محمود عوض عبدالعال والنزوع إلى التجريب

الرواية في خصائصها الفنية الحديثة تطبع في جوانبها الفنية الحداثية تقنيات جديدة تجاوزت بكثير التقنيات الواقعية في الكتابة الروائية.
الإبداع الروائي عند محمود عوض عبدالعال لم يتجاوز أربعة نصوص من الروايات القصيرة
رواية تيار الوعي هي محاولة لتقديم داخلية الشخصية على الورق

"لو نقل روائي في القرن العشرين رواية (دون كيشوت) حرفيّا فإنه سيخرج عملا يختلف كلية عن عمل سيرفانتيس"
ج. ل. بورجس
في خصائصها الفنية الحديثة؛ تطبع الرواية في جوانبها الفنية الحداثية تقنيات جديدة تجاوزت بكثير التقنيات الواقعية في الكتابة الروائية حيث: "لم تعد الواقعية تغري كثيرا من الكتّاب، أو تعنيهم في إطار تشكيل الواقع المعيش، بمختلف رؤاه واتجاهاته، وصوره، وتشكيلاته، لأسباب مهمة، هي أن الأديب بعد الخامس من يونيو/حزيران 1967 لم يعن بالقوالب الشكلية الجامدة، وبالخط الزمني الصاعد في بناء الرواية. فهو أصبح أكثر حدسا ورؤية، وأكثر شعرية في تناول ذاته، ورؤيته الواعية العميقة لموقعه، ولموقع المجتمع والأمة، في إطار تحقيق ذاته، بعد أن كان جل اهتمامه ينصب على القضايا المركزية للأمة". (1) 
كما تتداخل التيمات في الرواية الحداثية وتتوالد من خلال السرد وهواجس الشخوص، وبحثها عن حيواتها المبعثرة داخل أحداث النصوص، من خلال تيمة الغربة والقهر إلى تيمات الإحباط والهجرة والبطالة والخراب الاجتماعي والخلقي والفراغ النفسي والشعور بالدونية والعبث، وتيمات ملتقطة من الواقع عبر حدة الوعي وتدفق اللاشعور، إلى جانب قضايا وإشكاليات فكرية وفلسفية وما يخص الذات المهمشة وتأزماتها المختلفة، وما إلى ذلك من تيمات ترفدها الرواية الحديثة في موضوعاتها ومضامينها وقضاياها المختلفة. 

الطرح السردي القائم على أسلوب تيار الوعي كمصطلح نفسي وهاجسي يعتمد وعي الشخصية كما يعتمد أيضا ذهن الروائي والشخصية معا في ترتيب الأحداث والغوص داخل وعي الشخصيات

وقد جاء تيار الوعي وتيار اللاشعور ليجسد في الرواية الحديثة شكلا جديدا يعبر عن هذه الأزمة التي تعيشها الإنسانية في شرنقتها، ويطلق العنان لتدفق الأفكار، وسيلان الهواجس ليغوص في مكان ومنبع التدفق داخل النفس البشرية، في أدق مكبوتاتها وأهم غرائزها وأحوالها المختلفة لكشف الكيان النفسي للشخصية وتجسيد ملامح توجهها. وعلى الرغم من هذه التقنية قد راوحت تيارات التجريب في الرواية العربية الحديث فأنها لم تكتسب الأرضية المثالية المناسبة لها إلا عند عدد قليل من الكتّاب كان أبرزهم رائد الرواية العربية نجيب محفوظ في بعض أعماله الروائية كالثلاثية واللص والكلاب وثرثرة فوق النيل. وعدد قليل من كتّاب الرواية العربية من أهم هؤلاء الكتاّب في مصر هو محمود عوض عبدالعال كحالة خاصة من حالات الكتابة الروائية في هذا المجال وبعض الكتّاب من مجايليه منهم إدوار الخراط، وعبدالحكيم قاسم، ومحمد إبراهيم مبروك، ومحمد الصاوى ومحمد الراوى وضياء الشرقاوي وغيرهم من الكتّاب الذين اجتهدوا في طرح هذه التقنية الخاصة طرحا تخطى حدود التقليدية في الكتابة الروائية. 
وسرعان ما لفتت هذه الظاهرة كثيرا من كتّاب الرواية في العالم العربى فبدأوا في الاهتمام بها في العديد من أعمالهم الروائية. نذكر منهم على سبيل المثال إسماعيل فهد إسماعيل في الكويت، ورجاء عالم في السعودية، ورشيد بوجدره في الجزائر، وإلياس فركوح في الأردن، وصلاح بوجاه في تونس، وهاني الراهب في سوريا ومحمد الغربي عمران في اليمن وغيرهم كثيرون تتبعوا أثر هذه التقنية واستفادوا منها كثيرا في أعمالهم الروائية. إلا أن محمود عوض عبدالعال كان رائدا في هذا المجال بإصراره وتشبثه بهذه الظاهرة اللافتة في الرواية الحديثة والتي انبثقت منها بعد ذلك مصطلحات كثيرة أبرزها مصطلح الميتاسرد في القصة الرواية الحديثة، وما وراء السرد من عوالم فنية وتقنيات حداثية ظهرت في العديد من الإبداع السردي في الآونة الأخيرة.
ومحمود عوض عبدالعال هو واحد من جيل السعبينيات الذين تأرجحت أعمالهم الروائية والقصصية بين الواقع وما وراءه، والتجريب في الشكل الفني للقص وبين طرح تقنيات حداثية في إبداعه السردي القصصي والروائي. وهو أحد الكتاب الذين كانت المغامرة الإبداعية هي سبيلهم للوصول إلى ساحة القارئ من خلال المضمون خاصة المضمون المعبر عن واقع ما حدث بعد نكسة يونيو/حزيران 67، والتعبير عن تمرد الواقع نتيجة للشرخ الذي حدث داخل المجتمع المصري آنذاك، ونشوء ما يسمى ببدايات الحداثة في الإبداع الروائي والقصصي في مصر والعالم العربي عبر ثورة من التكنيك واستخدام التقنيات الحداثية في التعبير، وكانت رواياته "سكر مر"، و"عين سمكة" و"قارئ في الشارع" و"الزجاج في دمي" هي رد فعل قوي لما أحدثته الرواية الجديدة أو ما عرف باللارواية التي ظهرت في فرنسا على يد آلان روب جرييه وناتالي ساروت وميشيل بوتور وصموئيل بيكيت ومارجريت دورا. 

