الولايات المتحدة.. لم تنشئ تنظيم الدولة
بقلم: حسن منيمنة
السجال السياسي في الولايات المتحدة محلي بامتياز. أي أن طروحاته وحججه ومناكفاته تتشكل وتتطور للاستهلاك الداخلي وحسب. نعم، كثيرا ما يأتي السياسيون في الولايات المتحدة على ذكر سمعة بلادهم عالميا، ولكن ذلك غالبا ما يكون في إطار المزايدة على الخصم السياسي الداخلي، وليس انطلاقا من قلق حقيقي لديهم بأن الضرر قد طال صيت الولايات المتحدة وهيبتها في أنحاء العالم.
ليس أن الإنسان الأميركي، شأنه شأن المواطنين في سائر الدول، لا يعتز بأن تكون بلاده في الموقع الأول، ولا يشعر بالإهانة حين تسخّف أو تسفّه، غير أن ما يجري في عالم السياسة هنا، في النادر الذي تثار فيه مسائل من هذا النوع، هو توظيف لهذه المشاعر، على ثانويتها أو عَرَضيتها، للمزايدة على المنافسين السياسيين المحليين.
الاستيعاب المتأني لهذا الإطار الراسخ في محليته ضروري لفهم بعض السلوك السياسي للرئيس الحالي للولايات المتحدة، دونالد ترامب.
فترامب قد أسعد الطاعنين بالولايات المتحدة في أرجاء العالم، حين قال خلال حملته الانتخابية إن حكومة الولايات المتحدة هي من "أنشأ تنظيم الدولة". وهو منذ أن تولى الحكم يطرب مسامعهم، ومعه حشد من مؤيديه، في حديثه عن "الدولة العميقة". ولكن لا. رغم أقوال ترامب والتي يجب أن تفهم في سياقها، الولايات المتحدة ليست هي من أنشأ تنظيم "الدولة" أو تنظيم "القاعدة" أو أي تنظيم جهادي. والولايات المتحدة ليس فيها "دولة عميقة".
لا بد من إدراج أقوال ترامب، الرئيس اليوم والمرشح بالأمس وقبله رجل المجتمع والأعمال، في إطار الاستعمالات السجالية التي تعمد إلى طي الوقائع وليّها وتطويعها بما يتناسب مع الحاجة الخطابية. فهذا أسلوب لم يبتكره ترامب وإن امتهنه من دون اعتذار ومن دون التفات إلى العواقب خارج الهدف المتوخى. نعم، فيه خروج عن الأعراف، ونقلة نوعية في التعامل مع الحقائق، ولكن مع رئاسة ترامب أمسى الواقع المتحقق في الولايات المتحدة، ومنها وعبرها، في العالم أجمع.
الولايات المتحدة ليست "بريئة" في موضوع تمكين الجهاد، وفيها بالتأكيد من الضوابط التي تقيّد الرئيس، رغم الصلاحيات الواسعة التي يمنحه إياها الدستور. ولكن ذلك لا يرتفع بتاتا إلى حد المسؤولية المزعومة عن إنشاء للجهاد بتنظيماته المختلفة، ولا يصل إلى مستوى الدولة العميقة التي تتربص بالحكم المنتخب هنا.
في الموضوع الأول، ما لا خلاف حوله وقائعيا هو أن الولايات المتحدة قد تعاونت مع حكومتي المملكة العربية السعودية وباكستان في الثمانينيات من القرن الماضي لمواجهة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، وهذه الحكومات اعتمدت على المجاهدين المندفعين من أنحاء العالم للتصدي لما اعتبره هؤلاء عدوانا على ديار المسلمين.
