"امرأة في الثلاثين" تحليل عميق لنضج المرأة جسديا وعاطفيا

محمد الحمامصي
بلزاك يختار بطلة روايته من خلال الرسائل الكثيرة التي كان يتلقاها من نساء في سن الثلاثين.
الكوميديا الإنسانية
نابليون بونابرت

يعد أنوريه دي بلزاك بين أشهر كتاب الرواية قاطبة، فعلى يديه اكتمل تحول الرواية من مجرد "حكاية" أو سرد لأحداث حقيقية أو خيالية إلى بناء فني متكامل يزخر بالحياة والأحداث، ويخضع لمعايير فنية واضحة. وليس أدل على منزلة بلزاك الأدبية من أن أعماله قد تخطت منذ أمد بعيد إطار الأدب الفرنسي ونقلت إلى الكثير من لغات البشر، فهو - إلى جوار شكسبير وديكنز - أكثر الأدباء نشرا في مختلف اللغات. ومن الغريب أن تفتقر المكتبة العربية إلى معظم مؤلفاته.
هكذا يفتتح المترجم عبدالفتاح الديدي ترجمته لرواية "امرأة في الثلاثين" لبلزاك والصادرة أخيرا عن دار آفاق للنشر، وهي الرواية التي يبدو أن الكاتب قد اختار بطلتها من خلال الرسائل الكثيرة التي كان يتلقاها من نساء في سن الثلاثين، لأنها برزت أمامه لقوة شخصيتها. وأغلب الظن أنها كانت شديدة الحظوة لدى الناس.
 وقد استطاعت تجربة حكيمة أن تقنع بلزاك ـ عندما قابلها ـ بثبات مبادئها، وكانت مصدر إيحاء بالنسبة لأغلب مواقف الصرامة التي تخللت حياة السيدة "ديجليمون" داخل هذه الرواية. فهذه المرأة "ديجليمون" في الثلاثين تعيش نضجا عاطفيا وفكريا وجسديا، كانت قد تزوجت في سن صغيرة بضابط كبير وأنجبت منه ولدا وابنة لكنها سرعان ما تكشفت رغباتها الحقيقية التي اعتملت في أعماقها، ولتعيش أوجاعا ومآسي وتغرم بدبلوماسي شاب يدعى شارل ديفاندينيس.   
ولد الكاتب الفرنسي في العشرين من مايو/آيار 1799، نفس السنة التي عاد فيها نابليون من حملته على مصر، أي أنه ولد عشية إعلان نابليون نفسه إمبراطورًا على الفرنسيين، ومات في الثامن من شهر أغسطس/آب 1851 عشية إعلان لويس نابليون، ابن أخي بونابرت نفسه، إمبراطورا من جديد، وخلال تلك الخمسين عاما شهدت فرنسا انهيار الإمبراطورية الأولى وإعادة الملكية في 1815، ثم ثورة 1830‎ ‏ التي أطاحت بفرع من الأسرة المالكة لتأتي بفرع آخر، ثم ثورة 1848 التي أعلنت الجمهورية الثانية، وأخيرا انقلاب لويس نابليون المذكور. وهكذا عاش بلزاك فترة من أغنى فترات تاريخ بلاده من حيث التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ما كانت لتفلت من نظره الثاقب.
ويلفت الديدي إلى أن بلزاك ينتمي اجتماعا إلى الطبقات الوسطى، وهي الطبقات التي كان ينتمي إليها غالبية المثقفين، وقد حاول أهل بلزاك أن يدفعوا به إلى إحدى المهن القانونية، فقطع المرحلة الأولى من دراسة القانون، ثم عمل في مكتب محام، ومكتب موثق عقود، ولكن هذا العمل الرتيب ما كان ليرضي الفتى الطموح الذي كان يرقب من حوله مجتمعا يمكن أن يرتقي فيه ضابط صغير من كورسيكا إلى عرش الإمبراطورية، ويصبح فيه تاجرا صغيرا - بفضل المضاربة أو توريد المؤن للجيوش – من أصحاب الملايين، وترفع المغامرات السياسية بعض أصحاب القلم إلى مراكز الصدارة. 
ومن ثم هجر بلزاك مهمة القانون، محاولاً تحقيق المجد عن سبل أخرى، فجرب الصحافة والنشر والطباعة والعمليات المالية، ولكن كل محاولاته لم تورثه إلا الإخفاق والديون التي تراكمت عليه حتى وفاته.
وكانت أعماله الأدبية الأولى أبعد ما تكون عن النجاح، ولكنه عاد إلى الكتابة تحت إلحاح مزدوج من موهبته الطبيعية ومن حاجته إلى المال، فقد كان ينشر معظم أعماله في الصحف في شكل مسلسلات يقبض ثمنها مقدما.
ويرى الديدي أن أول ما يلفت النظر في أدب بلزاك هو غزارة الإنتاج بشكل منقطع النظير. فقد كتب في حوالي ربع قرن ما يزيد على تسعين رواية وقصة قصيرة ومسرحية. وفي السنوات الثلاث ما بين 1832 و1835 وحدها كتب عشرين مؤلفا. وقد أحصى بعض المتخصصين في الدراسات البلزاكية الشخصيات المذكورة في رواياته، فوجد أن تلك الروايات تضم 2472 شخصية خيالية محددة بالاسم والمعالم، و566 شخصية مذكورة بالوظيفة فقط، فضلاً عن شخصيات تاريخية حقيقية عديدة. 
