المهمّة الأخيرة لهنري كيسينجر!

قد يكون كيسينجر أفضل من لخص نتائج رحلته الصينيّة بقوله "على الولايات المتحدة والصين القضاء على سوء الفهم والتعايش بسلام وتجنب المواجهة. فقد أثبت التاريخ والممارسة باستمرار أنه لا يمكنهما تحمل التعامل في ما بينهما كخصمين".

اختار هنري كيسينجر، بعيد مرور عيد ميلاده المئة، الذهاب إلى الصين. اجتمع في بيجينغ بكبار المسؤولين في الدولة التي تمتلك، بعد الولايات المتحدة، ثاني اكبر اقتصاد في العالم. عكست حفاوة الاستقبال الذي خصّ به الرئيس شي جيبينغ المسؤول الأميركي السابق مدى تقدير الصين للدور الذي لعبه  الرجل، بفضل عقله الإستراتيجي، على صعيد إيجاد تقارب بينها وبين أميركا.

يبدو واضحا أنّ كيسينجر أراد من خلال زيارته للصين تأكيد أنّه يعتبر الانفتاح الأميركي عليها وإقامة علاقات طبيعية بين البلدين الإنجاز الأكبر الذي حققه في تاريخه السياسي الحافل. تميّز هذا التاريخ، الذي كان فيه كيسينجر مستشارا للأمن القومي ثمّ وزيرا للخارجية في الوقت ذاته، بتلك القدرة الاستثنائية على تحديد الخطوط العريضة للسياسات الدولية واتجاهاتها بعيدا عن التفاصيل الصغيرة التي كان يتفادى الغرق فيها حتّى لو كان معنى ذلك كلفة بشريّة في دولة معيّنة، لا حول لها ولا قوّة.

امتلك كيسينجر حاسة سياسية فائقة الدقّة ليكتشف، في سبعينات القرن الماضي، أنّ الإتحاد السوفياتي والصين ليسا في جبهة واحدة، بل توجد منافسة بينهما. وجد أنّه يمكن دقّ إسفين بينهما على الرغم من رفعهما شعارات واحدة معادية لـ"الإمبرياليّة". استغل الحساسيات بين موسكو وبيجينغ عبر عملية جس نبض تمثلت في "ديبلوماسيّة كرة الطاولة"  (PING PONG).  قاد نجاح هذه الدبلوماسية إلى اقتناع الرئيس ريتشارد نيكسون بالذهاب إلى الصين في زيارة استغرقت أسبوعا. كان ذلك في شباط – فبراير 1972. لم تمض ساعة على وجود نيكسون في بيجينغ حتّى وصلت إلى مساعديه رسالة تقول أن الزعيم ماو تسي تونغ يريد عقد لقاء مع الرئيس الأميركي. كانت تلك إشارة ذات مغزى مهمّ نظرا إلى أنّها كشفت توقا صينيا إلى فتح صفحة جديدة مع اميركا... في اسرع وقت!

غيّر كيسينجر التاريخ. ساهمت زيارة نيكسون للصين في إيجاد هوّة بين موسكو وبيجينغ وكشفت في الوقت ذاته أنّ العلاقة بين القطبين الشيوعيين ليست على ما يرام. لخّص دبلوماسي أميركي كان يدون كلام ماو في اللقاء مع الرئيس الأميركي بقوله "ابلغنا الزعيم الصيني وقتذاك أن ليس مطلوبا تسوية المشاكل الصعبة القائمة بيننا، في إشارة واضحة إلى تايوان، بل نستطيع تأجيل مثل هذا النوع من المشاكل والانصراف إلى نقاط نتفق في شأنها مثل إيجاد توازن مع الإتحاد السوفياتي".

في مطلع 1992، بعد عشرين عاما من زيارة نيكسون للصين وصدور بيان شنغهاي الذي أكدت فيه الولايات المتحدة اعترافها بـ"صين واحدة" وبأن تايوان "جزء من الصين" مع تأكيد إصرارها على "تسوية سلميّة للمسألة التايوانية بين الصينيين أنفسهم"، انهار الإتحاد السوفياتي.

