النصر على داعش.. إعلان سابق لأوانه

إطلاق صيحات النصر على التنظيم تبدو متفائلة جدا حتى لا نقول ساذجة للغاية والمؤكد أنها سابقة لأوانها بكثير برغم كل الهزائم والنكبات التي ألحقت بالتنظيم ونجاح قوى التحالف الدولي من جهة وروسيا وحلفاؤها من جهة أخرى.

بقلم: عريب الرنتاوي

العملية الإرهابية التي تبناها تنظيم "داعش" الإرهابي في مدينة منبج السورية، وراح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى من المدنيين والعسكريين الأميركيين والأكراد، أعادت من جديد طرح السؤال المثير للجدل والانقسام: هل انتهى التنظيم بعد الهزائم الفادحة التي تلقاها في كل من العراق وسوريا؟

استعجلت إدارة الرئيس دونالد ترامب إعلان النصر على أكثر التنظيمات الإرهابية وحشية ودموية، ولم يتغير موقفها حتى بعد عملية منبج، لكن كثيرين من أبناء المنطقة، وخبراء الحركات الإرهابية يشككون في صحة التقدير الأميركي، ويعزونه لعوامل داخلية، تتمثل أساسا في رغبة الإدارة ورئيسها، في تسجيل انتصارات من أي نوع، تساعده وتساعدها على صرف النظر عن التحديات والمشكلات التي تحاصرها داخليا، أو احتواء تداعياتها على أقل تقدير.

لا شك أن التنظيم تعرض لهزائم ونكبات كبرى خلال السنوات الثلاث أو الأربع الفائتة، بعد أن تظافرت جهود دولية وإقليمية في وقف زحفه وتمدده، قبل الانقضاض عليه في معقليه الرئيسين: الموصل والرقة، وتطهير معظم المناطق الحضرية من سيطرته على ضفتي الحدود، لكن التنظيم، أظهر في المنقلب الثاني من العام الفائت، ولا يزال يظهر، قدرته على تنفيذ عمليات إرهابية مؤلمة، وتهديد مدن وبلدات وقرى، سورية وعراقية، بل وشنّ هجمات نوعية كما فعل في بلدة هجين ومحيطها شرق الفرات.

ثمة تقديرات استخبارية متفاوتة حول حجم ما تبقى للتنظيم من عناصر ومقاتلين في مناطق انتشاره في عمق الباديتين السورية والعراقية، فثمة من يتحدث عن 1500 مقاتل ما زالوا تحت السلاح، فيما تقول مصادر أخرى أن أعدادهم تتجاوز خمسة آلاف مقاتل، إلى جانب فرار مئات المقاتلين والكوادر إلى "ساحات انتشار جهادي" أخرى مثل ليبيا ودول الصحراء الأفريقية وأفغانستان وغيرها.

تأتي المحاولات الفاشلة التي قامت بها أطراف عديدة، للقبض على زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي أو قتله، لتنهض شاهدا على أنه ما زال يتمتع بالمرونة وهوامش الحركة والحد الأدنى من الانضباط التنظيمي والقدرات اللوجستية والأمنية، وإلا لكان الرجل المستهدف من عشرات الدول والمنظمات قد سقط منذ زمن طويل في قبضة خصومه أو لقي حتفه.

وإذا كان التنظيم يحتفظ بعداوة أطراف دولية متنافسة (روسيا والولايات المتحدة ـ التحالف الدولي) وأطراف إقليمية متصارعة (العرب والإيرانيين)، إلا أن بقاياه وفلوله تستفيد إلى أقصى حدود الاستفادة من انعدام التنسيق بين هذه الأطراف، بل واتجاه بعضها لترك مهمة الإجهاز عليه للفرقاء الآخرين من معسكر الخصوم والمنافسين، والاكتفاء بقتاله في المناطق الخاضعة لسيطرة هذا الفريق أو ذاك. وهو ما حدث في العام 2018، عندما تُرك آلاف المقاتلين "الدواعش" من دون أي تعرض عسكري جدي يذكر في مناطق جنوب الفرات والبوادي السورية، لابتعادها عن مناطق سيطرة كل من الولايات المتحدة وروسيا، أو بالنظر للحساسية المفرطة التي أبدتها الأطراف حيال أي محاولة للاقتراب من مجالها الحيوي في سوريا، خشية الصدام المباشر بين القوى الإقليمية والدولية المنتشرة على الأرض السورية.

لقد تنبهت كل من بغداد ودمشق إلى خطورة استمرار هذا الوضع وتفشيه في حال أقدمت الولايات المتحدة على سحب قواتها من شمال شرق سوريا أو من قاعدة "التنف" على مقربة من المثلث الحدودي بين الأردن وسوريا والعراق، ولقد أسفرت الزيارة التي قام بها فالح الفيّاض مستشار الأمن الوطني العراقي إلى دمشق، ومحادثاته هناك، عن رفع مستوى التنسيق بين البلدين في محاربة التنظيم، ومنع انتشاره والحيلولة دون تمكينه من "ملء الفراغ الأميركي".

