اميركا تتحالف مع الفقر على الصومال

لندن - من عبد الكريم حمودي
اغلاق البركات يحرم ملايين الصوماليين من مصدر دخلهم الوحيد

تشير العديد من التقارير الدولية والبيانات الإحصائية المتوفرة عن الأوضاع الاقتصادية في الصومال إلى أنها مقبلة على كارثة اقتصادية حادة بسبب الجفاف الذي يجتاح البلاد منذ ثلاث سنوات، وتوقف المساعدات الغذائية الدولية نظرا لفقدان الأمن والاستقرار، بالإضافة إلى تراجع الصادرات الصومالية من الماشية تحت تأثير انتشار الأمراض، علاوة على ارتفاع معدلات التضخم في العديد من القطاعات.
ومما زاد الطين بلة إدراج الولايات المتحدة في السابع من تشرين ثاني/نوفمبر الماضي "مؤسسة البركات للتحويلات المالية" ضمن المؤسسات الداعمة للإرهاب في العالم، والتي كان الصوماليون العاملون في الخارج يحولون من خلالها الأموال لذويهم، مما أفقد المواطنين الصوماليين مصدراً مهماً من مصادر الرزق، كانت تساعدهم على تحمل شظف العيش وحالات الفقر والجوع والمرض التي يعيشون في ظلها نتيجة افتقارهم لأدنى مقومات الحياة الإنسانية.

بلد ممزق واقتصاد مدمر
لا بد من الإشارة قبل الحديث عن الاقتصاد الصومالي، إلى أن الصومال لم تعرف الاستقرار ولا الحكم المركزي منذ عام 1991 عقب انهيار حكم الرئيس محمد سياد بري، الذي عرف بالاستبداد، ومن ثم اندلاع الحرب الأهلية، حيث أخفقت كافة الجهود الإقليمية والدولية في وضع حد لتلك الحرب، فقد أخفق اثنا عشر مؤتمراً سابقاً للسلام في تسوية النزاع بين القوى المتصارعة، أو حتى إعادة اللحمة لهذا البلد المنكوب المقسم حالياً إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
الأول: دولة الصومال، التي يتولى رئاستها عبد القاسم صلاد حسن، ويعارضه فيها عدد من أمراء الحرب وزعماء المليشيات المسلحة، الذين يبحثون عن المنافع الخاصة والقبلية.
والثاني: جمهورية "أرض الصومال" التي تقع شمال غرب البلاد، ويرأسها محمد إبراهيم عجال)، وهي ذات طابع انفصالي.
والثالثة: دولة "أرض البانت" التي يرأسها عبد الله يوسف أحمد، والأخيرة قبلت بالانضمام إلى دولة صومالية فيدرالية موحدة في المستقبل لكنها قاطعت مؤتمر السلام في آب/أغسطس 2000 الذي تشكلت فيه الحكومة الوطنية الانتقالية بزعامة صلاد حسن في أعقاب مؤتمر المصالحة الوطنية الذي عقد في عرتا (جيبوتي)، بدعم من الأسرة الدولية.
ولكن غالبية زعماء الفصائل والأقاليم الذين يسيطرون على جزء كبير من الصومال لا يعترفون بالحكومة المركزية، كما أن تلك الحكومة لم تنجح في فرض سيطرتها خارج مقديشو العاصمة.
أما على صعيد الوضع الاقتصادي، فعلى الرغم من بعض التباين في توفير متطلبات العيش من منطقة إلى أخرى، إلا أنه بشكل عام، فإن الحرب نجحت في تقويض أسس الاقتصاد الصومالي وتخريب بنيته التحتية بشكل شبه كامل. واصبح الصومال يعاني من ديون خارجية تقدر بنحو 2.6 مليار دولار حسب تصنيف الأمم المتحدة والبنك الدولي. فيما سقط جراء هذا الصراع الدامي ما يزيد عن المليون شخص من السكان، الذين يقدر عددهم في الوقت الحاضر بنحو 9.5 مليون نسمة.
