المناطق الاقتصادية الخاصة تشكل علامة تاريخية في تاريخ الصين الحديث

تاو إي تاو ولو جه قوه يتناولان في كتابهما "المناطق الاقتصادية الخاصة في الصين" العلاقة التي تربط بين مفهوم "طريق الصين" والمناطق الاقتصادية الخاصة. 
الكتاب الذي ترجمته آية محمد كمال يشمل دراسة للسبل المختلفة التي اتخذتها الدول الأخرى لتحقيق التحديث في مجتمعاتها
الكتاب لم يغفل أهمية التطرق إلى تجارب الدول صاحبة الأسواق الناشئة منها الهند، وكوريا الجنوبية، والبرازيل، وجنوب أفريقيا

يتناول أستاذا علم الاقتصاد بكلية الاقتصاد جامعة شنجن بالصين تاو إي تاو ولو جه قوه في كتابهما "المناطق الاقتصادية الخاصة في الصين" الصادر ضمن سلسلة "قراءات صينية" عن دار صفصافة، العلاقة التي تربط بين مفهوم "طريق الصين" والمناطق الاقتصادية الخاصة من أهمها شنجن، وشيامن، وجوخاي وشانتو. 
ويشير مفهوم "طريق الصين" إلى سلسلة كاملة من السياسات والسبل والخيارات التي اتخذتها الصين ضمن سياسة الإصلاح والانفتاح منذ عام 1978، عملا على تحقيق الانفتاح والازدهار والقوة والثراء للمجتمع الصيني، ومن ثم تحقيق التحديث الشامل للمجتمع بصورة جذرية. ومن هنا كانت المناطق الاقتصادية الخاصة بمثابة "طريق مختصر" يمكنه الإسراع من خطى تحديث المجتمع في ظل ظروف التنمية غير المتوازنة في الصين.
يشمل الكتاب الذي ترجمته آية محمد كمال المدرس المساعد بكلية الألسن جامعة عين شمس، ومراجعة وإشراف د.حسانين فهمي حسين الأستاذ المساعد بجامعة عين شمس، دراسة للسبل المختلفة التي اتخذتها الدول الأخرى لتحقيق التحديث في مجتمعاتها، بهدف توضيح مدى تميُّز وتفرُّد الطريق الصيني دونًا عن غيره من خلال مقارنة الوسائل المختلفة التي اختارتها الدول الأخرى في ظل التغير الذي يشهده التطور التاريخي العالمي. فالتحديث في الصين مكونٌ مكملٌ لعملية التحديث العالمية، حيث يتطلب نقد أنماط التنمية التي توارثتها الدول المتقدمة والدول ذات الأسواق الناشئة، للاستفادة من تجاربهم واستخلاص الدروس منها، وبالتالي المضي على طريق التحديث الذي يتناسب مع أحوال الدولة.
لطالما كانت الدول المتقدمة المثل الأعلى والهدف الذي تتطلع إليه وتتعلم منه العديد من الدول النامية على طريقها لتحقيق التحديث، وبالتالي عند البحث في طريق التحديث الصيني كان لا يمكن إغفال التجارب التي خاضتها والوسائل الناجحة التي اتخذتها الدول المتقدمة الأساسية لدفع التحديث في الفترات التاريخية المختلفة. ومن الناحية الأخرى، إن استرجاع واستلهام أنماط التنمية وسبل التحديث لدى الدول المتقدمة له مغزى مرجعي غاية في الأهمية يمكن الاستفادة والتعلم منه لنقد ومتابعة سبل التحديث للعديد من الدول الناشئة في الوقت الراهن. ولذلك ناقش الكتاب سبل التحديث لدى أبرز الدول المتقدمة وعقد مقارنة بينها ورصد الخصائص المميزة لدى كل دولة، وشملت هذه الدول كلا من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا واليابان.
ولم يغفل الكتاب أهمية التطرق إلى تجارب الدول صاحبة الأسواق الناشئة منها الهند، وكوريا الجنوبية، والبرازيل، وجنوب أفريقيا؛ حيث إنها تتميز بقوة عاملة منخفضة التكلفة، ووفرة في الموارد الطبيعية، ما جعل عددا من الدول تنقل خطوط إنتاجها إلى هذه الأسواق معززةً قوتها التنافسية في السوق استغلالًا للقوة العاملة الرخيصة والموارد الطبيعية الوفيرة. 