novel
الشخصية المصرية في حالة غليان وقهر

كذلك كان لأسلوب تيار الوعي الذي ظهر على يد دوروثي ريتشاردسون وفرجينيا وولف وجيمس جويس ووليم فولكنر تأثيره المباشر على بواكير أعماله من خلال ما أراد طرحه من شكل جديد على أرضية السرد العربي يتواءم مع مضامين ما كانت الساحة السردية تتطلبه من تقنيات جديدة، وحول هذا الأسلوب الجديد الذي استخدمه محمود عوض في رواية "سكر مر" يشير في إحدى حواراته: "بعد رواية سكر مر اكتشفت أن تيار الوعي صديقي الوحيد، وهو أدق مترجم لما أشعر به بين الناس، وأراه،, أتمناه مثلهم وما عانيته جعلته مثل البرجل النحاسي الذي صدأ مسمار تحريكه، وثبتت حركته في دائرة تيار الوعي، موزعا للسجائر، مأذونا شرعيا، مصححا بالمطابع ثم موظفا محترما بكل جوارحي أكتب لأحقق الطمأنينة لأبطالي التائهين المقهورين". (2) 
كما كانت قصصه القصيرة في مجموعات "علامة الرضا"، و"الذي مر على مدينة"، و"تحت جناحك الناعم"، و"حس البيت"، و"عدى النهار" واحدة من العلامات المهمة في الإبداع  القصصي المعاصر، نظرا لما تحمله من رؤى جديدة في معمارها الفني وتجريب تشكيلى لغوي حاول من خلاله الكاتب أن يستفيد من تجربة ما وراء الواقع وما يطرحه من أبعاد إيحائية وتفسيرية لما يحدث على مستوى الواقع ذاته. 
ويعتبر محمود عوض من الكتّاب القلائل الذين كانت تقنيات الكاتبة هي أهم توجهاتهم، وديدنهم الأساسي، وكان الشكل الفني والمعمار السردي هو المضمون المعتمد في إبداعاتهم، خاصة استخدامه كما ذكرنا لتقنيات تيار الوعي واللاشعور وتداعي الخواطر والمونولوج الداخلي وتوظيف هذه التقنيات في رفد حالة من الكتابة الروائية والقصصية الهدف منها تشكيل معمار فني جديد لفن القص وإحداث ثورة إبداعية تكتمل به حلقات ما كان يرفده بعض كتّاب الستينيات وعلى رأسهم محمد حافظ رجب الذي كانت بصمته قوية على بعض مجايليه والأجيال التي جاءت من بعده. وكان محمود عوض عبدالعال أحد هؤلاء الذين تأثروا تأثرا كبيرا بسيريالية محمد حافظ رجب ولغته الفنية، كذلك بظهور بعض مجايليه من الكتّاب الذين اشتركوا معه – في الإسكندرية وخارجها - في هذه السمة مثل محمد الصاوي وإدوار الخراط والسعيد الورقي، ومحمد الراوي وضياء الشرقاوي وعبدالحكيم قاسم وغيرهم من الكتّاب، إلا أن  محمود عوض قام في المرحلة التالية بتطوير الشكل الفني للقصة والرواية من خلال احتفائه بما كان يكتبه جيمس جويس ووليم فولكنر وفرجينيا وولف وغيرهم من أصحاب التيارات الجديدة في القص الحديث، كذلك استفاد محمود عوض من متابعته للحركة الأدبية في مصر كثيرا، وكرد فعل لظهور تيار تعبيري مقنع في الحركة الأدبية المصرية تأثر به محمود عوض من خلال إطلاعه على كتابات يوسف الشاروني في تجليات كتاباته النثرية خاصة في كتاب "المساء الأخير" كنموذج، وعبدالغفار مكاوى ومزجه بين الفلسفة والفن القصصي، وشكري عياد واعتماده على التكثيف اللغوي التعبيري في إبداعه القصصي، والتي كانت قد بدأت في رفد حالة من التعبيرية في السرد المصري ومزجه بما يعتمل داخل النفس من بوح وهواجس لها أنماط المونولوج الداخلي الذي يقدم فيه الكاتب مادة معرفية واسعة التعبير تخرج من ذهن الشخصية وتحيل ذهن القارئ إلى متعة فنية وتعطيه ذائقة مكتسبة من هذه المونولوجات الداخلية النابعة من اللاوعي واللاشعور. 
