المعجزات.. والإسلام العقلاني

تكاثر المعجزات وتضخمها كان يُلبّي حاجات مجتمع مجهض، مجتمع بدأ يتراجع عن توقه العقلاني تحت وطأة الهزائم على أرض الواقع، فكأن ما لا يدركه في الواقع، يتوهم أنه سيدركه في عالم الخيال.

بقلم: محمد المحمود

لم يأتِ الإسلام بمعجزة/خارقة حِسيّة تتحدّى قوانين العالم الطبيعي الأزلي/الأبدي. لا يوجد ـ على سبيل الثبوت القطعي، ولو بالنقل المتواتر ـ ما يشير إلى أن معجزة كهذه حدثت ـ ولو لمرة واحدة ـ في تاريخ الحراك النبوي، لا قبل البعثة (المُبشّرات) ولا بعدها.

فالقرآن، والمصدر القطعي الثبوت عند جميع المسلمين، لا يقف على الحياد هنا، بل هو يضيء هذه المسألة حتى ينجلي نهارها؛ إذ بينما هو لا يثبت أية معجزة حسية لصاحب الرسالة/ النبي الأعظم، نجده يُثبت كثيرا من المعجزات الحسيّة للأنبياء/ الرسل السابقين، راصدا هذه المعجزات/ الآيات من زوايا مختلفة/ متعددة؛ تدعيما لحضورها في معترك الخصام مع غير المؤمنين، على اعتبار أن مشروعية نبي الإسلام منخرطة في مشروعية أعم، هي مشروعية أنبياء السماء المتسقون في نسق التوحيد.

ثمة سؤال يتخلق هنا ابتداء، ولكنه قابل للنمو والتمدد في أكثر من اتجاه، وهو: لماذا نجد القرآن الذي حفل بسجل كبير لمعجزات الأنبياء السابقين، يبدو وكأنه يصر على نفي أية معجزة حسية لنبي الإسلام؛ إلا معجزة القرآن ذاتها؟ لماذا القرآن هنا لا يخلو فقط من إثبات المعجزات الحسية (مع أن هذا وحده يكفي لنفي حدوثها)، بل هو يؤكد ـ وبإلحاح شديد ـ أن نبي الإسلام لن يأتي بمعجزة؛ مهما كان حجم الطلب عليها من قبل المشركين المعاندين الذي يطرحون تحدي المعجزة؛ كشرط للاقتناع برسالة الإسلام وبصدق نبي الإسلام؟

بينما كان القرآن يقص أخبار الأولين، ويحدد مسار الأحداث الرسالية السابقة المدعومة بمعجزات حسية تنتهي دائما بحسم المعركة لصالح المؤمنين، مشيرا ـ على نحو ضمني ـ إلى أن القرشيين المعاندين/ الكفار قد يواجهون المصير نفسه، كان هؤلاء القرشيون المعاندون يطالبون بمثل معجزات الأنبياء السابقين الذين يتماها معهم نبي الإسلام، والقرآن يرد عليهم قولهم، لا بإنكار معجزات السابقين، ولا بالوعد بمثلها لنبي الإسلام، بل بالإحالة على أمر آخر، أمر يقع خارج مسار الطلب والرفض، أمر يتعلق بالنتائج العملية/ الدعوية للمعجزات السابقة، وهذا ما يتضح في الآيتين 5 و6 من سورة الأنبياء: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}.

إذن، المعارضون للرسالة المحمدية يطالبون بأن يتخذ الإسلام نفس مسار الرسالات السابقة التي ينتسب لنسقها الرسالي العام، حيث المعجزات المتتابعة المشهودة، والشاهدة لصدق الرسالة، تدعم موقف المرسل، بينما الإسلام لا يني يؤكد لهم أنه، وفي هذه المسألة خاصة/ هذه المسالة التي تستلزم خرق قوانين الطبيعة، سيكون استثناء من النبوات السابقة، وبالتالي؛ لن يأتي بالمعجزات التي اشترطوها للاستجابة. وطوال زمن الدعوة، يتكرر طلب القرشيين وغيرهم مرارا وتكرارا، ويتصاعد هذا الطلب إلى مستوى التحدي الصريح، وفي كل مرة يتكرر ـ وبصور وتعابير مختلفة ـ رفض الإسلام، وتأكيده الحاسم: لا آية/ لا معجزة في هذا العالم/ عالم الشهادة.