وتصف مجلة "إكسبريس" الفرنسية‏ في تقرير حديث لها الأوضاع في الصومال فتقول: "لا يستطيع المرء أن يرى إلا آثار الحرب الأهلية في كل مكان‏، بعد أن استحال كل شيء إلى دمار‏، فالدولة، كمؤسسات، تكاد تكون اختفت بالفعل‏، والإدارة انتقلت إلى لا شيء‏، أما المنظمات غير الحكومية والسفارات فقد طويت صفحتها منذ فترة طويلة‏، فكل شيء تحطم وتحول إلى تراب وأنقاض‏، حتى ليملك البعض أن يقول إن الصومال ليس إلا تاريخ الهبوط إلى الجحيم‏".

تدهور الوضع الغذائي وانتشار المجاعة
شهد العام المنصرم 2001 مجموعة من الأحداث والتطورات الداخلية والإقليمية والدولية كان لها انعكاسات سلبية على الوضع في الصومال، حيث زادت من حالة التردي والبؤس وعمقت من حالة الخوف والترقب في أرجاء الدولة الغائبة‏، ومن هذه الأحداث والتطورات:

أ - تدهور إنتاج الغذاء: فقد واجهت الصومال خلال العام الماضي نقصاً خطيراً في كميات الغذاء سواء المنتج داخل البلاد أو المتدفق من خلال منظمات الإغاثة الدولية.
وتقدر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو" عدد الأشخاص الذين يواجهون صعوبات غذائية في الصومال ما بين 800 ألف إلى مليون شخص، بمن فيهم 300 ألف شخص في الأقاليم الجنوبية يهددهم خطر المجاعة.
فعلى صعيد تراجع إنتاج الغذاء داخل البلاد فقد كان الموسم الزراعي الماضي هو الأسوأ منذ سبع سنوات نتيجة موجة الجفاف التي تضرب الصومال منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وحذر برنامج الغذاء العالمي في تقرير له نشر في 22 آب/أغسطس الماضي من أن نصف مليون شخص في جنوب الصومال يواجهون أزمة غذائية خطيرة، وذلك لقلة المطر الذي سقط على المنطقة في موسم الأمطار.
وقال البرنامج إنه بلغ من قسوة الجفاف بجنوب الصومال إن حصاد العام الحالي (2001) من السرغوم (نوع من الذرة)، وهو المحصول الغذائي الرئيسي في الصومال، أقل من عُشر المحصول المعتاد.
ومن أشد المناطق تضرراً بموسم الأمطار السيئ، جيدو وباي وباكول التي تنتج حوالي ثلاثة أرباع محصول البلاد من السرغوم. وقال كيفن فاريل مدير البرنامج في الصومال: "إن انخفاض المحصول في منطقة هي من أكثر المناطق غزارة في الإنتاج في الصومال وهي حزام السرغوم في باي-بايكول، يمكن أن يكون له آثار بعيدة المدى".
وتابع فاريل أن ذلك يعني أن المناطق الأخرى ستشهد نقصاً في المواد الغذائية المتوافرة في الأسواق، كما يتوقع أن ترتفع الأسعار إلى حد كبير خلال الشهور المقبلة.
وأكد البرنامج أن معدلات سوء التغذية قد ارتفعت في جنوب الصومال خلال العامين الماضيين. وعادة ما تحتفظ الأسر بمخزون من المواد الغذائية في هذا الوقت من العام لتستعين به أثناء موسم الجفاف، ولكن فاريل مدير برنامج الغذاء العالمي الذي زار المنطقة مؤخراً قال إن مخازن الكثير من الأسر فارغة.