كما كانت ريادة حسين عفيف للشعر المنثور ومحاولاته طرح أدب له مفاتيح خاصة في التناول وتشابك المفردات وقراءة الواقع من خلال اللاواقع واللامعقول وطرح منظور شعري وجودي ما كان له هو الآخر وقع كبير على إبداعات محمود عوض عبدالعال ومنجزه القصصي والروائى في فترة تلقيح وتفتح إبداعاته وبداية ظهورها خاصة عندما ظهرت رواية "سكر مر" وجنوح الناحية التشكيلية في رفد الشخوص وإشكاليات قضاياها والشحنة الفنية اللغوية التي حملتها لنا هذه الرواية إبان ظهورها وما فعلته في الساحة الروائية في ذلك الوقت من إبهار ودهشة ما لفت النظر إلى هذا الطرح الجديد الطالع من الإسكندرية عند محمود عوض والذي كان جديدا على الساحة وعلى القارئ العربي، كما كان لارتباطه واقترابه من الحركة التشكيلية القائمة في الإسكندرية دورها الكبير في تشكيل وعي الكاتب بضرورة استخدام أسلوب الكتّاب التشكيليين في السرد القصصي فكانت عملية النحت اللغوي والتجريب الفني في تشكيل اللغة في جملها ومفرداتها هي الأساس في تطوير تقنيات الكتابة السردية من خلال معايشته لعدد من الفنانين التشكيليين أمثال سيف وأدهم وانلي وعبدالهادي الجزار وراغب عياد وفاروق شحاته وغيرهم من فناني الإسكندرية العظام، وكانت مشاهداته لروائعهم الفنية له دور الإبهار والدهشة الذي انعكس على إبداعه الروائي والقصصي بعد ذلك، كما طرح هذا التوجه في رواية مستقلة بعد ذلك هى رواية "الزجاج في دمى" استخدم لها مناخ الفن التشكيلي وشخصياته من الفنانين في طرح رؤية روائية تعكس مدى تعلقه بهذا المجال وتماهيه مع مجريات ما يجري في هذا المشهد الفني من رؤى وأعمال فنية.
وعلى الرغم من الصدمة التي أحدثتها تقنية استخدام تيار الوعي بهذه الكثافة الكبيرة  والتي لجأ إليها محمود عوض في كتاباته السردية الأولى ورفض كثير من النقاد والكتّاب في بداية الأمر لهذا النسق من الكتابة السردية في ذلك الوقت، فأن محاولاته الدؤوبة في استخدم هذه التقنيات وإصراره على طرح وتطوير أساليب جديدة في هذا المجال قد منح هذا النسق الجديد الحضور القوي وإجازة المرور إلى السرد العربي الحديث بكل قوة، وكما أشار الدكتور حمدي السكوت في مقدمته لرواية "سكر مر" حين قال عن الطريقة الجديدة التي كتب بها محمود عوض عبدالعال روايته: "وهذه الطريقة – على ما أعلم – لم يلجأ إليها قصاص عربي من قبل، وهي ولا شك ستثير كثيرا من الجدل، ولا أكتم القارئ أني لم استسغها بادئ الأمر، وعجبت كيف يمنح المؤلف لإحدى الشخصيات هذه القدرة الخارقة التي تمكنها، لا من أن تتسلل إلى رءوس الشخصيات الأخرى فحسب، وإنما لتتبجح فتنقل إلينا، في دقة مذهلة، وفي شكل تيارات وعي، ما كانت تضطرب به هذه الرءوس من أفكار ونزوات ومشاعر؟". (3) إلا أن الدكتور السكوت قد أشار بعد ذلك إلى أن الاستمرار في قراءة محمود عوض عبدالعال ومحاولة الغوص داخل أنسجه أعماله الروائية يعطي متعة فنية وجمالية في السرد القصصي الحديث وأن التركيز على التكنيك المستخدم في أعماله سوف يتجاوز به القارئ هذه الصدمة التي تقابلنا في القراءة الأولية. وهو ما يحدث نوعا من الدهشة والإبهار بهذا الأسلوب السردي الجديد في التعامل مع النص الروائي، ويستمر الدكتور السكوت في شهادته بقوله: "وأشهد أني بعد المضي في القراءة والاندماج في هذا الأسلوب الدرامي للرواية أخذت أحس بذلك الاعتراض، الذي كان قائما في مؤخرة الذهن في بادئ الأمر، يتلاشى تدريجيا، وبدأت ألاحظ أنه مع مثل هذا الأسلوب، الذي يحققه استخدام تيار الوعي يختفى وجود الراوي تماما من ذهن القارئ، ومن ثم يستوى أن يكون هذا الراوي، عليما بكل شيء أو شخصية من الشخصيات محدودة القدرات". (4) 
من هنا نجد أن استخدام محمود عوض عبدالعال لتقنيات أسلوب تيار اللاشعور في القصة والرواية قد جاء نتيجة إحساسه بضرورة التغيير والتجريب في آفاق جديدة للإبداع السردي، ومن ثم كان لا بد أن يكون إبداعه الروائي والقصصي خارجا من معطف هذا المنظور، وهو ما حدث، وفي حوار آخر أجرى مع الكاتب حول ذلك يقول: "عندما كتبت روايتي الأولى (سكر مر) سنة 1969 كانت الشخصية المصرية في حالة غليان وقهر بعد نكسة 1967. ولم تكمن أمامنا صورة واضحة عن المستقبل. ولا نعرف كيف ولا إلى أين نتجه؟ وتكاد الرؤية تكون ضبابية زمانيا ومكانيا.. وفكّر المثقفون خلال تلك المرحلة – في تصوري الخاص – في البحث عن إجابة السؤال. ما البدن الذي يحمل قلب المصرين ومصر؟! البعض يقول عن التاريخ، وآخرون يرون النيل ومكانته بخصائصه الهندسية والموسمية من قلب أفريقيا إلى عتبة المتوسط. سقط من المثقفين عدد كبير في متاهة عقلية مرضية، لم تحتمل أعصابهم كم الواقعية المؤلمة في هزيمة عربية ساحقة مثل هزيمة 67. لذا كان التعبير في رواية (سكر مر) تجريبيا ليقول كل شيء يرقد في أعماق أعماق المصري والعربي على السواء". (5)
ونزعة التجريب عند محمود عوض عبدالعال نزعة حاكمة ومغلفة برؤية الغموض والإسقاطات النفسية والذهنية التي تحيّد الوعي الإنساني. فلم تكن أعماله سهلة في القراءة والتناول ولكنها تحتاج إلى جهد ومشقة في البحث عن مفاتيح قراءتها وتناولها التناول الأمثل، كما لم تكن أعماله الروائية والقصصية لتسلم نفسها بسهولة إلى القارئ العادي بل كانت تحتاج إلى قارئ خاص يستطيع أن يتمشى مع تقنياتها وما تحتويه من قضايا وإشكاليات ثقافية واجتماعية ونفسية تحتاج إلى جهد في تناولها وهضمها والبحث داخلها عن الرؤى الفنية والموضوعية التي وضعها الكاتب. 