ومن ضمن الترتيبات التي جرى التوافق بشأنها إعطاء ضوء أخضر لسلاح الجو العراقي بقصف مواقع التنظيم ومراكزه داخل الأراضي السورية، والسماح لوحدات الجيش العراقي والحشد الشعبي، بمطاردته داخل الأراضي السوري إن تطلب الأمر ذلك.

يسود اعتقاد "هامس" داخل الأروقة الأمنية وفي أوساط الخبراء، بأن الأطراف الإقليمية والدولية المتنافسة، لا تستبعد فرضية "ترك التنظيم لاستنزاف معسكر الخصوم"، وتفادي شن عمليات كبرى ضده في مناطق انتشاره البعيدة، وشبه الخالية من السكان، لتجنب أية خسائر وتكاليف محتملة، في حرب يُراد لها حشد قوات برية كبيرة العدد، لتمشيط مناطق انتشاره ذات الطبيعة الطبوغرافية المعقدة، والممتدة على مساحات شاسعة.

كما أن إخفاق حكومتي العبادي والمهدي في العراق في توفير حلول سريعة ومناسبة لمشكلات النازحين العراقيين وإعادة إعمار مدن غرب العراق (السنيّة) يترك للتنظيم هوامش واسعة للحركة والعمل في أوساط جمهور غاضب. ولطالما أبلغني خبراء عراقيون أثق بتقديراتهم، بأن "البيئة الحاضنة" للتنظيم لم تُجفف تماما، وأن فرص عمله وانتشاره في بعض الأوساط العراقية الناقمة ما زالت قائمة، وأن السبب يكمن أساسا في الطابع المذهبي للنظام السياسي العراقي وفشل حكوماته المتعاقبة في تأمين الخدمات الضرورية لملايين العراقيين، خصوصا في المناطق المنكوبة.

والأمر ذاته ـ وإن بدرجة أقل من الحدة والتفاقم ـ يمكن الإشارة إليه في مناطق شرق وشمال سوريا، حيث تمركز التنظيم لسنوات عدة، فالسوريون العرب الغاضبون من "هيمنة" الأكراد على مناطقهم، وما رافقها من تقارير عن عمليات "تطهير" لبعض المناطق، قد يشكلون "هدفا رخوا" للتنظيم؛ والسوريون الغاضبون من غياب أية إشارة تعكس رغبة النظام في دمشق في انتهاج سياسات وممارسات مختلفة عمّا كان عليه الحال قبل اندلاع الأزمة السورية، يمكن أن يكونوا بدورهم "لقمة صائغة" للتنظيم.

ويُستدل من كل ذلك، أن البيئة التي سمحت بنشوء التنظيم المتشدد، وساعدت في بقائه وتمدده، لم تتغير تماما، وأنها ما زالت تسمح لخلاياه وعناصره بالحركة والاختفاء وتنظيم اعتداءات. صحيح أن "إدارة التوحش" التي اعتمدها التنظيم في حكم مناطق سيطرته، قد لعبت دورا حاسما في تنفير المواطنين منه، ورفضهم لعودته، بل وامتشاقهم السلاح ضد عناصره في بعض المناطق وبعض الأحيان، بيد أن الصحيح كذلك، أن "مرحلة ما بعد داعش" لم تأت بالكثير من الأنباء السارة لملايين المواطنين المعذبين والنازحين، وأن وعود الرخاء والاستقرار والعدالة، لم تجر ترجمتها على الأرض.

ويزداد الطين بلّة، والقلق تفاقما حين تتواتر التقارير من بعض الجهات الاستخبارية (موسكو خصوصا) تتضمن معلومات عن مساع تبذل من خلف الكواليس للتقارب والتقريب بين "داعش" و"النصرة" أو غيرها من الجماعات القاعدية، وهي عملية ما زالت في بواكيرها، فإن قُدّر لها أن تتواصل وتتوج بالنجاح، فإن خطر التنظيم الإرهابي، سيتضاعف، وستصبح مهمة استئصاله أكثر كلفة وأشد تعقيدا.

نخلص من ذلك للقول: إن إطلاق "صيحات النصر" على التنظيم تبدو متفائلة جدا، حتى لا نقول ساذجة للغاية، والمؤكد أنها سابقة لأوانها بكثير، برغم كل الهزائم والنكبات التي ألحقت بالتنظيم، ونجاح قوى التحالف الدولي من جهة وروسيا وحلفاؤها من جهة أخرى، في تجريده من المدن والبلدات والقرى التي كان يسيطر عليها، وتهديم أركان "خلافته الدامية".

عن الحرة