ولكن ثمة ما يذهل أكثر من الأرقام، لقد تمكن بلزاك من أن يجمع الجزء الأهم من رواياته بعد الطبقة الأولى في أكثر من عشرين مجلداً تحت اسم "الكوميديا الإنسانية". 
وفي تلك الروايات جميعا تصادف حشد من الشخصيات تلعب من رواية إلى أخرى الدور الذى رسمه لها بلزاك. ويخرج القارئ بإحساس عميق بأنه أمام عالم متكامل متشابك المصالح متواتر الأحداث، تمثل كل رواية جانباً من حياته، أو طرفاً من أحداثه، أو لحظة من تاريخه. وبرغم أن المؤلف لم يرسم خطة "للكوميديا الإنسانية" مقدماً، بل كتب رواياتها عبر الخاطر، ولم يقم بجمعها إلا فيما بعد، فإن الشخصيات التي تعاود الظهور من رواية إلى أخرى تحافظ على مميزاتها وتنسق تصرفاتها كما لو كانت تحيا دائما فى وجدان بلزاك.
كان بلزاك من خلال هذا العمل الروائى الضخم مؤرخاً للمجتمع الذى عاش فيه كأدق ما يكون المؤرخ. وتعد رواياته مرجعاً أساسيا لكل من يدرس الحياة اليومية لفرنسا فى تلك الفترة. وقد ساعده على ذلك عدة أمور: فهو كان يقصد قصداً أن يؤرخ لعصره بعد أن حاول فى البداية كتابة روايات تاريخية عن نشأة فرنسا. وهو من ناحية أخرى كان على معرفة وثيقة بالمجتمع الذي عاش فيه. فكان أجداده لوالده يربطون أصوله بالفلاحين وبمعيشة القرية وأحلام شباب مدن الأقاليم الطامحين للمجد فى العاصمة، كما عرف من أسرة والدته حياة تجار باريس ومشاغلهم، ومن فترة عمله القصيرة فى الشئون القانونية لمس عن كثب أنواع العلاقات القانونية الجديدة التى بدأت تستقر فى البلاد على ضوء قوانين نابليون الشهيرة، وخلال مغامراته المالية المخففة خالط أوساط البورصة، وتعلم الكثير عن المضاربين وأصحاب البنوك، وهو كصحفي، ثم كأديب عاش عن كثب حياة الصحافة، وهو كفنان نجح فى أن يشق لنفسه طريقاً ـ بفضل ما حبته سيدات المجتمع الأرستقراطي من حماية ـ إلى صالونات باريس، وعرف طرفاً مما يدور فيها وفي ما وراءها.
وهو أخيراً كان حريصاً جد الحرص على استمرار المراسلة بينه وبين قرائه، وبصفة خاصة قارئاته اللاتي كن يقطن خارج باريس، ويجدن فى رسائلهن إليه وسيلة لبث أشجانهن، والتنفيس عما يحسسن به من ضيق، ومن خلال بعض هذه المراسلات تعرف إلى السيدة التى أصبحت حبه الكبير.
ويشير الديدي إلى أن أبرز ما أرخ له بلزاك عبر رواياته هو مظاهر صعود الطبقة الرأسمالية الجديدة وأساليب تكوينها، فهذا الأب "جوريو" يقتر على نفسه كل التقتير ليوفر الدوطة لبنتيه الحسناوتين ليتزوجا بعض النبلاء أو الأثرياء، وهذا "جرانديه" يدخر محاولا تحويل مطبعته الصغيرة إلى  مؤسسة تجارية كبيرة، وذلك "البارون نوسينجن" يضارب في البورصة ويسحق منافسيه في غير رحمة بعد دعم مركزه كأحد ملوك المال، وهناك "لوسيان شاردان" يحاول استغلال وسامته وأدبه ليكسب قلوب بعض سيدات الأرستقراطية ويصعد بفضل نفوذهن، وثمة المضارب على أسعار القمح الذي جمع ثروة ضخمة أثناء حروب نابليون: وهناك "سيزا ربيروت" الذي حاول أن ينشئ صناعة حديثة لمستحضرات التجميل مستخدما "فن الإعلان" على نطاق واسع، فنجح أول الأمر، ولكن أطاحت به المضاربة. وفي خلفية الصورة نجد رجل "البوليس السياسي" الذي خدم جميع نظم الحكم المتعاقبة، والذي يستخدم ما جمع من المعلومات في الضغط على الكتاب والساسة.
ولم تكن الوفرة في إنتاج بلزاك على حساب المستوى الفني. وإذا كان أسلوبه أحيانا يقل عن المستوى المنتظر من كاتب مثله، فإن عددا كبيرا من رواياته قد احتل محلا ممتازا بين أروع القصص العالمي في كل العصور. ومن بينها "امرأة في الثلاثين" لما تمتاز به من تحليل عميق وجمال عرض.