وحول الزمن في السرد الروائي عند محمود عوض يحيل الكاتب إلى رؤى السقوط والفشل الذي كانت عليه كل شخصيات بعض رواياته، مثل "سكر مر" و"عين سمكة" على وجه الخصوص، فلم يكن فشل كل من "إبراهيم زنوبيا" و"عصام الترجمان"، و"مسيو نانا" إلا فشل الإنسان المصري في تحقيق مصيره، ولم يكن زمن الساعة والنصف التي حدثت فيها أحداث رواية "سكر مر" الذي كان يشرب فيها إبراهيم زنوبيا الشاي داخل مكتبه بشركة الطيران وحدوث أحداث الرواية خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة إلا إشارة إلى سقوط مصر كلها خلال الساعة والنصف الأولى عندما ضربت مطاراتها تقريبا في وقت مماثل أثناء نكسة يونيو/حزيران 1967. 
وكما قال الكاتب فى إحد حواراته: "كنت أتعامل مع زمن مفقود، وبشر ضائع، ومقدمات حياة منهارة، كنا في سياق بطولة نعلقها على الحائط في كل ركن، ومجرد فرشاة جير أسقطتها". (6) لذا كانت هذه الضبابية التي تغلف أعماله الإبداعية بمفاتيح قراءتها وتيار الوعي المستخدم فيها، واستبدال الحكاية المباشرة بهذا الزخم من الأحداث المبعثرة والأزمنة المتداخلة، والطوباوية الكاشفة لأبعاد الإنسان من الداخل هي المغامرة الإبداعية التي سار عليها الكاتب في رواياته الأربعة "سكر مر"، و"عين سمكة"، و"قارئ في الشارع"، و"الزجاج في دمى".

رواية "سكر مر" وتماهي الذات
 تعتبر رواية "سكر مر" هي العمل الروائي الأول للروائى محمود عوض عبدالعال وقد صدرت طبعتها الأولى عام 1970 عن سلسلة كتابات معاصرة التي كان يصدرها عدد من الأدباء والفنانين الشباب في بداية السبعينيات. تبدأ الرواية بهذه العبارة المعبرة عن هاجس الزمن في دورته الأولى من الرواية: "صباحا في البدء.. دقت ساعة مكتب شركة الطيران. الثامنة والنصف... بطيئا كعادته جلس أمام كوب الشاي الدافئ، وبامتنان صدئ راح يقلب السكر المتجمد في القاع". (7) بهذا الاستهلال وهذا المشهد الواقعي يجلس إبراهيم زنوبيا في مكتبه بشركة الطيران يقلب سكره المر وهو يعايش ذاته وهواجسه وبوحه الذاتي ناحية بداية تداعي خواطره مع هذه الممارسة الواقعية الأولية، يرفد بوحه الذاتي على هيئة شعر يعتقد أنه لم يكتب مثله، وفي هذه التداعيات لخواطره يبدأ السرد مرحلة الطرح لأسلوب تيار الوعي عند الكاتب: "ليلتي طويلة بلا بداية ولا نهاية، مثل عمر الناي القديم، سأسافر. لأنني شهيد. وبقرة تموت، وكلب رخيص، أفريقى يئن حزنا في سوق مفتوح للجميع. ماذا أحمل في القلب...؟ ماذا أحمل غير الطهر...؟ الشاطئ ملآن بالزفت.. الغابة فيها ألف ألف ثعبان". (8) 
هذه التداعيات الشعرية الذاتية تتواتر معها الأحداث داخل هواجس وبوح الشخصية المتجذرة بقوة داخل نسيج النص. و"إبراهيم زنوبيا" هذا الشاعر الفاشل الذي يطرح في شعره كلمات ومفردات ليس لها معنى غير ما يرفده في شعره المثالي في نظره واللاشعر في نظر الآخرين، هو يعايش هذا الوهم ويتماهى في دقائقه ويعجب كيف ترفضه دور النشر ورؤساء التحرير، ويقضي كل أوقاته مع شعره الغث الذي يعتقد في قرارة نفسه أنه سيصبح به أميرا للشعراء ويحرر به قارة أفريقيا بأسرها، وقد انتهى به الأمر إلى ما يشبه الجنون، لذلك هو يكتب رسالة استعطاف إلى رئيس تحرير مجلة الشعر يطلب منه الاهتمام بقصائده العصماء: "السيد رئيس مجلة الشعر.. أبعث إليك بقصيدتي الأخيرة. رقم مائة. راجيا بعض الاهتمام.. أنت يا سيدي تعاملني مثل أسرى الحروب الذين لا يفهمون معنى الوطنية.. يمكنك أن تتأكد من وطنيتي وتسأل عني في شركة الطيران العربية. قلب محطة الرمل". (9) 
ويستحضر الكاتب مشاهد متعسفة عن بعض شخصيات الرواية، عم سلطان، وعصام الترجمان، ووصف لحجرة عصام، ثم مشاهد لقاءات مسيو نانا اليوناني الذي جاء ليبحث عن قبر الإسكندر. وناهد ومعهما عصام ثم يوضح تمرد عصام على تقاليد الزواج وطقوسه المختلفة، ويتشظى الزمن داخل نفسية الشخوص في مرحلة تداعي الخواطر التي ينتج عنها الإحساس بالهزيمة، وقد انتقلت رواسبها إلى شخصيات روائية مختلفة. وعصام الترجمان طالب كلية العلوم الفاشل الذي سبق أن طرده أبوه لسوء سلوكه فيقع فريسة الأرق والقلق كما يقع فريسة شبكة تجسس عمل معها وانتهى به الأمر أيضا إلى الجنون. أما هذا المستشرق اليوناني "مسيو نانا" فقد أتى إلى الإسكندرية بحثا عن جثة الإسكندر الأكبر وقبره. وانتهى به المطاف إلى السجن بعد أن سقط في الآبار التي حفرها عدد من المتجمهرين المشاهدين لتجربته في البحث عن مؤسس الإسكندرية. 
