المناهج الدراسية في العراق: إطلالة على مشهد الخراب

بطريرك الكلدان لويس رفائيل ساكو انتقد المناهج الدراسية الجديدة معتبراً أنها تحرَض على الكراهية والعنف تعقيباً على ورود وصف مريضة للفتيات غير المحجبات والذي جاء في أحد المناهج.

بقلم: ليث ناطق

معاناة التي تزرع في الطفل كراهيةً للمدرسة والتعلّم

على أرض نابو (إله الحكمة في العراق القديم) وامتداداً لـ “ايدوبا” (بيت الألواح أو المدرسة في العراق القديم)، يعيش أطفال العراق في مدارسه حالاً مأساوية على جميع الأصعدة، فيجلسون بغالبيتهم متراصّين على ألواح خشبية قاسية ومكسورة، والسقوف لا تحميهم من المطر في الشتاء، ولا تصد لهيب الصيف عنهم.

مع كل هذه المعاناة التي تزرع في الطفل كراهيةً للمدرسة والتعلّم، يتلاعب مسؤولو قطاع التربية بعد عام 2003 بالمناهج ويغيرون فيها باستمرار، وفق أهواء الطبقة السياسية. فقد بدأت رحلة التعديلات والتغيير، بعد احتلال العراق وسقوط صدام 2003، فكان التغيير في بدايته يستهدف رفع الأجزاء التي تمجد صدام، وحذف أقواله ووصاياه وصوره التي كانت في مقدمة جميع الكتب، فرُفع فصل كامل كان يتحدث عن الحرب العراقية – الإيرانية، ويحمل عنوان “قادسية صدام” وتغيرت لهجة المناهج في بعض المصطلحات مثل “العدو الفارسي”، الذي أصبح “جمهورية إيران الإسلامية”.

يعزو البعض تكرار تغيير المناهج الدراسية في السنوات الأخيرة لاحتمال عقد صفقات “مشبوهة” وتحصيل فوائد بأموال طائلة تستفيد منها “جهات سياسية متنفذة”.

الطباعة… نافذة الفساد إلى قطاع التربية والتعليم

تعتمد سياسة القطاع التربوي العراقي على مبدأ المناقصات في طباعة المناهج الدراسية، وتنص ضوابط التعاقدات على طباعة العدد كاملاً في بداية عُمر الكتاب المنهجي، وتبيح طباعة 50 في المئة من العدد، بداية كل عام، تعويضاً للتلف أو تصحيحاً للأخطاء. لكن بعض المناهج الدراسية لم تعش مرحلة تعويض التلف والتصحيح، بسبب تغييرها في السنة اللاحقة.

في السابق، كانت المناهج الجديدة تمرّ بسنة اختبارية، فتتم طباعتها على نطاق محدود وتُجرب في محافظة المثنى (388 كلم جنوب بغداد)، وينظر إلى النتائج ثم يُقرر اعتمادها من عدمه، لكن تجارب كفصل الفرع العلمي في مراحل الإعدادية، إلى إحيائي وتطبيقي، دخلت حيز التنفيذ من دون مرورها بهذا الاختبار، الشيء الذي تطلب طباعة مناهج مكتملة العدد لمرحلتين دراسيتين، تنقسمان الى فرعين مختلفين بعض الشيء، والمثير في هذه التجربة أن نواباً في البرلمان العراقي وبعد ثلاثة مواسم دراسية من التجربة، يتحركون لدمج الفرعين وإعادة العمل بما كان عليه النظام سابقاً –علمي وأدبي- فقط.

يعبر الباحث التربوي د.أحمد الزيدي عن امتعاضه من انعدام التخطيط في اعتماد المناهج الجديدة والاسهاب الكبير في بعض الكتب المدرسية، من دون فائدة تذكر، “من الملاحظات التي سجلتها على المناهج، ضخ المواد والصفحات المفرّغة من المحتوى، وكثير من هذه الصفحات غير ضرورية” يقول الزيدي في حديثه لـ”درج”.