إن هذا الرفض القرآني الصريح لطلب المعجزات يرد في كثير من الحوارات مع غير المؤمنين. إنه ليس حدثا عابرا، ولا منازعة ظرفية، إنه رفض يتمفصل على كثير من محاور الجدل مع غير المؤمنين، ويتكفل القرآن ذاته بتسجيله في كثير من الآيات، كما في قول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية 59 من سورة الإسراء، وأيضا {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الآية 37 من سورة الأنعام، و{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِين} الآية 50 من سورة العنكبوت، و{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} الآية 20 من سورة يونس، و{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} الآية 118 من سورة البقرة، و{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية 109 من سورة الأنعام.

إن مَن يتأمل الجدل الدائر هنا، سيلاحظ أن كل هذه الآيات ترفض طلب المعجزات على نحو واضح؛ حتى وإن كان أسلوب الرفض متنوعا حسب السياق، فمرة يتعلق الرفض بطريقة استجابة السابقين (التجربة السابقة لا تساعد على تكرارها)، ومرة بربط ذلك بالمشيئة الإلهية المتعالية التي تفعل ما تريد؛ كيفما تريد؛ وفي الوقت الذي تريد، ومرة بربط ذلك بمسار غيبي يجهله البشر المخاطبون، ومرة بالتأكيد أن في الدعوة ذاتها كفاية لمن أراد الهداية، ومرة بوضع النتيجة في المقدمة، أي بالتأكيد على أنهم لن يؤمنوا حتى ولو شاهدوا كل أنواع المعجزات، وفي كل الأحوال؛ ثمة إصرار واضح على أن المعجزات الحسية لم تحدث ولن تحدث مهما كانت النتائج/ ردود أفعال المخاطبين.

بل وأكثر من كل ذلك، نجد أن القرآن يخاطب النبي بما يؤكد أن الاستجابة لطلب المعجزة لن تتحقق حتى لو كان النبي نفسه يرغب في ذلك؛ حتى يؤمن برسالته كل هؤلاء المعاندين. ولعل هذا أوضح ما يكون في قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الآية 35 من سورة الأنعام. فهنا نجد أن ثمة توق نبوي لتحقيق مطلب التحدي، ثمة تطلّع للإتيان ولو معجزة/ آية واحدة تنهي هذا الإعراض المؤلم، وفي مقابل كل هذا، ثمة رَدٌّ إلهي على هذا التوق بما يشبه استحالة المعجزة من جهة، وبما يمثل نهيا صريحا عن التمادي في هذا التوق الذي يبدو وكأنه سها ولو لبرهة عن المشيئة الإلهية المحتجبة بالغيب.

لكن، بعد كل هذه الآيات القرآنية (التي لا تنفي فقط وجود المعجزات الحسية بالسلب، أي بخلو القرآن من ذكر أي معجزة، وإنما تؤكد، وبشتى الأساليب، أن المعجزة الحسية لم تتحقق في الواقع النبوي)، بعد كل هذا التأكيد على تجذر الإسلام بلا معجزة، نجد أن المرويات النقلية، من أحاديث وسير وتواريخ تزخر بالمعجزات الحسية المنسوبة للنبي الأعظم ـ ص ـ قبل البعثة وفي أثنائها. لا يمكن إغماض العين عن حقيقة أن القرآن، النص القطعي في ثبوته، لا يُثبت أية معجزة (إلا معجزات متأوّلة)، بينما الموروث الظني، الموروث المتداول شفهيا لأكثر من قرن ونصف القرن، يثبت ـ بمجموعه ـ أكثر من ثلاثة آلاف معجزة حسيّة تخرق قوانين الطبيعة ومنطق العقول!