تلك كانت شخصيات الرواية الذين تدور حولهم وبهم أحداث الرواية: "ومع ذلك وبالرغم من تنوع ظروف الشخصيات واهتماماتها على هذا النحو، فالملاحظ أنها جميعا تتكلم نفس اللغة وتفكر بنفس الطريقة وتتخذ نفس المواقف من كل ما يعترضها؛ لدرجة أن القارئ يداخله أحيانا شعور بأن أى شخصية من هذه الشخصيات لو واجهت وحدها كل هذه المشاكل لما حدث تغير كبير في المواقف أو التصرفات". (10) من هنا كانت شخصيات الرواية بغربتها وفشلها كل في مجاله، والأحداث المتواترة التي تمت في ساعة ونصف من زمن الرواية والرمز الجاثم فيها يجعل غربة المكان والزمان والشخصيات والأحداث تسبب انقلابا في القيم وطريقة التعامل معها، ولعل شخصية إبراهيم زنوبيا وتلاحمه مع ما يدور في لاشعوره الذاتي وغربته الذاتية، كما أن واقعه الثقافي الخاص كان جزءا من المكان والزمن الغريب فيه: "دلف إلى طريق الحرية من شارع سعد زغلول.. كفأر تائه كان.. بين النائحات خلف جنازة. لا مفر.. عربة ضخمة محملة بقطع غيار السيارات. سرت بعين واحدة معها.. الثانية لي.. ملاكى القاهرة. جيزة. إسكندرية. الأقصر. الألوان باهتة.. باهتة. يوجد قصر الثقافة على ناصية وثلاث أضلاع رجل الثانية وجعله يدور على الفاترينات.. فيها كتب قيمة.. أحذية للسيدات. لا يوجد ديوان شعر واحد.. إلى فوق. ثقبت عينه السماء.. فوق أعلى بيت – زمارة حرب – في لون الرصاص. مضى مسرعا". (11) وكانت غربة إبراهيم زنوبيا وهو يسير في شوارع الإسكندرية بجوار قصر الثقافة يبحث عن ندوة للشعر ليقول فيها شعره الغث، ولكنه يفاجئ بندوة أسبوعية تقيمها جماعة طوابع البريد. كانت كل هذه الأزمات والتأزمات التي عاشتها وعايشتها الشخصيات على مدار الزمن النفسي للشخصية والزمن الواقعي للأحداث خاصة هذا المشهد الأخير الذي ضم إبراهيم زنوبيا وسلطان وماجدة وعصام ونادية وهم من الشخصيات النمطية التي تدافعت في محيط الشخصية لتقيّم حضورها في نهاية النص الذي ختم الكاتب به هذه العبارة وهذا المشهد الذي بدأ به روايته. وكان سقوط الشخصية فيها مدويّا كما كان سقوط الواقع أيضا بنفس المقدار والزاوية: "دقت الساعة العاشرة في مكتب شركة الطيران.. لا حس.. لا خبر.. إطمأن لحظة. رفع كوب الشاي وسكب نهايته في جوفه.. مرارة.. انتشرت في صدره.. هبّ مذعورا.. فتح فمه وصرخ.. ثم أفرغ ما في بطنه على مكتب الطيران الأنيق.. حاول أن ينادي زميله الواقف في الخارج.. فسقط عند الباب". (12) وتنتهى الرواية بمأساة الفرد تجاه مأساة المجتمع ذلك: "إن المأساة يمكن أن تعرف هنا على أنها محاولة لتعويض الانفصال الكائن بين الإنسان والأشياء باعتبار أنها قيمة جديدة أو معيار جديد. والمسألة هنا تصبح كتجربة على أن يتحول النصر فيها إلى هزيمة. إن المأساة تبدو في هذه الحالة كاختراع أخير للمذهب الإنساني حتى لا يفلت منه شيء: أعني أنه ما دام التحالف بين الإنسان والأشياء قد بطل، فإن صاحب المذهب الإنساني يحاول أن ينقذ مملكته بتأسيس شكل جديد للتضامن يبقي على مملكته هذه. هذا التضامن الجديد هو الانفصال ذاته متحولا إلى طريق عظيم للخلاص". (13)
تشظى الزمن في رواية "عين سمكة" 
يعتمد الكاتب في رواية "عين سمكة" على نفس التداعي الذي استخدمه في رواية "سكر مر" ولكن بطريقة مختلفة تماما عما استخدمه الكاتب هناك. وكانت الحوارية الجديدة المستخدمة في نسيج هذا النص هي السمة الغالبة والتي شكلّت النسيج الرئيسي في بلورة تداعي الخواطر وتيار اللاشعور حول زمن الرواية الخارجي والزمن الداخلي للشخصيات وانعكاسه على ممارسات الشخصية واستخدام الكاتب لأسلوب السرد السينمائي المقطع في مشاهد يظهر فيها الأب، وشاب، وطفل، وعجوز، وشخصيات نمطية أخرى في حوار مفرط في العبثية. يتجلى فيه وعي الشخصيات في مستويات تداعي الخواطر وتؤسس للزمن الداخلي ركنا ركينا تتدافع منه رؤية الكاتب في شاعرية مفرطة. فمنذ البداية يعتمد الكاتب على الزمن النفسي الداخلي المقترن بالحالات الشعورية واللاشعورية للشخصيات خاصة شخصية رشا إدريس إحدى نساء الليل الهاربة من أبيها. هي شابة في منتصف العشرينيات من عمرها كانت طالبة جامعية دفعتها ظروف الحياة إلى طريق البغاء. أما الأب فكان محاربا قديما اشترك في الحرب العالمية الثانية، وكان بحثه عن ابنته هو البعد الذي أسس من خلاله الكاتب رؤيته الحائرة في البحث عن الابنة الداعرة : "الأب: في أي اتجاه ذهبت ابنتي" (14) عندما افتقد المعاونة من الأهل والجيران اصطحب مناديا وأخذ يجوب معه الشوارع والحارات وهو يحادث نفسه وهواجسه: "يا بنتى.. بعيدا عنك. تيبست ملامحي مثل حجمك. لم يبق سوى إشارة مكررة. الغفران. أتجنب نسيج صوتك. ترى ذنوبي.. بحدود البحر الضيق. خمسون يوما أبحث عنك. منكمشا على ناحية. الفضيحة في ثوب نام". (15) 