ب – توقف إمدادات الإغاثة الدولية بسبب انعدام الأمن وتعرض الكثير منها للنهب من جهة، وتراجع إنتاج الحبوب على الصعيد العالمي من جهة أخرى، وهو ما أكدته منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) في تقرير لها نشرته في تشرين أول/أكتوبر الماضي جاء فيه أن الصومال تعتبر من البلدان الأكثر تضرراً من النقص العالمي في إنتاج الحبوب، حيث تراجع الإنتاج العالمي بمعدل 1.8 في المائة في 2000 - 2001 ليبلغ 1852 مليون طن، وهو ما زاد من حالة البؤس التي يعيشها معظم الصوماليين حيث غدا عدد كبير منهم يفتقرون إلى وسائل البقاء.
جـ – تدمير العديد من مناطق الرعي بسبب الفيضانات، حيث أدت الأمطار الغزيرة التي هطلت في أثيوبيا المجاورة إلى ارتفاع منسوب مياه الأنهار في جنوب الصومال، الأمر الذي تمخّض عن تشريد أعداد كبيرة من السكان وبالتالي تفاقمت أحوالهم الغذائية المتدهورة أصلاً لأن غالبية السكان في المناطق الريفية في الصومال يعيشون على الزراعة والرعي.
د – استمرار حالة الجفاف الشديد في كثير من المناطق للسنة الثالثة على التوالي وهو ما تسبب في ندرة المياه للشرب وسقي الماشية بل تفجر صراعات قبلية حول مصادر المياه الشحيحة، وقال "حسن أبشير فرح" وزير الموارد المعدنية والمائية بالحكومة الانتقالية الجديدة في الصومال إن نحو مليون صومالي تأثروا بالجفاف في مناطق شاسعة في البلاد بعد أن جفت الآبار القديمة من جراء شدة الجفاف والتزاحم، وهو ما أرغم آلاف العائلات في الريف على الفرار عن منازلها بحثاً عن الماء والغذاء، وأن كثيرين يهاجرون إلى المناطق الحضرية لبيع ماشيتهم ومواردهم الضعيفة.
هـ – استمرار فرض الحظر على استيراد الماشية من شرق أفريقيا وخاصة الصومال، من قبل البلدان الواقعة على امتداد شبه الجزيرة العربية، نتيجة للإصابات بمرض حمى الوادي المتصدع وهو ما ساهم في إحداث خسائر كبيرة في مستويات الدخل، وخاصة في شمال الصومال. وتقول مصادر مطلعة إن هذا الحظر الذي فرض في أيلول/سبتمبر 2000 قد كلّف البلاد نحو 120 مليون دولار من العملات الصعبة.

نتائج إغلاق مؤسسة البركات
كان للصومال نصيب من حملة العقوبات الأمريكية التي شنتها عقب تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي، فقد أعلنت الولايات المتحدة في السابع من تشرين ثاني/نوفمبر الماضي تجميدها لأصول مجموعة البركات المملوكة لصوماليين والتي تتخذ من دبي مقراً لها، وهي أكبر شركة تعمل في تحويل الأموال إلى الصومال، بتهمة تمويل الإرهاب.
لكن مجموعة البركات، التي يتمثل نشاطها الأساسي عبر العالم في تحويل الأموال منها 80 في المائة في اتجاه الصومال، نفت الاتهامات الأميركية بتمويل الإرهاب مؤكدة أن إجمالي المبالغ التي تحولها عبر شبكتها في العالم كله لا تتجاوز 140 مليون دولار سنوياً مما يدر عليها أرباحاً لا تتجاوز 750 ألف دولار فقط بعد خصم التكاليف ورواتب ثلاثة آلاف من العاملين فيها.
وتعد التحويلات المالية القادمة من الخارج أكبر مصدر للعملات الأجنبية هناك، وأعلنت مجموعة البركات الصومالية أن آلاف الأسر الصومالية، وخاصة الأشد فقراً بينها، تعيش بفضل المبالغ التي يرسلها ذووهم في المهجر من القارات الخمس.