يبدأ التلميذ العراقي المرحلة المتوسطة بعمر 12 أو 13 عاماً، وكان يدرس في هذه المرحلة المواد التي درسها في آخر سنوات الابتدائية، لكن بمحتوى امتدادي لها. من هذه المواد، كتاب العلوم، الذي يراه مختصون كافياً وقابلاً للتطوير، لكن وزارة التربية فصّلته إلى ثلاثة كتب –فيزياء، كيمياء، أحياء- الشيء الذي تطلّب أموالاً طائلة لطباعة الكتب الثلاثة الجديدة.

قبل إقرار الموازنة الاتحادية لعام 2019، اعترض نواب على فقرة في مشروعها ونجحوا في إلغائها، كانت الفقرة تعطي الحق لدار النهرين للطباعة بطباعة المناهج الدراسية. يعزو النائب عن كتلة “سائرون” علاء الربيعي سبب الرفض إلى فساد محتمل ويقول في حديثه الى “درج”: “ألغينا هذه الفقرة حفاظاً على المال العام وتجنباً لدوّامة إعادة تسويق العقد من قبل الدار إلى شركات تقف خلفها جهات سياسية فاسدة”.

تأليف المناهج… الصناعة الرديئة

يشكو بعض التلاميذ والمعلمون، من أخطاء ترد أحياناً في بعض المناهج، فيؤكد مدير مدرسة الحلة الابتدائية حميد جحجيح وجود حالات كهذه، ويعتبرها مطبات تعرقل سير العملية التعليمية. يقول لـ”درج”: “هناك مشكلات فنية وطباعية، فمثلاً ترد بعض النسخ التي تحتوي صفحات بيضاً فارغةً، وهناك نسخ أخرى لبعض المواد تتداخل فيها ألوان الرسومات الإيضاحية”.

تبدأ رحلة تكوين الكتاب الدراسي من مديرية المناهج في وزارة التربية، التي تشكل لجاناً لتأليف المناهج، عادةً ما يكون أعضاء اللجنة المسؤولة عن تأليف مادةٍ ما، تربويين يرافقهم عضو أو أكثر من وزارة التعليم العالي، على أن يكون جميع أعضاء اللجنة مختصين بمادة الكتاب الذي اجتمعوا لتأليفه.

وفق مصدرٍ في مديرية المناهج طلب عدم الكشف عن هويته، يتقاضى أعضاء اللجنة أجراً غير راتبهم، يُحسب وفق “الرُّزمة” والمقصود بالرزمة 16 صفحةً، يستحقون على اثرها مبلغ 300 ألف دينار، أي 246 دولاراً.

لا يوجد عدد محدد لأعضاء اللجنة، فيقول مساعد مدير المناهج في وزارة التربية سعدي علي حميد: “لا يقل عدد أعضاء اللجنة عن 4 ولا يزيد على 6، إلّا في حالات نادرة”.

تنتهي مهمة مديرية المناهج عند انتهاء اللجنة من تأليف المادة، فترسلُ مطبوعةً على قرص مدمج إلى الجهات المسؤولة عن الطباعة. يؤكد المصدر أن مناهج كثيرة تحوي أخطاءً فادحة فيقول، “في أحد البحوث التي أجراها زملاء مختصون في المديرية العام الماضي، تم رصد ما يقارب 180 خطأ في كتاب العلوم للصف السادس الابتدائي”.

محنة التعقيد وغياب الأسلوب الملائم

لا تقتصر مواطن الخلل في المناهج الدراسية، على الأخطاء المباشرة، إذ هناك مشكلة “ركاكة”، الشيء الذي يمثل عبئاً على المعلم لصعوبة فهمه ونقله، إضافة إلى نصوص أخرى اشبه بالطلاسم، فمثلا يتضمن كتاب الأدب الخاص بمرحلة السادس الإعدادي قصيدة “الثأر” للشاعر اللبناني أنسي الحاج كنموذج لقصيدة النثر، القصيدة التي يعاني طلبة ومعلمو هذه المرحلة من فهمها لصعوبتها البالغة.