المناطق الاقتصادية الخاصة بنت خبرات جديدة بشأن دفع الابتكار المستمر على صعيد إصلاح الأنظمة الإدارية، وعززت ريادة الدولة في تأسيس أنظمة علمية، ومن ثم دفعت تنمية الاشتراكية ذات الطابع الصيني

لفت أستاذا علم الاقتصاد إلى أن الأنظمة الاقتصادية الصينية مرت بعدة مراحل من البحث والدراسة منذ تأسيس الصين الجديدة، كانت الأولى هي مرحلة الاقتصاد الموجه، ثم الاقتصاد القائم على نظام الاقتصاد الموجه بصورة أساسية ونظام اقتصاد السوق بصورة تكميلية، ثم النظامان الاقتصاديان جنبًا إلى جنب، ثم مرحلة اقتصاد السلع الموجه، حتى انتهاءً إلى نظام اقتصاد السوق الاشتراكي. ولم تكن هذه المراحل عمليةً سلسةً، بل واجهت الصين خلالها قضيتين جدليتين كبيرتين. دار الجدال الأول حول الحاجة إلى الإصلاح والانفتاح، والثاني حول طبيعة هذا الإصلاح والانفتاح. وفي خضم هاتين القضيتين الجدليتين، لم يكن من السهل إغفال المكانة والدور المميزين اللذين لعبتهما المناطق الاقتصادية الخاصة؛ حيث قرر مهندس الإصلاح الصيني السيد دينغ شياو بينغ التمسك باتجاهات الإصلاح للتوجه نحو السوق، وتأسيس نظام اقتصاد السوق الاشتراكي. وبالتالي يمكننا القول بأنه من هنا تحديدًا بدأت الصين تأسيس نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي تدريجيًا.
وقالا إن المناطق الاقتصادية الخاصة تعد علامةً تاريخيةً في تاريخ الصين الحديث باعتبارها أحد نواتج السياسات الصينية الخاصة، كما تُعد علامةً مميزةً لبدء تحول المجتمع الصيني من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، وانفتاح حقيقي للصين التي ظلت حبيسة لثلاثين عامًا، وبدء سلوكها طريق التنمية العلمي بعد أن كانت على شفا الانهيار، خاصة وأن الخلفية الاجتماعية والسياسية الصينية في بداية تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح جعلت المناطق الاقتصادية الخاصة - بلا شك - هي الطريق الحتمي لتحقيق تحول المجتمع الصيني من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، وتحقيق التحول الشامل للمجتمع ككل، ذلك بجانب كونها الطريق الحتمي لتجاوز ذلك الصراع بين الحلم والواقع، والتقدم نحو طريق تحقيق الاشتراكية ذات الطابع الصيني الذي يحقق الرخاء للجميع. 
وفي ضوء الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي شقت الصين طريقها نحو التحديث في العصر الحديث، واستطاعت تحقيق إنجازات تنموية جذبت أنظار العالم كله في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي على مدار أكثر من ثلاثين عامًا، كما تجاوز حجم الاقتصاد الصيني كلا من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان، لتصبح الصين ثاني أكبر كيان اقتصادي في العالم ومحركًا جديدًا يدفع التنمية الاقتصادية العالمية. ولقد عكست هذه الإنجازات الهائلة مدى تفوق الطريق التنموي الصيني، وأثبتت أن النموذج الصيني يتميز بطريق سليم، ونظريات علمية، وأنظمة فعالة. ولذلك تعالت الدعوات لضرورة الثقة في الطريق الصيني والوعي والإيمان بنظرياته.
يربط معظم الباحثين بين "الطريق الصيني" وقضية التحديث، بل يجعلاهما كيانًا واحدًا، ولكن أستاذا علم الاقتصاد كشفا أنه "على الرغم من أن هناك علاقة منطقية تربط بينهما بالتأكيد ولكنهما ليس متماثلين بشكل مطلق، لأن "الطريق الصيني" هو طريق جاء نتيجة لاختيار الشعب الصيني سلوك طريق لتحقيق التحديث، ولكن الصينيين لم يسلكوا في تاريخهم لتحقيق التحديث ذلك الطريق الذي ندعوه "الطريق الصيني" فحسب، وإنما لجأوا إلى سبل أخرى منها النموذج السوفيتي على سبيل المثال، ولذلك أرى أن الرأي السابق حول العلاقة بين "الطريق الصيني" وقضية التحديث قد وسّع من مفهوم "الطريق الصيني"، وجعله مفهومًا عامًا ليس محددًا، فإن كان يجوز أن نقول إن "الطريق الصيني" هو عملية تحديث بالطريقة الصينية، ولكن الجزم بأن التحديث الصيني هو بسلوك "الطريق الصيني" رأي فيه تحيز شديد، لأن سعي الصينيين لتحقيق التحديث يرجع إلى تاريخ أبعد كثيرًا من "الطريق الصيني" الذي نتحدث عنه اليوم، فقد أسدل نجاح الثورة الديمقراطية الحديثة الستار على "قرن كامل من المهانة والإذلال" شهدته الصين منذ حرب الأفيون في عام 1840، وتأسيس الصين الجديدة المستقلة والموحدة قد أرسى حجر الأساس لتحقيق التحديث في المجتمع الصيني. وعندما أصبحت قضية التحديث هي القوام الأساسي للتنمية الاجتماعية الصينية، كان لا بد فورًا البحث في ماهية هذا الطريق، حتى اختارت الصين أخيرًا طريق "السعي إلى التحديث مع رفض الطريق الغربي"، أي تنمية الاقتصاد الصيني ودفع التنمية الاجتماعية ونهضة الأمة الصينية عن طريق الاشتراكية، وانطلاقًا من هذا الرأي فإن الطريق الذي سلكه الصينيون سعيًا للتحول الصناعي والتحديث وبحثًا عن الرخاء بعد نجاح الثورة الديمقراطية الحديثة هو أيضًا طريق صيني ولكن مع اختلاف طبيعته".