بعد واحد وخمسين عاما من زيارة نيكسون وكيسينجر لبيجينغ، ثمة عالم جديد يتميّز بصعود الصين وتراجع روسيا. لا شكّ أن شخصا مثل هنري كيسينجر، لا يزال ذهنيا بوعيه الكامل على الرغم من ضعفه الجسدي، يعي تماما خطورة أي تصعيد أميركي – صيني. ذهب إلى بيجينغ لصيانة الصرح الذي بناه حجرا حجرا والذي بات يخشى انهياره. سيظلّ السؤال ما الذي سيعود به كيسينجر من الصين وهل سيكون لديه ما يقوله لإدارة بايدن التي باتت تدرك أن الصين هي الرابح الأوّل من غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة؟

لا يتّسم كلّ ما قام به هنري كيسينجر في حياته السياسيّة بالإيجابيّة. كان مستعدا للتضحية بكلّ القيم الديمقراطية حين كانت تدعو الحاجة إلى ذلك. على سبيل المثال وليس الحصر، دعم عسكر تشيلي في انقلابهم الدموي على الرئيس سلفادور اليندي في العام 1973. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّه فهم باكرا معنى أخذ الصين من الإتحاد السوفياتي وتوظيف ذلك في خدمة مواقف الولايات المتحدة في مرحلة الحرب الباردة.

تعاطى كيسينجر مع الشرق الأوسط معتمدا سياسة الخطوة خطوة. نجح في مصر التي وقعت اتفاق سلام مع إسرائيل في آذار – مارس 1979 في وقت صار فيه كيسينجر خارج السلطة. لكنّ الأحداث تثبت أنّه وضع الأسس للسلام المصري - الإسرائيلي وذلك منذ اتفاق فك الإرتبط الأوّل مباشرة بعد حرب 1973. فشل كيسينجر في سوريا حيث كان حافظ الأسد مهتما بحماية نظامه الأقلّوي عن طريق الاستثمار في بقاء حال اللاحرب واللاسلم إلى ما لا نهاية. في المقابل، كان أنور السادات يعرف أنّه لن يستعيد الأرض المصريّة المحتلة من دون مساعدة الولايات المتحدة. أحسن الرئيس المصري الراحل استخدام الورقة الأميركيّة. استعاد سيناء وما فيها من نفط وغاز، فيما لا يزال الجولان محتلا منذ العام 1967.

بدت الإدارة الأميركية غير راضية عن زيارة كيسينجر لبيجينغ. قال كبير المستشارين الإعلاميين في البيت الأبيض، جوش إيرنست، إن ليست لكيسينجر  أية مسؤولية رسمية في الإدارة الأميركية ولا يتحدث باسمها. مثل هذا الأمر ليس سرّا، لكنّ البيت الأبيض اعتبر في الوقت نفسه أنّ واشنطن "تتطلع إلى معرفة نتائج تلك الزيارة" من كيسنجر نفسه، وذلك بعد عودته.

 قد يكون كيسينجر أفضل من لخص نتائج رحلته الصينيّة بقوله "على الولايات المتحدة والصين القضاء على سوء الفهم والتعايش بسلام وتجنب المواجهة. فقد أثبت التاريخ والممارسة باستمرار أنه لا يمكن للولايات المتحدة أو الصين تحمل التعامل في ما بينهما كخصمين".

كانت زيارة بيجينغ المهمّة السياسيّة الأخيرة لهنري كيسينجر الذي ترك بصماته على القرن العشرين. كيف سيتذكره التاريخ؟ الجواب أن كيسينجر، الذي كُتب عنه الكثير، يعرف تماما النتائج الكارثيّة التي ستترتب على مغامرة صينيّة في تايوان. هل حمل إلى واشنطن ما يفيد أن الصين ما زالت ملتزمة التفاهم الذي توصل إليه ماو ونيكسون في العام 1972 عن أن "تايوان جزء من الصين، لكن استعادتها تكون بالوسائل السلمية". ما مفهوم الزعيم الصيني الجديد شي جينبينغ لعبارة "الوسائل السلميّة"؟