ليست هذه الدول من أطلق الحركة الجهادية، بل هي جاءت كنتيجة تدريجية لفشل الطروحات القومية والاشتراكية والثورية المتعاقبة، وليست هذه الدول من تحكّم بتفاصيل الحركة الجهادية ومتغيراتها العديدة، بل كان السعي للاستفادة منها وتوجيهها قدر المستطاع لاستنزاف الاتحاد السوفياتي من دون عناية بالعواقب. يمكن اتهام واشنطن فعلا بالاستهتار وسوء التقدير والتخلف عن تحمل المسؤولية بعد تحقيق المرجو من النشاط الجهادي في أفغانستان، وهي قد دفعت، ولا تزال، ثمن هذا التفريط غاليا. فاعتداءات الحادي عشر من أيلول عام 2001، وما سبقها وما تلاها، والاضطرار الناتج في الولايات المتحدة إلى تبديل جوهري في النظم الأمنية والأولويات الخارجية هو من التبعات المباشرة لهذا الإهمال.
وفي حين أن هذه الاتهامات بذاتها خطيرة، فإن أوساط عديدة في المحيط العربي وما يتعداه، فضلت أن تعتبر أن الحركات الإسلامية صنيعة أميركية، مبرئة بذلك ساحاتها المحلية من المسؤولية، وأن استفحالها جاء بقرار متعمد من واشنطن، والتي فيها على ما يبدو، وخلافا لما يراه من يعايش صياغة القرار فيها، من يتحكم بدقائق الأمور بكل ثقة وإطلاق. فإذا لحق الضرر بالولايات المتحدة، فإن ذلك، وفق تصوراتهم المحصنة، سحر انقلب على الساحر، أو تمويه متعمد، أو غيره من التوصيفات المتباعدة والمتضاربة، والتي تتشاطر وحسب بأن في الأمر سر وقرار.
كان بالإمكان اعتبار الموضوع مسألة خلافية لو أن الجهات التي شاءت تحميل الولايات المتحدة مسؤولية إنشاء الجهاد من العدم واستخدامه وظيفيا ثم تصفيته، أي كامل الحل والربط، بنت قراءاتها على الوقائع والمعطيات، ورضت باختلاف وجهات النظر حيث يقتصر الحكم على الظن. ولكن السائد إلى حد الإجماع لدى هذه الجهات هو الانطلاق من تقرير المسؤولية المطلقة للولايات المتحدة، واعتبار القرائن الضعيفة والموضوعة براهين يقينية، ثم الانتقال إلى تسفيه المعارض أو تخوينه أو تكفيره.
لسان حال هؤلاء اليوم، بعد أن قدم لهم ترامب شهادته أن "الولايات المتحدة هي التي أنشأت تنظيم الدولة"، هو أن المسألة لم تعد موضوع بحث ونقاش، وكيف تكون كذلك، طالما أن رئيس الدولة العظمى والتي تتحمل المسؤولية يقرّ هو بنفسه بالفعل؟
واقع الأمر هو أن ترامب لم يقدم لهم شيئا، ذلك أن قراءاتهم وقناعاتهم لا تعنيه البتة، بل لو كان لها أي اعتبار لديه لكان تروّى قبل إطلاق التهمة. فقوله هذا جاء حصرا في إطار التراشق السياسي خلال الحملة الانتخابية. كان بوسعه أن يقول إن أوباما أساء تقدير قوة تنظيم "الدولة" في أول نشأته، وأوباما بالفعل أخطأ، وكان بوسعه أيضا أن يعيب على هيلاري كلينتون ترددها في اتخاذ المواقف الحاسمة ما أتاح المجال لاستقواء الجهاديين. ولكنه بدلا من هذا وذاك، وسعيا إلى إرساء الرسالة الصارمة في أذهان الناخبين، قال كلمته بأن أوباما وكلينتون هما من شكلا تنظيم "الدولة".
أن يعمد المحللون والمتابعون والباحثون من الخصوم الخارجيين إلى التمحيص بهذا الكلام، وأن يبنوا عليه التصورات والقراءات، وأن تشحن جراءه المواقف السياسية والخطابية لديهم، هي نتائج جانبية لا اعتبار ولا قيمة لها إذ هي لا تؤثر لا سلبا ولا إيجابا على الهدف المقصود من الكلام، أي الطعن بخصوم ترامب الانتخابيين وإثارة الشبهات بشأنهم، لتحقيق غاياته، وهو ما كان.