وأضافا أن قضية طريق التحديث الصينية لم تجذب اهتمام جميع الباحثين فحسب، بل أصبحت هي القضية المثالية التي ناضل من أجلها أجيال من السياسيين وأصحاب المثل السامية، فطالما آمنا بالمقولة التي تقول "تعلم من نقاط قوة الآخر لمقاومة اعتدائه" دعونا إلى "السعي لتجاوز المملكة المتحدة واللحاق بالولايات المتحدة الأميركية"، ولكن ما بين الهدف وتحقيقه طريقًا محيرًا كمن يقصد الجنوب ويتجه شمالا، الأمر الذي جعل الصينيين الذين عانوا من الفقر طويلا يتفكرون دائمًا في صحة الطريق الذي اختاروه لتحقيق الهدف. وقد أشار بعض الباحثين - بعد مقارنتهم لخصائص التحديث لدى الدول الرئيسة في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين - إلى أن طريق التحديث الرأسمالي في القرن التاسع عشر قد جمع بين حقوق الملكية الخاصة والمنافسة في السوق، وقد مر بمئات السنوات حتى تشكل، ويُعد نظام الملكية الخاصة، والتوجه إلى السوق، والتحول التدريجي من الخصائص الأساسية لهذا النموذج، أما بعض الدول المتأخرة فقد سلكت طريق الاشتراكية في القرن العشرين، بقيادة الثورة السياسية الراديكالية وعملية التحول الصناعي الإجبارية من القمة إلى القاعدة، محاولةً تحقيق التحديث السريع على أساس الملكية العامة عن طريق النموذج السوفيتي القائم على الاقتصاد الموجه والإصلاح الراديكالي، ولكن هذا النموذج سرعان ما عانى من الأزمات بعد أن حقق نجاحًا قصيرًا مؤقتًا، فلم تصل الصين إلى طريق للتحديث أُثبت عمليًا سلامته ودقته إلا في تسعينيات القرن العشرين، وهو طريق التحديث والاشتراكية ذات الطابع الصيني الذي صممه دنغ شياو بينغ عن طريق بناء المناطق الاقتصادية الخاصة بهدف الإصلاح والانفتاح، وبالتالي عندما نتحدث اليوم عن الطريق الصيني فنحن نقصد طريق التحديث ذي الطابع الصيني الذي اتخذ من تأسيس المناطق الاقتصادية الخاصة نقطة انطلاق له، والإصلاح والانفتاح غايةً، وبناء اقتصاد سوق اشتراكي هدفًا، وتحقيق الإصلاح والتنمية الشاملة للمجتمع توجهًا رئيسًا".
وقال أستاذا علم الاقتصاد "في الوقت الذي تسعى فيه المناطق الاقتصادية الخاصة إلى التنمية الاقتصادية، تواجه قيودًا من أنظمة الحكم والأنظمة الإدارية التقليدية بدرجات مختلفة، الأمر الذي يعكس بعض العيوب الموجودة في الأنظمة الإدارية الحالية، ولذلك أصبح كل من تعجيل الإصلاح في الأنظمة الإدارية، وتحويل وظائف الحكومة، ورفع فاعليتها حاجة ضرورة لتنمية المناطق الاقتصادية الخاصة. ولقد تميزت منطقة شينجن الاقتصادية الخاصة بالمبادرة والتجربة على صعيد إصلاح الأنظمة الإدارية، كما حققت نتائج متميزة. ففي مايو/آيار عام 2009، وافق مجلس الدولة الصيني على "المشروع العام للإصلاحات التكميلية الشاملة في منطقة شينجن"، واستطاعت شينجن تحقيق "المبادرة والتجربة في أربعة مجالات" طبقًا للمخطط الاستراتيجي الوطني للتنمية والإصلاح، وتشمل هذه المجالات الأربعة الآتي: أولا المبادرة والتجربة في تعميق الإصلاح في الدولة وتوسيع نطاق الانفتاح. ثانيا: المبادرة والتجربة لتصميم نظام يتوافق مع الأعراف الدولية والقواعد والقوانين السارية وتوجهات التنمية المستقبلية في الدولة. ثالثا: المبادرة والتجربة للابتكار المنظومي الذي يؤثر بصورة كبيرة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في شينجن ويلعب دورًا نموذجيًا دافعًا مهمًا في الدولة ككل. رابعا: المبادرة والتجربة لتعزيز التعاون الاقتصادي بين المناطق المحلية وهونغ كونغ. وهكذا قد بنت المناطق الاقتصادية الخاصة خبرات جديدة بشأن دفع الابتكار المستمر على صعيد إصلاح الأنظمة الإدارية، وعززت ريادة الدولة في تأسيس أنظمة علمية، ومن ثم دفعت تنمية الاشتراكية ذات الطابع الصيني".