الأم/ أم النبي ـ ص ـ ترى الأنوار عندما حملت به، وفي ساعة وضعه، السحابة تظلله في سفره، الحجر والشجر تحييه وترد التحية عليه، بل وتتحرك الأحجار والأشجار بأمره جيئة وذهابا، الجذع الخشبي يتحول إلى سيف من حديد، وأيضا، ثمة ملائكة يشقون صدره وهو ابن أربع سنين، ثم يغسلون قلبه بماء زمزم، ثم يخيطون الجرح (ويعتمد هذه الحكاية بعضهم في تفسير {ألم نشرح لك صدرك}، بينما الآية تتحدث عن الهداية المعنوية، كما في قوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صره للإسلام}) وإحياء الشاة بعدما الضيوف ولم يبق منها إلا عظامها، وتكثير الطعام تكثيرا حسيا...إلخ المعجزات، تلك المعجزات التي لاحظ كل من طرابيشي في كتابه "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، ونبال خماش في كتابه "الأساطير والأحلام المؤسسة للعقل الإسلامي" أنها تزداد وتتضخم كلما ابتعدنا عن زمن النبوة.

فمثلا، يلاحظ طرابيشي أن الإمام مالك (ت 179هـ) في الموطأ لم يثبت سوى ثلاث معجزات، وبدون أن يفرد للمعجزات بابا خاصا، بل وردت عرضا، في حين أن تلميذه غير المباشر/ الفقه المالكي القاضي عياض (ت 544هـ) يُضاعف هذا العدد/ عدد المعجزات النبوية أربعين ضعفا، بل لقد ازدادت المعجزات بقلمه غرائبية وطالت حتى تجاوزت نطاق عشرات الصفحات إلى مئات الصفحات.

يبدو أن تكاثر المعجزات وتضخمها كان يُلبّي حاجات مجتمع مجهض، مجتمع بدأ يتراجع عن توقه العقلاني تحت وطأة الهزائم على أرض الواقع، فكأن ما لا يدركه في الواقع، يتوهم أنه سيدركه في عالم الخيال. وإذا نحن أضفنا إلى ذلك أن المدّ المسيحي/ الصليبي الذي بدأ يتغلغل على صورة حملات متتابعة، يحمل ـ من جملة ما يحمله ـ منافسة معنوية مضمرة في صورة المسيح المؤله/ صاحب المعجزات الخارقة التي تستخدم كسلاح في الصراع العقدي آنذاك، عرفنا أن اختراع المعجزات وحشدها وتضخيمها كان يدخل في سياق مباراة/ تنافس عقائدي يطرحه هذا السؤال: أي النبيين أعظم؛ محمد أم المسيح؟ وكان جواب المسلمين عليه معروفا بطبيعة الحال، ولكن الجواب يستلزم أن يكون التفوق مفصلا، وبالأدلة، وفي كل مجال، ولعل "دلائل النبوة" كانت أهم مجال في هذا السياق. ولهذا وجدنا القاضي عياض يقول صراحة عن النبي محمد: "أكثر الرسل معجزة"، بينما يقول البيهقي: "أكثر الرسل آيات"، ففي هذه المفاضلة تأكيد أن نبي الإسلام أفضل الأنبياء، وبالتالي، فدين الإسلام أفضل الأديان.

على أية حال، كانت نتيجة هذا الحراك النقلي/ الحشدي الذي تعمد صناعة المعجزات وتضخيمها أن تراجعت صورة الإسلام، أي تحوّل من كونه دينا عقلانيا يخاطب العقل في حدود منطق الطبيعة/ منطق العلم، ومن ثم؛ منطق العقل، ليصبح حقلا خصبا لترسبات الوعي اللاعقلاني المعادي لكل مبادئ العلم وكل أساسيات التعقل.

وبعد ذلك، وكتطور طبيعي، تجاوز هذا التأسيس ـ بإضافات/ باختراع المعجزات ـ شخصية الرسول الأعظم، لتتعدد الشخصيات القدسية التي تتمحور حولها الغرائبيات/ الخوارق، حيث لم يبق شيخ طائفة، بل ولا شيخ حارة أو ضيعة صغيرة نائية، إلا ونُسجت حوله وله الخوارق الفائقة التي تتحدى نظام الكون الأزلي/ الأبدي؛ ليتوارى الإسلام العقلاني/ الإنساني وراء إسلام تقلدي مضطرب مهزوز، كان ولا يزال يغذي أبنائه بالأوهام بوصفها عين اليقين.

عن صفحة الحرة