novel
بلورة تداعي الخواطر وتيار اللاشعور 

وثالث هذه الشخصيات الفاعلة في نسيج النص هي فاطمة السودا، قوادة باكوس، شخصيات تبدو في ظاهرها هي الناظرة من خلال عين السمكة الزجاجية الناظرة إلى المجهول أما باطنها فكان التأزم في أعماقها ونشعر من ممارساتها وكأنها في أرق جماعي وتأزمات إنسانية واحدة: "في حجم العالم قادمة من خط الشمس.. التجاعيد.. جفناها مسنونتان بالاغتصاب.. برواز صدرها مجرد تلافيف غابات في حالة سيئة يموت هناك على فخذها كل ما يقوله جرس الكنيسة". (16) وفي متخيلها السردي تبدو الرواية في واقعيتها خالية من الزيف والهوية الاجتماعية عند المرأة رشا إدريس التي تسير في هذا الشارع الذي يمثل لها البعد المفقود في حياتها الخالية من أي متعة أو حياة: "شارع الأسير ترتدي ثوبا حزينا غير معطر. سرت بقلق يبعث على الطمأنينة.. لم أتمرن على حمل أعضائي.. غطاها البحر.. كانت موجودة مهملة. الحقوني. عناوينكم أين؟ في دفتر المواليد افسحوا لك مكانا في المقعد الأخير". (17) 

وتتواتر الأحداث، ومن ثم تأتي على غير هدى، وغير منتظمة وغير متوازنة، حيث تتداعى كل الأحداث في تناقض وتشابك وتداخل تجعل منها أشبه بشبكة لغوية تحيط بنسيج عنكبوت المضمون في آن واحد: "في المخبأ تتداعى صور الأب والشاب، والعجوز والطفل والسيدة والحوذي، والقروية، والطفلة وكل منهم يبحث عن شيء ضائع منه فلا يجده، والعجوز برغم عجزه يتطلع للأبدية والصيرورة يقول: دخل المسجد عجوز، يمسك سرواله بيديه من السقوط مجدولة أصابعه استولى عليه الله.. أدخل وضم الرجل إلى صدرك.. بطن الأرض انحنى.. لماذا أنت؟ سقف المسجد يحاربه.. أوراق نعناع الجنة.. وحيدا في شرفات الأبدية.. بيديه قبقاب خرج.. ومن رنين الليلة الأخيرة قمت مبكرا.. عاد.. جثم على غصن نفسه.. سقالة بارز للعميان.. كانت تسوي شعرها تتأمل مشيتها كل الأعين.. محمصة البن، ابن المحمصة مغرم بقذف البنات". (18) 
إن تداخلات الراوي/الكاتب في الرواية بالتحليل والتفسير والتحريض لتوجيه القارئ إلى الاتجاه الذي يريده الراوي وهو ما نجده في أكثر من موضع من نسيج الرواية: "شظايا سجائرك أفسدتني، نامت عند صديقاتها عاملات التريكو.. أتبول في مرحاضهن الملئ بالصراصير.. يرسمون على الحوائط أعضاء تناسلية.. لا تمر المياه في المواسير إلا ليلا، أتجول في الصباح، أقضى حاجتي في مرحاض عام.. كان لون البول ضاربا إلى الحمرة.. أحس بالألم، قالت سيدة شديدة البياض (أنت خائفة).. راحتي أصبحت أملا.. كيف أخلع ملابسى بين جدران لا تعرفني؟". (19)
"قارئ في الشارع" وتفكيك الشخصية
تأتي تجربة رواية "قارئ في الشارع" في سياقها العام بعالم الكاتب عبر تجربة روائية عبثية يفكك فيها الكاتب تداخلات الشخصية مع ذاتها ومع الآخرين يستخدم في ذلك تقاطعات الأزمنة والفلاش باك والرؤية السينمائية والارتداد والانتقال الحر بين الحالة النفسية الداخلية والخارجية من خلال شخصية هذا القارئ الكفيف الذي يقف في الشارع على اتساعه ويتابع من خلال بصيرته الذاتية آفاق الحياة بأزماتها الآنية والقديمة ويحاول أن يتلمس من خلال واقعه الخاص إنعكاسات ما بداخله على نفسه وعلى الآخرين، وما ينقصه هو شخصيا باستغلال إمكانياته الذاتية والمعنوية في التأثير على واقعه وعلى واقع الآخرين المحيطين به يبدأ النص بهذا الاستهلال: "تحت ظل نخلة أم وحيد.. ياقة جلبابه الأزرق الفضفاض منحوتة في شمس العرق.. بين البني والهباب ولون الجير.. ضرير متهالك فوق طاقته.. على مقعد خشبي قصير بذراعين متآكلين.. يتصدر واجهة دكان الخضر والفاكهة وحارة بثلاثة أركان ومدرستين للأطفال. بالمصروفات والمجان، ومستشفى للولادة.. قريبا من نومه فوق الدكة.. يحرك رأسه في ناحيتين.. ويمط حاجبيه لأعلى وأسفل.. الصباح مورق يصغي.. هش الذباب إلى الخلاء". (20) هذا هو المشهد الذي بدأ به الكاتب روايته. وتتواتر الأحداث المبعثرة في تكنيك تيار اللاشعور وتتماهى اللغة المنحوتة مع الأحداث في تنقلات مختلفة عبر المكان السكندري الشعبي والتاريخي القديم خاصة الأغريقي. 
