اميركا وايران... والجدّية!

من مصلحة لبنان عدم ترك ايران تجرّه الى كارثة عبر كلام فارغ من نوع انّ "حزب الله" هو "حزب لبناني".

ثمّة ملاحظات تستأهل التوقف عندها، وذلك على هامش اعتبار الولايات المتحدة "الحرس الثوري" الايراني "منظمة اجنبية إرهابية". في مقدّم هذه الملاحظات انّ الإدارة الاميركية قررت اعتماد مزيد من التصعيد مع ايران. يتماشى التصعيد مع ما يقوله المسؤولون الاميركيون، على رأسهم وزير الخارجية مايك بومبيو، لدى زيارتهم هذه العاصمة العربية او تلك. فحوى كلام بومبيو في كلّ جولاته ان الولايات المتحدة في غاية الجدّية في محاولتها حمل النظام في ايران على تغيير سلوكه و"هذا القرار لا عودة عنه".

الملاحظة الأخرى ان الولايات المتحدة تحاول اقناع حلفائها ان الإدارة الحالية هي إدارة مختلفة عن كلّ الإدارات السابقة وهي تعني ما تقوله، بل تعني كلّ كلمة تصدر عن كبار المسؤولين فيها. اكثر من ذلك، انّ الولايات المتحدة تغيّرت تماما وهي في صدد محاسبة ايران نظرا الى انّها تعرف تماما معنى رعاية "الحرس الثوري" لميليشيات مذهبية في دول مختلفة من بينها العراق وسوريا ولبنان واليمن.

من هذا المنطلق، تبدو الملاحظة الأكثر اهمّية بداية ولادة قناعة لدى حلفاء الولايات المتحدة بأنّ من الممكن الاتكال عليها، لا لشيء، سوى لانّ هذه الإدارة تعرف تماما ان المشكلة مع ايران ليست محصورة في ملفّها النووي. هناك مشكلة اسمها "الحرس الثوري" الذي لا مهمّة له سوى قمع الايرانيين انفسهم في الداخل وملاحقتهم في الخارج... والاستثمار في اثارة الغرائز المذهبية في انحاء مختلفة من المنطقة.

امتلكت المملكة العربية السعودية ما يكفي من الشجاعة لتأييد الموقف الاميركي من كيان تابع للدولة الايرانية هو "الحرس الثوري". لا شكّ ان الموقف السعودي يستأهل التوقّف عنده نظرا الى انّه دليل على ان المملكة شريك في المواجهة مع ايران التي لم تترك فرصة الّا وسعت الى الإساءة اليها وايذائها. التاريخ حافل بأدلّة على ذلك منذ المحاولات الاولى التي قامت بها "الجمهورية الإسلامية" ايّام آية الله الخميني من اجل "تسييس الحج". الأكيد ان المملكة العربية السعودية في حال دفاع عن النفس منذ فترة طويلة. لكنّ هذه المرّة الاولى التي تذهب فيها الى اتخاذ موقف لا لبس فيه من قرار للإدارة الاميركية يستهدف وضع حدّ لسياسة إيرانية تجاوزت كلّ حدود.

هناك بكل بساطة ادارة أميركية تعرف تماما ما هي السياسة الايرانية. ظهر ذلك جليّا منذ الخطاب الاوّل لدونالد ترامب عن الممارسات الايرانية منذ سقوط الشاه بدءا باحتجاز دبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران 444 يوما في خريف العام 1979 من دون مبرّر. خرقت ايران كلّ القوانين والاعراف الدولية وذلك منذ اليوم الاوّل لاعلان قيام "الجمهورية الإسلامية". ليس صدفة ان ترامب أشار في خطابه الاوّل عن ايران الى تفجير مقر قيادة المارينز قرب مطار بيروت في الثالث والعشرين من تشرين الاوّل- أكتوبر من العام 1983. لا يزال تفجير مقر المارينز أسوأ عمل إرهابي تتعرّض له القوات الاميركية منذ نهاية حرب فيتنام في العام 1975. قبل ذلك، في نيسان – ابريل 1983، هاجم انتحاري مقر السفارة الاميركية في عين المريسة، قرب الجامعة الاميركية في بيروت. كان بين الذين قتلوا عدد من خيرة ضباط وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إي). كان هؤلاء يعقدون اجتماعا في مقرّ السفارة. لا يزال هذا التفجير الى الآن لغزا. كيف استطاع من ارسل الانتحاري معرفة ان رؤساء محطات الـ"سي. آي. إي" في المنطقة مجتمعون في السفارة الاميركية في بيروت؟

