المضمار من بعد بولت في أم الالعاب

عالم ألعاب القوى يستعد لاختبار أول سباق منذ اعتزال الاسطورة الجامايكية، وتوقعات بغياب الموهبة القادرة على خطف الانظار والأرقام القياسية.

باريس - يستعدّ عالم ألعاب القوى لاختبار أول ألعاب أولمبية منذ اعتزال الاسطورة الجامايكية أوسين بولت: تفتقد أم الألعاب للبرق القادر على خطف الانظار والأرقام القياسية.

شرسٌ في المضمار وشخصية استثنائية: لم يبن بولت أسطورته على الالقاب والأرقام القياسية التي لا تقارن فحسب، بل أضفى رونقاً خاصاً على نتائجه بنوع من الاستعراض الفطري وهذا ما ستفتقده أم الألعاب كثيراً في أولمبياد طوكيو الصيف المقبل.

ومن 2008 حتى 2016، كان "البرق" الشخصية المركزية الأكثر استقطاباً في الألعاب الأولمبية بأكملها وليس في ألعاب القوى وحسب، محققاً في طريقه إلى المجد ثماني ذهبيات وأزمنة صاروخية.

وبوداعه لأم الألعاب في صيف 2017 بعد مونديال لندن، ترك الجامايكي فراغاً كبيراً جداً سيكون من الصعب على أحد أن يسدّه، أقله في المستقبل القريب.

فرض الجامايكي نفسه معشوق الجماهير والمعلنين وكان حالة فريدة في تاريخ ألعاب القوى، وبابتسامته العريضة التي لا تفارق محياه ورقصات قصيرة قبل كل سباق، قدّم بولت على المضمار مرحاً يناقض الحركات الآلية المعتادة للعدائين.

أما حركة "البرق" الشهيرة التي يمدّ من خلالها يديه وذراعيه نحو السماء، فتحوّلت الى أشبه بعلامة مسجّلة باسمه بعد كل فوز، وتكرّر تقليدها في العالم بأسره حتى من قبل الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما عندما قام بزيارة رسمية إلى جامايكا عام 2015.

صحيحٌ أن هناك الكثير من المواهب التي لا يجب تهميشها، مثل نجم القفز بالزانة السويدي أرمان دوبلانتيس، لكن أحداً ليس باستطاعته منافسة سحر بولت وشهرته.

وما يزيد من حجم الفراغ أن سباق المئة 100 م الذي عادة ما يكون الأكثر استقطاباً وأهمية في الألعاب الأولمبية أو أي لقاء وبطولة، يفتقد أيضاً بطل العالم الأميركي كريستيان كولمان بسبب الإيقاف لعامين نتيجة تخلفه ثلاث مرات عن فحص المنشطات. 

"كاريزما" لا تضاهى 

وكان رئيس الاتحاد الدولي لألعاب القوى البريطاني سيباستيان كو مدركاً لحجم الفراغ الذي سيخلفه اعتزال بولت "العبقري الذي يتمتع بكاريزما لا تضاهى في تاريخ رياضتنا وفي الرياضة بشكل عام" بحسب ما أفاد قبل اعتزال الجامايكي.

أضاف "لا يوجد إلا (الملاكم الاميركي الراحل) محمد علي الذي يمكن ان يقارن به. أنا أضع الاثنين في خانة واحدة. لم يبلغ بولت هذا المستوى من العظمة عالميا بسبب ألقابه وأرقامه القياسية فقط، وانما أيضا بفضل شخصيته".

كان السباق دائما بمثابة تسلية لحامل الرقم القياسي لسباقي السرعة (9.58 ثوان في 100 م و19.19 ثانية في 200 م)، حتى أن بولت المحبّ للسهر والموسيقى والرقص، لم يخف عدم جديته في التمارين، ما سبّب مصاعب ومشاكل لمدربه و"معلّمه" غلين ميلز.

كسر بولت بأسلوب حياته الصاخب المحب للمرح والدعابات، القواعد السائدة في العالم الصارم لألعاب القوى. الأمثلة عديدة: رقصة "سامبا" مرتجلة مع راقصات برازيليات في ختام مؤتمر صحافي قبيل انطلاق دورة الالعاب الاولمبية الصيفية 2016 في ريو دي جانيرو، أو رمي رمح ليلاً في ملعب فارغ بعد ساعات من إحرازه ذهبيته الثالثة في الاولمبياد البرازيلي...