علاقات القارئ الكفيف مع الناس علاقات ملتبسة فهو يهوى النساء ويحاول التقّرب منهن بكل الطرق الممكنة. وفي حواراته مع ذاته والآخرين. وفي وصفه للمكان والشخصيات تكمن رؤى جديدة في سرد النص: "إنحناءة أنف الضرير تبدأ من وسط الجبهة.. آخر من يقبض جمعية أم وحيد.. دعوني أعالجها من مرضها.. صورتين وتحويطة وعدية يس والسبع المثاني.. التي أستظل بنخلتها". (21) وكما يتماهى المتخيل مع الواقع في تحديد رؤية التيمة المستخدمة في نسيج النص عن قارئ الشارع الذي يقرأ في المقابر ووسط هذا الزخم تظهر العذراء في الليل وسط تجمع البشر وشخصيات محددة تحاور بعضها البعض. ويستخدم الكاتب المشهد المسرحي بجانب السرد الروائي ليحيل باب المدينة الذي تكمن عنده تماثيل شخصيات تاريخية نابعة من تاريخ الإسكندرية. وواقعها الحالي من خلال شخصيات مفككة ومجتمع مفكك أيضا يحتوي على جمعيات سرية تعمل في مجال الدعارة وتبادل الزوجات: "فتحي الجمل يعمل قوادا ناحية البحر، يفتح دكانه نهارا.. يفتح أبواب السيارات صوب اللذة.. الليل الباهت يمضي عنه، قططا معروضة للمواء.. لا ترتجفي جوعا.. سكان البحر لا يموتون جوعا". (22) 
في هذه المدينة المتخيلة يسير الكفيف قارئ الشارع، ويتماهى المتخيل مع الواقع في تحديد رؤية التيمة المستخدمة في نسيج النص، ويحدد الكاتب كل ممكنات السرد عن هذا الكفيف الضرير في سقوطه المروع. تماما مثل ما سقط إبراهيم زنوبيا في "سكر مر" وسقط الأب في "عين سمكة" يسقط الكفيف قارئ الشارع الذي لا يبصر سوى ما تريد بصيرته أن تراه أمامها. يسقط في بالوعة مسروقة الغطاء. كأنه قد حفر لنفسه بئرا للسقوط وبين هذه النهاية الحتمية للسقوط والنهاية الحتمية لمستوى المتخيل الخاص بمثل هذه الحالة تنتهى حالة قارئ في الشارع. روّع الناس ونشر بينهم المهاترات والأزمات وأوقع بين الكثيرين وحاول أن يوقع بكثير من نساء المدينة إلا أن القدر كان له بالمرصاد فوقع في شر أعماله: "وهو يسقط بقدميه في بالوعة مجاري مسروقة الغطاء صاح أصحاب الدكاكين الذين ارتبط بهم ويستغنون عنه.. حاسب". (23) 
في هذا الإطار وذلك المتخيّل السردى يحيل الكاتب في روايته "قارئ في الشارع" إلى تيار اللاشعور الذي تقول عنه فرجينيا وولف إنه يحيط بنا من كل جانب وأنه يشغل بال معظم البشر لأنه يحيط بنا: "وغاية ما هنالك أن معظم البشر ليسوا على وعي بهذا النشاط النفسي الذي يحتل مكانا عميقا جدا من وعيهم، وذلك سبب من الأسباب التي من أجلها اختارت فرجينيا وولف شخصيات ذات حساسية غير عادية". (24)
وبنفس النسق قام الكاتب بمحاولة ترتيب الزمن في روايته من خلال اختيار مشاهد مبعثرة لا رابط بينها ولكن الشخصية الرئيسية ذات الحساسية العالية التي أوضحت هذا الجانب كانت شخصية هذا القارئ الكفيف الذي جلس تحت نخلة أم وحيد يستشرف المكان ببصره المفقود وبصيرته الحاضرة.