في حادثة غريبة، عبّرت ابنة الشاعر انسي الحاج الشاعرة اللبنانية ندى الحاج عن استغرابها من وجود هذه القصيدة بالذات في منهاج اللغة العربية في العراق، قائلةً “لا اصدق أنهم اختاروا هذه القصيدة، إنها صعبة جداً كتبها أبي بعمر العشرين وكانت احدى قصائد ديوانه الأول (لن)، ولا أضمن لو كان على قيد الحياة، أنه سيتمكن من شرحها، فأنا نفسي لا أفهمها”. وأكدت عند سؤالها عن مضامين القصيدة وشرحها أنها إحدى أصعب قصائد النثر ولا تناسب طلاباً بهذه السن.

وسط هذه الحالة من التعقيد في بعض المناهج، يحذر مختصون من تراجع في مستوى بعض المعلمين. يؤكد جحجيح ضرورة إدراج المعلمين في دورات تدريبية تعيد تأهيلهم ليكونوا “مربين”، يقومون ببناء جيل وفق إطارات علمية وانسانية، وفي ما يخص مواكبتهم للتغييرات التي تطرأ على المناهج، ويضيف “تجب مراعاة قدرات المعلم وتوفير دورات وورش يتدربون فيها على المناهج الجديدة، كلما طرأت تغييرات عليها”.

يتحدر جمعٌ كبير من المعلمين من مؤسسة اكاديمية تعاني هي الأخرى، والتي تتمثل بالجامعات أو معاهد المعلمين التي تستقبل الطلبة من خريجي الصف الثالث متوسط وتخرجهم معلمين للمراحل الابتدائية المبكرة.

ولا تتوافر في المدارس مختبرات علمية إلا على نطاق ضيق، وتكون متهالكة، وتفتقر المدارس العراقية أيضاً إلى وسائل الإيضاح الحديثة التي تساعد المعلم على ايصال المعلومة للطالب، فيبقى ما في صفحات المناهج المدرسية أسير المعلم وطريقته وإمكاناته.

أزمة التعددية… وذكورية المناهج

تنسحب مشكلة معاملة التعددية في المجتمع العراقي على القطاع التربوي فيه، الشيء الذي يعبر عن عجز السلطات عن بناء مؤسسات تتعامل مع المواطن كمواطن فقط. ينتقد رجل الدين الشيعي السيد وليد البعاج غياب الصوت الوطني بالقدر الكافي عن المناهج، ويرى أن المناهج الحالية “لا تبني مواطناً صالحاً”.

ويقول في حديثه لـ”درج”: “لا اعتقد أن هناك خطة دقيقة لمن يضع المناهج، فبالنظر إلى بعض المناهج كالاجتماعيات والأدب وكتاب الدين، لا نرى مراعاة لموضوعات كالتعددية التي تُشَكِّل المجتمع العراقي”.

في تصريح صحافي لبطريرك الكلدان لويس رفائيل ساكو، انتقد المناهج الدراسية الجديدة، معتبراً أنها تحرَض على الكراهية والعنف تعقيباً على ورود وصف “مريضة” للفتيات غير المحجبات، والذي جاء في أحد المناهج. الوصف تم رفعه هذا العام من الكتاب بحسب ادعاء معاون مدير المناهج سعدي علي حميد، لكن بعض المدارس وزّعت بعض النسخ القديمة للكتاب في بداية الموسم الدراسي.

يبدو أن واضعي المناهج الدراسية فوّتوا تخصيص مساحة كافية للمرأة، على رغم ورود بعض النصوص الخجولة في بعض الكتب، إلا أنهم لم يفوتوا موضوعاً كالرجولة، فأفردوا فصلاً في مادة التربية الإسلامية للسادس الإعدادي تحت عنوان “الرجولة”.

يعتقد مدير مدرسة الحلة الابتدائية حميد جحجيح بوجود تمييز جندري في موضوعات المرأة في مناهج المراحل الابتدائية، يقول: “تميل معظم كتب المرحلة الابتدائية الى الجانب الذكوري من خلال القصص والصور التي تُؤطّر دور المرأة في مساعدة أمها، بينما تصوّر أخاها وهو يعمل، وهذا فيه تمييز من حيث إمكانية العمل والمشاركة في الإنتاج”.

نشر في صفحة درج