المحاصصة كقاتل للديمقراطية

أعمق أنظمة المحاصصة وأعقدها يبقى في شمال اليمن الذي أوجد تزاوجاً مُركباً ومعقداً للغاية في مطلع الستينيات الميلادية مع خروج ثلة من العسكريين على حكم الإمامة وما تشكل من صراع مستدام تداخلت فيه الأبعاد المذهبية الزيدية والقبلية.

بقلم: هاني سالم مسهور

قد لا يشعر اللبنانيون أنهم يحملون على عاتقهم مسؤولية تاريخية تتجاوز حدود لبنان إلى ما هو أبعد من ذلك، فشعوب أخرى ترى في الحراك اللبناني الفرصة لكسر «التابوهات»، التي صنعتها أنظمة حكم في اليمن والعراق، عبر اختزال النظام الديمقراطي في المحاصصة التي شكلت أنسجة الحكم السياسي.

اللبنانيون لا يثورون فقط على الفساد السياسي والمالي، الذي أغرقهم في تردي الحياة الاقتصادية، بعد أن شكلت المحاصصة الطائفية قاعدة تقاسم السلطة في بلد خرج مثخناً من جراحات الحرب الأهلية الطويلة، ليخرج عبر المحاصصة الطائفية من سنوات الحرب لسنوات توزيع البؤس على الشعب، وقد يكون لبنان نموذجاً من أهم نماذج الفشل السياسي، وإن كانت الحاجة لها ضرورة سابقة في زمن سابق، لكنها كرست الفشل السياسي في مجتمع لم يعد يحتمل مزيداً من هتك النسيج الوطني اللبناني.

إشكالية عربية خالصة تتمثل بتكييف النظام الديمقراطي على مقاسات المجاميع الممتلكة للقوة الأيديولوجية والمناطقية بحسب ما تمتلك من قوة عسكرية، حالة التكييف للأنظمة الديمقراطية وإخضاعها للأدلجة، بمختلف أشكالها وأنماطها، ليست طارئة في عدد من البلدان العربية، فمرحلة التحرر من الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين الفائت ومع صعود المد القومي العروبي، جاءت حالات عمقت ما يمكن أن يكون مزاوجة بين الدولة واللادولة، بحيث تحتفظ القوى التقليدية في المجتمعات بكامل سلطاتها، ولكن عبر إخضاع النظام الديمقراطي لنفوذها، لتحقيق غاياتها وأهدافها التي تظل محصورة في محافظتها على الثروة.

أعمق أنظمة المحاصصة وأعقدها يبقى في شمال اليمن الذي أوجد تزاوجاً مُركباً ومعقداً للغاية في مطلع الستينيات الميلادية مع خروج ثلة من العسكريين على حكم الإمامة، وما تشكل من صراع مستدام تداخلت فيه الأبعاد المذهبية الزيدية والقبلية، فصنعت شكلاً فريداً في السلطة القائمة على المحاصصة بين قوى متداخلة، لم تتوقف صراعاتها الدموية على مدى عقود، بدأت من 1962 في إطار ما يسمى النظام الجمهوري.

العراق نموذج آخر من نظام المحاصصة، وإنْ كان حديثاً مع الغزو الأميركي الذي أسقط نظام صدام حسين في 2003، المحاصصة العراقية ارتكزت على البُعد الطائفي الذي ظل كامناً في الجغرافية العراقية حتى بُعث في غمرة تهاوي أركان الدولة السياسية، مع عدد من العوامل أسهمت في هذا التكوين وقبول ما بعد الدولة القومية بنظام اللادولة. وتبدو سنوات الدم العراقية القاسية بما احتوته من عنف وفوضى نتاجاً لتقاسم السلطة السياسية، ومن خلالها توزعت الثروة وتشكلت القوات العسكرية الفاقدة للانتماء الوطني لتلك الانتماءات العابرة للأوطان.

لبنان الذي وجد في اتفاق الطائف 1989 فرصة لوقف الحرب الأهلية على توافق سياسي، تحولت الفرصة التي أتيحت للبنانيين لثقب طائفي أسود استنزف لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بتأثير النفوذ الطائفي، ثلاثة عقود من الاستقطاب القائم على المحاصصة الطائفية تحولت بمفاعيل تصاعد القوى الخارجية، وما امتلكه الفصيل المكون لـ«حزب الله» من قدرات عسكرية أصبحت أقوى من الجيش، وأضعفت كافة القوى الأخرى لمصلحة الخطاب الأحادي، الذي فرض تغيير التوازنات التي قام بموجبها اتفاق الطائف.

المفارقة اللبنانية أن اتفاق الطائف اعتمد في مادته الأولى إصلاحات بنيوية، وأن الاتفاق مرحلي للانتقال السياسي، إلا أن المحاصصة الطائفية تسابقت في إخضاع الاتفاق وفق تصورها وأفقها، مما كرس الفشل السياسي، بدلاً من أن يكون نافذة للخروج من المأزق، فحول الفرقاء أنفسهم الاتفاق إلى أزمة تفاقمت وتعاظمت مع مرور السنوات، فيما كانت كل قوى طائفية تستقوي لتثبيت وجودها وتعمل على تحصين فسادها المالي، دون اكتراث بما يذهب إليه الوطن اللبناني من مصير، حتى وإن تحول لبنان إلى لغم قابل للانفجار في أي وقت.

مفهوم خاطئ كرسته الفئة السياسية التي تصر على أن المشاركة السياسية تعني المحاصصة، وبذلك تختزل مفهوم الدولة الديمقراطية وفق ما توفره من غطاء تمرر به حضورها وتحمي به فسادها، هذا الانحراف يهدم الدولة ككيان سياسي، ويؤدي حتماً لهدم الديمقراطية كنظام قادر على حمل الأوطان وصيانتها، عبر تعزيز مبادئ الفرص المتساوية للأفراد الذين لهم الحق الأصيل في سيادة القانون، وليس سيادة المحاصصة للأحزاب أو القبائل أو المتنفذين.

الأنظمة العربية عليها أن تقرر مع كل هذه الاضطرابات التي هزت العديد من عواصمها وأغرقتها في الفوضى، أن لا خروج من الأزمات بغير تحقيق القيم الديمقراطية لكيانات الدولة الوطنية عبر العلمانية الفاصلة بين القانون وسيادته، وبين كافة المسارات الأخرى التي أدت في نهايتها لفشل الدولة في القيام بأهم التزاماتها المتمثل في أن الدستور نواة الديمقراطية، وأن احترام هذا القانون سيؤدي لتوفير كافة متطلبات الشعب من دون احتكار السلطة لفئة دون فئة أخرى.

أدلجة الأنظمة السياسية فعلٌ منافي للدولة الوطنية الجامعة، وهذا حصاد لا يمكن تجاوزه في أنظمة سياسية دفعت فيه شعوب العراق ولبنان واليمن وغيرها أثماناً باهظة، ولن تتوقف بغير الإقرار الكامل بأن الحلول يجب أن تتوافق تماماً مع ديمقراطية كاملة وعلمانية صريحة، فحالة الاشتباك يجب أن تنتهي لتتخلص هذه الشعوب من أزمات الفقر والجهل والمرض المستدامة، وتتحول إلى مشاريع تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة.

نُشر في الاتحاد الإماراتيَّة