المريض الايراني والعراق

هناك رغبة أميركية واضحة في تفادي سقوط العراق. تترافق هذه الرغبة مع رهان اميركي على ان العراقيين يريدون بالفعل استعادة بلدهم.

يدل مجيء نائب الرئيس الاميركي مايك بنس الى كردستان العراق والى قاعدة عسكرية أميركية في محافظة الانبار على ان في واشنطن من ليس مستعدا للتساهل مع ايران. يكفي اتصاله الهاتفي بعادل عبدالمهدي رئيس الوزراء العراقي وتحذيره من النفوذ الايراني في العراق لتأكيد ذلك.

تتصرّف الإدارة الاميركية الحالية، اقلّه الى الآن، بطريقة حازمة مع ايران بغض النظر عن وضع الرئيس دونالد ترامب والصعوبات الداخلية التي تعترض إعادة انتخابه رئيسا في تشرين الثاني – نوفمبر 2020. تعكس هذه الصعوبات الحقيقية جلسات الاستجواب في الكونغرس التي محورها الضغط الذي يُقال انّ ترامب مارسه على أوكرانيا من اجل ملاحقة نجل جو بايدن نائب الرئيس السابق الذي يحتمل ان يكون منافسه من الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

المهمّ ان في هذه الإدارة الاميركية نواة صلبة تعرف ما هي ايران ولا تحيد عن الخط المتشدد الذي رسمه أصلا دونالد ترامب الذي مزّق الاتفاق في شأن ملفّها النووي الذي وقّع في تموز- يوليو من العام 2015 في عهد الرئيس باراك أوباما. كان اوباما مأخوذا بايران وكان يختزل كلّ أزمات الشرق الاوسط والخليج بملفّها النووي، غير آبه بانّ المشكلة مع ايران لم تكن يوما في هذا الملفّ بمقدار ما انّها في مكان آخر. المشكلة في السلوك الايراني خارج ايران، بما في ذلك العراق، وفي الإصرار على امتلاك أسلحة تهدّد بها جيرانها مثل الصواريخ الباليستية.

تبيّن ان هذه النواة الصلبة في الإدارة الاميركية تعرف الكثير عن ايران وتعرف خصوصا ما تفعله في العراق الذي تحوّل بسبب ادارتي بوش الابن واوباما الى شبه مستعمرة إيرانية. هل حرّرت الولايات المتحدة العراق من حكم صدّام حسين ودفعت كلّ هذا الثمن من اجل ان يتحوّل العراق في نهاية المطاف الى جرم يدور في الفلك الايراني... بل الى مكان تمارس منه طهران سياسة الابتزاز التي تتقنها في التعاطي مع واشنطن وذلك منذ ما يزيد على أربعين عاما عندما كان جيمي كارتر رئيسا؟

يتبيّن حاليا ان إدارة ترامب تضمّ مسؤولين يعرفون تماما الشرق الاوسط والخليج ويعرفون خصوصا ايران وما تفعله منذ أربعين عاما. هناك نائب الرئيس بنس وهناك وزير الخارجية مايك بومبيو الذي يمتلك خطابا سياسيا واضحا لا لبس فيه عندما يتعلّق الامر بايران. لم يؤثر خروج جون بولتون من الإدارة على السياسة الخارجية. صحيح ان بولتون كان صقرا وكان من دعاة الرد عسكريا على ايران، الّا ان الصحيح ايضا انّ من المهمّ جدا تفادي السقوط في الفخّ الايراني. تبيّن بكل بساطة ان للعقوبات على ايران فعالية اكبر بكثير من أي مواجهة عسكرية معها كانت تسعى اليها بنفسها للظهور في مظهر من يتصدّى لاميركا في المنطقة.

في كلّ الأحوال، كشفت الاحداث الأخيرة مدى رفض الشعب العراقي لإيران. كشفت أيضا حجم الضغوط الايرانية على العراق ومدى ارتباط مستقبل النظام الايراني بنفوذه في العراق. من هذا المنطلق، كان تحذير نائب الرئيس الاميركي لعادل عبد المهدي في محلّه في وقت ليس ما يشير الى الثورة الشعبية في ايران مجرّد حدث عابر. كذلك، ليس ما يشير الى انّ الشارع العراقي مستعد للاستكانة والرضوخ للامر الواقع الذي تسعى ايران الى فرضه، بما في ذلك ابقاء عادل عبدالمهدي في موقع رئيس الوزراء.