وما يزيد من حجم المشكلة التي يواجهها القيّمون على ألعاب القوى، أن التوقف القسري الذي فرضه تفشي فيروس كورونا لأشهر عدة وتسبّبه بإلغاء الكثير من الأحداث، جعل الناس يفتقدون الى النجم المرجع الذي يمكن أن يروا فيه مثالهم الأعلى أو بطلهم المستقبلي.

كما أن إقامة بطولة العالم الأخيرة عام 2019 في الدوحة خارج موعدها التقليدي في فصل الصيف، أثّر على الحضور الجماهيري وعلى شعبية اللعبة.

منذ وصوله على رأس الاتحاد الدولي في 2015، وضع كو إصبعه على حاجة ألعاب القوى التي قوّضتها قضايا الفساد والمنشطات، الى توسيع جمهورها من أجل استعادة شعبيتها في مرحلة ما بعد بولت.

وأطلق الاتحاد الدولي الذي بات اسمه "وورلد أثلتيكس"، استشارة مفتوحة للجميع ومتاحة على الإنترنت باثنتي عشرة لغة، من أجل رسم ملامح هذه الرياضة للسنوات المقبلة.

وقال الاتحاد الدولي إنه "لأوّل مرة في تاريخنا، تتواصل ألعاب القوى العالمية مع المجتمع الدولي لألعاب القوى بأكمله للمشاركة في محادثة عالمية والمساهمة بالأفكار والتعليقات التي ستشكل الاتجاه المستقبلي للرياضة للعقد المقبل".

وستكون نتائج تبيان الآراء بمثابة أساس لخطة إستراتيجية للفترة الممتدة من 2021 حتى 2030.

مرنة

وقال ويلي بانكس، عضو مجلس الاتحاد الدولي "وورلد أثلتيكس" والذي يرأس مجموعة العمل المشرفة على هذا المشروع، لوكالة فرانس برس أنه "يتعيّن على مجتمع ألعاب القوى مناقشة كيف ينبغي أن تتطوّر رياضتنا في بيئة جديدة، وما نوع الابتكارات التي نريدها، وكيف يمكن لرياضتنا أن تجتذب جمهوراً أكبر".

وبالنسبة إلى حامل الرقم القياسي العالمي السابق في الوثب الثلاثي خلال فترة الثمانينات، تظلّ ألعاب القوى رياضة "مرنة"، مضيفاً "بعد اعتزال كارل لويس أو سيرغي بوبكا، واصلت (الألعاب) نموها. خسرنا بولت، رياضي جيل ما سيستغرقنا بضعة أعوام للتأقلم، لكن هناك جيلاً آخر من الرياضيين الذين يشقون طريقهم والذين سيستقطبون انتباه الجمهور".

لكن بالنسبة لريمي شاربانتييه، مدير لقاء موناكو لألعاب القوى الذي استضاف الجامايكي مرتين (2011 و2015)، يعتقد أنه "يجب ألا نسعى بأي ثمن لايجاد النجم الجديد".

وأوضح لوكالة فرانس برس "لن يكون هناك تركيز على شخصية واحدة وسنعود إلى ما كنّا نعرفه سابقاً. لقد جلب بولت قيمة مضافة لألعاب القوى ولكن المنتج كان قيّماً في الأصل. الدليل أن الدوري الماسي وقّع في نهاية عام 2019 مع شريك رئيس (المجموعة الصينية واندا) بعد عامين من اعتزال بولت".

لكن في تصريح لفرانس برس قبيل اعتزال بولت، قال المتخصص في الاقتصاد الرياضي فنسان شوديل إن "ثقله (بولت) الاقتصادي مرتبط بعاملين: الأول هو ثقله الرياضي، والثاني هو الناحية الاستعراضية في رياضة تفتقر إلى نجوم اعلانات. لقد عرف كيف يتلاعب بقواعد مجتمع اليوم. نعيش في عصر الصورة والاتصالات، وقد تلاعب بذلك حتى العمق".

تعزّزت "هالته"، بحسب شوديل، لكون مسيرته لم تشبها شائبة في مجال الخشية من المنشطات، موضحا انه "من الرياضيين اصحاب الحركات التقنية الصافية مثل (نجم كرة المضرب السويسري) روجيه فيدرر الذي لا يمكننا ان نتخيل للحظة تأثره بهذا النوع من الآفات".