بالنسبة الى الولايات المتحدة التي غيّرت بعد ذلك مقر سفارتها، لا وجود لأدنى شكّ بان ايران وراء التفجير عن طريق "حزب الله" الذي كان تأسّس حديثا. لكنّ ما لا يفصح عنه المسؤولون الاميركيون، كيف حصلت ايران على معلومات دقيقة عن هويّة الموجودين في السفارة في لحظة معيّنة. ثمّة من يقول ان هذا العمل يمكن وضعه في اطار الحرب الباردة التي كانت مستعرة وقتذاك بين اميركا والاتحاد السوفياتي.

جاءت أخيرا إدارة أميركية تريد تصفية كلّ حسابات الماضي والحاضر مع ايران، بما في ذلك تفجير الخبر (في السعودية) في العام 1996 وما تعرّضت له القوات الاميركية في العراق بعد 2003. من الواضح، ان إدارة باراك أوباما، التي كانت خاضعة لإيران واسيرة ملفّها النووي، لعبت دورها في تنبيه إدارة ترامب الى ان الوقت حان كي لا يعود هناك تمييز بين الإرهاب السنّي والشيعي. الارهاب يبقى إرهابا مهما تلطّى بالدين، بغض النظر عن هذا الدين.

ثمّة ملاحظة أخيرة لا يمكن تجاهلها. هذه الملاحظة تتعلّق بلبنان. ليس في وارد ان تصفّي اميركا حساباتها مع ايران في لبنان. هذا ما يُفترض ان يستوعبه المسؤولون اللبنانيون من اكبرهم الى اصغرهم. ما يُفترض ان يدركه هؤلاء في الوقت ذاته ان العقوبات الاميركية على ايران ستزداد ولن تقتصر على "الحرس الثوري"، بل على كلّ فروعه وادواته. كيف يستطيع لبنان تفادي حشر نفسه في صراع تريد ايران ان تجعل منه طرفا فيه، خصوصا انّ هناك ثلاثة وزراء لـ"حزب الله" في الحكومة؟

الأكيد ان لبنان في وضع لا يحسد عليه وان الردّ على الموقف الاميركي لا يكون بالقول انّ "حزب الله" هو "حزب لبناني". فالحزب نفسه يقول بلسان امينه العام حسن نصرالله انّه مديّن لإيران بكلّ شيء. لا يمكن بالطبع تجاهل ان أعضاء الحزب لبنانيون، لكنّ السؤال كيف يمكن لمواطنين لبنانيين وضع مصلحة ايران فوق مصلحة لبنان؟ الم يعد في لبنان من يمتلك ما يكفي من الجرأة للقول انّ البلد ليس مستعمرة إيرانية وانّه لا يمكن فرض املاءات عليه من طهران؟

من مصلحة لبنان عدم ترك ايران تجرّه الى كارثة، لا عبر كلام فارغ من نوع انّ "حزب الله" هو "حزب لبناني" ولا عن طريق ترتيب اجتماع لوزير خارجية فنزويلا خورخي ارياسا مع رئيس الجمهورية ميشال عون في وقت تعتبر فيه الإدارة الاميركية وكلّ الدول الاوروبية النافذة النظام القائم في فنزويلا برئاسة نيكولاس مادورو "غير شرعي".

ما لا بدّ من التنبّه اليه أخيرا، في لبنان وغير لبنان، انّ الموقف الاميركي من ايران اكثر من جدّي. يعود سبب ذلك ان الكونغرس، حيث يسيطر الديموقراطيون على مجلسّ النواب، فيما لا تزال الأكثرية في مجلس الشيوخ جمهورية، على خلاف عميق مع إدارة ترامب في شأن مواضيع كثيرة. لكن مجلس النواب الديموقراطي يزايد على صقور الإدارة، مثل نائب الرئيس مايك بنس ومستشار الامن القومي جون بولتون ووزير الخارجية بومبيو، ويذهب في التطرّف الى ابعد من هؤلاء عندما يتعلّق الامر بايران.