجانية والتشنجات الواهية التي تمزق ولا  تبني.

ومن المتوقع أن يستمر سجال المجاهرة بالإفطار في تونس كل سنة ما دامت الدولة تضع قوانين متضاربة في شأن الملف نفسه، ففي اليوم الذي تحسم فيه سلطة الإشراف إما العمل بالفصل السادس من الدستور أو منشور المزالي حينها سيكون المشهد أكثر وضوحا وأقل تعقيدا.