تيار الوعي
الكاتب بين مصطفى نصر ومحمود عوض عبدالعال وأمين ريان

رواية "الزجاج في دمى" وشفافية الرؤية
تنبع شفافية الرؤية في هذه الرواية التي تمثل الرواية الأخيرة في مسيرة محمود عوض عبدالعال الروائية وهي الرواية الرابعة من تأثره بمشهد الفن التشكيلي الذي كان قابعا داخله حتى الثمالة، يشاهد معارضه، ويعايش فنانيه، ويستمتع بما يقدموه للحركة التشكيلية من لوحات، ويتفاعل معها ويكتب عنها وعن معارضهم كثيرا، لذا كانت إبداعات الكاتب قد استلهمها من شفافية الرؤية الكامنة داخله والتي تنبع من: "أن التشريح النفسي هنا ليس مجرد تحليل.. إنه ملئ بحساسية "(لانطباعيين) للون، والصوت، والأشكال كما هو الحال كذلك في الروايات المبكرة لهذا الروائي، وقالب مناجاة النفس قريب من الشعر في خصائصه المكثفة، وفي اعتماده على الإيقاع في معجمه الدقيق". (25) ولما كان لكل منا زمنه الخاص بحسب آلان روب جرييه، فإن زمن الفن هو زمن هذا الزجاج المعشّق المتواجد بكثرة في دمائنا بحسب هذه الرواية القصيرة للكاتب، الذي رفد من خلالها شخصيات بعض الفنانين التشكيليين أمثال سيف وأدهم وانلي والمكان السكندري الذي جاء في هذا النص بحرفية الكاتب مقللا من تداعي الخواطر وتيار اللاشعور بعض الشيء. ومستلهما بوابة الإسكندرية وحلم الشخصية التائهة فيها من خلال الفنان التائه الذي يحلم بمدينة قريبة من البحر. شارع السلطان حسين وشارع كفافيس وأبعاد المكان السكندري وهي تتخلل ثنايا النص: "النوافذ مغلقة، والشارع خال.. والدكاكين لا يخرج منها أو يدخلها أحد... صوت الكلاب تطارد أنثاها من مكان خرب إلى آخر... الأتربة تغطي أسقف وزجاج السيارات المركونة على الاتجاهين.. بقايا ملابس تتدلى على حبال بين ذراعى حديد كيس بلاستيك مكدس بأوراق في وسط الطريق... كلما هبت الرياح انتفخ الكيس وطارت منه بضعة أوراق". (26) 
يستخدم الكاتب الحوار المشهدي في تكثيف الحدث وأسلوب المذكرات الذاتية في شخصيتي سيف وأدهم وانلى كشخصيتين حاضرتين في النسيج الروائي في مرسمهما وراقصات الباليه في لوحاتهما النابعة من الأوبرات التي كن يحضرنها في مسارح الإسكندرية، من خلاف توظيف المذكرات الفنية والشخصية واللوحات الفنية التي كانت حاضرة بزجاجها في دم كل من سيف وأدهم وانلي الذي كان مريضا بالسل، وكانا يعملان بمصلحة الجمارك بالإسكندرية: "أول مايو ذهبت لإستلام مهايا الموظفين من المحافظة، مبلغ زهيد لا يكفي لسد الرمق عمل في المخازن ممل متواصل، العمل كثير والأيدى العاملة قليلة، أمل.. ربنا يغنيني عن هذا.. مسئولية وقلة جزاء (2 مايو) عملت لوحة جديدة، حصان يرقص على الموسيقى، فهي تعجب العيون القديمة، أما لمسات الفورش المتمردة فتعجب الجديد، وقام سيف برسم لوحة تحاكي الفن الفرعوني، محاولة جريئة، سيف يسير قدما في الفن، سيكون فنانا رائعا". (27) 

على الرغم من أن الإبداع الروائي عند محمود عوض عبدالعال لم يتجاوز أربعة نصوص من نوع الروايات القصيرة (النوفيلا) فأن هذا الطرح السردي القائم على أسلوب تيار الوعي كمصطلح نفسي وهاجسي يعتمد وعي الشخصية كما يعتمد أيضا ذهن الروائي والشخصية معا في ترتيب الأحداث والغوص داخل وعي الشخصيات في تداعيات وهواجس واستحضار مرتب وغير مرتب لأفكار الذات والعالم الذي تعيشه وتعايشه: "إن رواية تيار الوعي هي محاولة لتقديم داخلية الشخصية على الورق، ككل في روائي، والاقتراب قدر المستطاع من محاكاة هذه الداخلية اعتمادا على ما نعرفه في علم النفس الحديث". (28) وهو ما قام به الكاتب في رباعيته الروائية التي تمثل عالمه الروائي أبلغ تمثيل كما تعرض لتيار سردي تواجد فى الرواية العربية المعاصرة بأساليب وطرق مختلفة، كان محمود عوض عبدالعال راهبا في مضمار هذا النوع من الكتابة السردية بحيث أخلص لها في مجالات القصة والرواية وكان له فيها تجارب خصبة ثرية.
الإحالات
01 الرواية والتجريب، د. حسن عليان، مجلة جامعة دمشق، ع 2 م 3 ، 2007 ص 81.
02 محمود عوض عبدالعال (حوار)، أجرى الحوار أسامة الرحيمي، ج الأهرام، القاهرة، ع 46369، 19/11/2013.
03 مقدمة رواية سكر مر، د. حمدي السكوت، كتابات معاصرة، القاهرة، 1970 ص6.
04 المصدر السابق ص 7.
05 محمود عوض عبدالعال (حوار أجراه شوقى بدر يوسف)، م الثقافة الجديدة، القاهرة، ص 192، أغسطس 2006 ص 85.
06 محمود عوض عبدالعال (حوار) جريدة الأهرام.
07 سكر مر (رواية) محمود عوض عبدالعال، كتابات معاصرة، القاهرة، 1970 ص17.
08 المصدر السابق ص 17.
09 المصدر السابق ص 18.
10ـ مقدمة رواية "سكر مر" د. حمدى السكوت، كتابات معاصرة، القاهرة، 1970 ص 13.
11ـ الرواية ص 150.
12 ـ الرواية ص 158.
13 ـ نحو رواية جديدة، آلان روب جرييه، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف بمصر، القاهرة، د . ت ص61.
14 ـ عين سمكة (رواية) محمود عوض عبدالعال، دار الكاتب، بيروت، 1980 ص 18.
15 ـ الرواية ص 31.
16 ـ الرواية ص 65.
17 ـ الرواية ص 14.
18 ـ جدلية التعبير والزمن في روايات محمود عوض عبدالعال، د . محمد مراد مبروك، م الثقافة الجديدة، القاهرة، ع 58، يوليو 1993 ص 18.
19 ـ الرواية ص 32.
20 ـ قارئ في الشارع (رواية)، محمود عوض عبدالعال، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1995 ص 5.
21 ـ الرواية ص 14.
22 ـ الرواية ص 53.
23 ـ الرواية ص 71.
24 ـ تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفرى، ترجمة د. محمود الربيعي، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1973 ص 34.
25 ـ المصدر السابق ص 35.
26 ـ الزجاج في دمي (رواية) محمود عوض عبدالعال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000 ص 16.
27 ـ الرواية ص 67.
28 ـ تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة.. دراسة أسلوبية، د. محمود غنايم، دار الجيل بيروت/دار الهدى القاهرة،1993 ص10.