يأتي التحذير الأميركي في توقيت مناسب. لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هل عادل عبدالمهدي رجل المرحلة في العراق... ام انّه رجل ايران؟ سيكون على الرجل الاختيار بين مصالح العراق ومصالح ايران. أي بين ما يطمح اليه المواطن العراقي الذي يعرف ان "الجمهورية الإسلامية" لا تمتلك منفذا حيويا للالتفاف على العقوبات الاميركية باهمّية المنفذ العراقي.

مرّة أخرى، يستحيل الاستخفاف بما تشهده ايران من انتفاضة شعبية مستمرّة أظهرت عمق الانقسامات القومية وافلاس النظام. هناك افلاس إيراني على كلّ صعيد، سياسيا واقتصاديا وحضاريا، ذلك انّ ليس لدى النظام الايراني من أسلوب آخر يتعاطى به مع مواطنيه غير القمع. هؤلاء المواطنون كانوا على استعداد للتراجع في الماضي، كما حدث في العام 2009 ابان "الثورة الخضراء". كان لديهم ما يخسرونه. لم يعد في السنة 2019 لدى الايرانيين ما يخسرونه في ظلّ نظام لم يجد بديلا من الاعتماد على دخل النفط والغاز الذي استطاعت الولايات المتحدة عبر العقوبات تقليصه الى ابعد حدود.

في المقابل، هناك لدى العراقيين ما يخسرونه. انّ تخلّصهم من ايران سيعيد للعراقي كرامته قبل ايّ شيء آخر. فضلا عن ذلك، ان تقلّص النفوذ الايراني سيساعد الى حدّ كبير في تفادي قيام نظام عراقي على الطريقة الايرانية. بكلام أوضح، سيعني ذلك تفادي تطبيق تجربة "الحرس الثوري" الايرانية على العراق عن طريق "الحشد الشعبي" الذي ليس سوى مجموعة من الميليشيات المذهبية التي تدار من طهران.

الأكيد ان الوضعين العراقي والإيراني ليسا سهلين. لكنّ الأكيد أيضا ان التحذير الاميركي لعادل عبدالمهدي هو تحذير مدروس. هناك رغبة أميركية واضحة في تفادي سقوط العراق. تترافق هذه الرغبة مع رهان اميركي على ان العراقيين يريدون بالفعل استعادة بلدهم. يحدث ذلك في وقت لا رهان إيرانيا آخر غير الرهان على سقوط ترامب. تبيّن ان هذا الرهان ليس في محلّه. هناك إدارة تعمل وتعرف ما تريد بوجود المقيم في البيت الأبيض وفي غيابه، خصوصا عندما يتعلّق الامر بالموضوع الايراني. لعلّ اهمّ ما في ذلك كلّه ان مفعول العقوبات الاميركية بدأ يظهر وبات العراقي يعرف ان المريض الايراني لم يأت لمعالجته، بل جاء لينزع أي امل في تحسّن الوضع في هذا البلد المهمّ الذي كان بين مؤسسي جامعة الدول العربية.

لم يخسر العراق الحرب مع ايران، وهي حرب استمرّت ثماني سنوات كي يستسلم لها. قاوم العراق محاولة تصدير الثورة الايرانية اليه بشراسة ليس بعدها شراسة بين 1980 و1988. دفع غاليا ثمن تلك المقاومة التي تجددت في السنة 2019 في ظل رغبة شعبية عارمة في الانتماء الى ثقافة الحياة وليس الى ثقافة الموت والفساد التي تسعى ايران الى فرضها على البلد الجار. انّه رهان عراقي في محلّه، لا لشيء سوى لان ليس لدى ايران أي علاج لا للعراق ولا لغير العراق. ليس هناك سوى الخراب والدمار حيثما حلت ايران، اكان ذلك في لبنان او سوريا او اليمن. وهذا ما يراه العراقي العادي بامّ عينيه... على امل ان يراه عادل عبدالمهدي يوما!