وتمثل مجموعة البركات نشاطاً تجارياً مزدهراً في مجال الأعمال، إذ تقوم بتوفير الخدمات الهاتفية وتحويل الأموال وحتى المياه المعبأة في زجاجات في بلد دمرته عشرة أعوام من الحرب الأهلية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مجموعة البركات المالية أنشئت عام 1985 كشركة صغيرة تعمل في مجال التحويلات النقدية للصوماليين العاملين في السعودية والذين يرسلون أموالاً إلى عائلاتهم في الصومال. لكن الانطلاقة الحقيقية للمشروع كانت عندما اندلعت الحرب الأهلية في الصومال عام 1991، حيث توسعت فروعها لتبلغ حوالي 40 بلداً بعد أن فر نحو 1.5 مليون صومالي إلى شتى أرجاء العالم وأرسلوا أموالاً إلى أقاربهم، حيث كان الكثير منهم يموتون جوعاً.
واليوم صارت التحويلات النقدية أكبر مصدر للعملات الأجنبية في البلاد وشريان الحياة بالنسبة لملايين الصوماليين الذين يعانون من مشكلات جمّة، ويبلغ متوسط العمولة التي تتقاضاها المجموعة 2 في المائة تقريباً. كما سعت مجموعة البركات أعمالها فدخلت مجال الاتصالات عام 1995 وأنشأت شركة للمشروبات الخفيفة.
وبالإضافة إلى التأثيرات السلبية للقرار الأميريكي على الشعب الصومالي، تقول مجموعة البركات إن كل العاملين لديها البالغ عددهم ثلاثة آلاف شخص قد يواجهون الطرد من وظائفهم، كما أن هناك أكثر من 1400 مودع في البنك معظمهم من رجال الأعمال والمستوردين المحليين قد يفقدون أموالهم، ويقول مسؤولون إن البركات تدين بما يصل إلى تسعة ملايين دولار.
وفي خضم هذا القلق جاء قرار الحكومة السويدية بإلغاء تجميد عمليات مجموعة البركات الصومالية (فرع السويد) الموجود على اللائحة الأميريكية للمنظمات الداعمة للإرهاب ليخفف من وطأة قرار التجميد، ويؤكد براءة المجموعة من تهمة الإرهاب، ولتكون السويد أول دولة أوروبية تخالف القرارات الأميركية في تجميد أرصدة شركات متهمة بتمويل الإرهاب.
وقال متحدث باسم الحكومة السويدية إن إلغاء تجميد ممتلكات بنك البركات وأرصدة بعض الأفراد في السويد تم لعدم وجود أي إثباتات أو أدلة تدين هذا المصرف.
وأضاف أن كل ما قدمته واشنطن لائحة بأسماء أفراد وشركات متهمة بتمويل منظمات إرهابية لكن لا يوجد أي أدلة مرفقة مع اللائحة تخولنا تجميد تلك الأرصدة.
وبخلاصة فإن الانهيار العجول للاقتصاد الصومالي المحدود الأنشطة أصلاً ما زال مستمراً، ووصل إلى درجة خطيرة لم يعد بالإمكان إطلاق تسمية اقتصاد الدولة عليه، وبعد التطورات الأخيرة وانعكاسات الأحداث الدولية على الصومال، فإن بقاء البلاد ممزقة ونهباً للحروب والصراعات سيدفع بالمزيد من الصوماليين إلى دائرة البؤس والشقاء والفقر والجوع والمرض.
كما أن التعويل على الأطراف الدولية أو الإقليمية في حل المشكلات التي تعاني منها الصومال لن تؤدي إلى نتيجة، بل على العكس تماماً فقد أدت التدخلات الخارجية التي قامت بها الولايات المتحدة عام 1995 تحت عنوان "إعادة الأمل" إلى تدمير ما بقي من البنية الاقتصادية في البلاد حتى باتت أشبه بزجاج مكسور، فكيف سيكون الحال والصومال مستهدفة بالحرب الأميركية الجديدة كعدو يدعم الإرهاب ؟. (ق.ب)