الموارنة أقلية بين الموارنة

الموارنة اليوم أمام خيار تاريخي جديد: تجديد الرهان على لبنان الكبير الذي أسسوه أم التنقيب عن لبنان آخر؟

قبل يومين احتفل 11 مليون ماروني في 196 دولة بعيد شفيعهم مارون. موارنة على مد النظر. عدا الصامدين منهم في لبنان والمشرق، هاجر الآخرون ضيقا أو اضطهادا أو خيارا من أنطاكية وسوريا وفلسطين ولبنان. حملوا إيمانهم ورحلوا بحرا، برا وجوا، فبلغوا القارات الخمس. صاروا شعبا في شعوب وثقافة في ثقافات وحضارة في حضارات ولبنانا في لبنانات… هناك قطنوا وتعلموا وعملوا واكتشفوا وبرعوا وبنوا الكنائس. بلغوا رئاسات الجمهوريات والحكومات والوزارات ومجالس الشيوخ والنواب. ترأسوا كبريات الشركات وأداروا المصارف العالمية. تحكموا ببورصات العالم واحتلوا صدارة أغنياء العالم. أنشأوا جامعات وأشرفوا على أخرى عمداء. ترأسوا أركان جيوش وعينوا سفراء. ألفوا الكتب والسمفونيات وانتخبوا في الأكاديميات. ارتفعوا حتى ناطحات السحاب وبقوا في حنين إلى جبال لبنان ومرقد الأجداد. دخلوا بيوت العالم، الإنجيل في يد و"نبي" جبران في أخرى.

ليس التاسع من شباط ذكرى مولد مار مارون ولا ذكرى وفاته. هي ذكرى حضوره المتجدد فينا. ولد مارون مجهولا ومات مغمورا، لكن النسك في العراء شهرته، والقرب من الإنسان بعيدا عن العالم آيته، والاتحاد بالله بمنأى عن فلسفات اللاهوت عظمته. ما خطط لتأسيس طائفة أو دولة، بل لتكوين جماعة تعيش على الخير، تنمو على الحق، وتقاوم الباطل.

منذ ألف وستمائة سنة متواصلة، والمارونية تجدد حضورها الفاعل في لبنان والعالم رغم الحروب والاضطهاد ومحاولات الإبادة. سالمت من سالموها وقاومت من قاتلوها. ما اكترثت للعدد ولا خشيت جبروتا. تكيفت مع الأقوياء وما تدجنت. حالفت الشرق والغرب وما ذابت. تطلعت إلى السماء واغترست في الأرض. تبعت الكنيسة الجامعة وظلت كنيسة خاصة. تآلفت لاهوتيا مع الڤاتيكان وظلت حريصة على أورشليم. تطورت مع الحداثة وما خرجت على التراث. قلما تمكنت جماعة مسالمة أن تبني دولة من دون طلقة رصاص. إن المشروع الحضاري المقنع أقوى من السلاح المرصود لمشروع توسعي. قوة الموارنة ليست في ضعفهم بل في عقلهم. ورهانهم ليس على السياسة بل على الوطنية. لذا، كلما ابتعدوا عن مشروعهم وعن العقل وتدنسوا في السياسات الصغيرة سقطوا في التجارب. أنظروا إلى حال الموارنة اليوم تتيقنوا.

المارونية نمط حياة أخلاقي ومشروع حرية وكرامة. هي حالة نضالية. ما كانت المارونية في تاريخها العريق طريقا إلى السلطة، ولا حتى طريقا إلى الله. المسيحية هي دربنا إلى الله. أما المارونية فهي الدرب إلى حياة الله على الأرض، إلى حياة القيم التي جسدها الناسك مارون وتلامذته ورهبانه وأساقفته وبطاركته عبر العصور. لا يكون المرء مارونيا بالولادة فقط، بل بالحياة والممارسة. لا يكون الماروني مارونيا حقا إن لم يذق يوما طعم النسك والتقشف والإماتة والإحسان والزهد وقهر النفس. لا يكون الماروني مارونيا حقا إن لم يكن ابن السجود والتأمل واليقين والشك والتضحية وروح الصومعة وخشوع القربان. في هذا المعنى الموارنة أقلية بين الموارنة.

الموارنة أبناء هذا المشرق الآرامي - الفينيقي - السرياني - الأنطاكي. دولهم ولغاتهم وهوياتهم الحالية مختلفة عن تاريخهم. وحدودهم أقل من مداهم. في لبنان لا يعيش الموارنة في دولة التاريخ الجامع، بل في دولة الكيان الحافظ. حتى فينيقيا ليست كلها في لبنان، تنقصنا أوغاريت. جمع الموارنة في الكيان اللبناني كياناتهم المشرقية من أنطاكية ووادي النصارى وأفاميا وقورش وبراد وأورشليم والجليل. نقلوا إليه الكرسي البطريركي وهامة مار مارون. كوموا مداهم المترامي في هذا المشرق في 10,452 كلم  مربع. أرادوا هذه المساحة مجسما مشرقيا تتعايش فيه الأديان والقوميات والإتنيات والهويات المختلفة. حلموا بها نموذج شراكة إنسانية ورسالة روحية ومرجعية حضارية. نجحوا طورا وأخفقوا أطوارا. نجحوا حين كانوا آباء وطنية وأخفقوا حين أصبحوا أبناء سلطة. نجحوا حين كانوا آباء مقاومة وأخفقوا حين أصبحوا أبناء تسويات.

الموارنة اليوم أمام خيار تاريخي جديد: تجديد الرهان على لبنان الكبير الذي أسسوه أم التنقيب عن لبنان آخر؟ لكن الإشكالية أن الموارنة ليسوا اليوم أصحاب الخيار والقرار. أضاعوا الوزنات وبددوا الانتصارات وابتعدوا عن القيم التي أوصلتهم إلى العزة الوطنية. اختلطت الأولويات على أحزابهم ومؤسساتهم ففشلوا في قيادة الجماعة المارونية نحو مجد جديد. منذ 37 سنة، منذ غياب بشير، والمارونية إلى تراجع في لبنان. وقاحة القيادات أنها تنكر فشلها، وغباء الشعب أنه يجدد لها. كان "الميثاق الماروني" بين الذكاء والنجاح فصار بين الغباء والفشل.

الثورة الشعبية التي دعا البطريرك اللبنانيين إليها ("الجمهورية" 8 شباط 2019)، يجدر أن تبدأ من بكركي، فتقود ثورة داخل المجتمع الماروني لتوقف الانحدار والانحراف. وحدها بكركي قادرة على التوجه إلى الجماعة المارونية من دون المرور بوسيط. هلمي.

الشعب الماروني قرف العيش على ذكريات الماضي وانحطاط الحاضر بعيدا عن أحلام التاريخ والزمن الآتي. إذا كانت الثورة اللبنانية الشاملة شبه مستحيلة بحكم العامل الطائفي، فهي ممكنة جدا داخل كل طائفة. في لبنان، فشل التغيير من خلال الدولة، وقد فقدت الصدقية والهيبة؛ ومن خلال المجتمع المدني، وقد فقد الجدية والتجرد؛ ومن خلال الجيش، وقد نذر نفسه للوطن لا للنظام. لذا، الكنيسة هي الحل الباقي في مجتمعنا الماروني. وإني واثق بأن ثورة الموارنة على أنفسهم بقيادة كنيستهم لن تكون انعزالية وطائفية، فالكنيسة المارونية التي أسست، مختارة، دولة متعددة الأديان والطوائف ما عادت تحتاج شهادة في الانفتاح واحترام الدولة المدنية.