انتحاريا غزة: داعش على تخوم القطاع

قضية التطرف والأفكار السلفية الجهادية لم تلق علاجاً ملائماً لا سياسياً ولا فكرياً في القطاع وهي تشكل خطراً على المجتمع الفلسطيني وحركة حماس لم تلعب أي دور في مجابهة هذا الفكر بل على العكس.

بقلم: مصطفى إبراهيم

خلال فعاليات مسيرات العودة الأخيرة، ترددت أحاديث كثيرة لا يستحب الحديث عنها علناً من قبل الفصائل الفلسطينية، خصوصاً في ظل حال قمع الحريات العامة حسب ارادة حركة حماس. من ضمن تلك الأحاديث التي يجري ضبط تداولها واقعة بأن فتاة في العشرينات من عمرها وتلبس النقاب وتنتمي لحركة سياسية إسلامية، طلبت في أحد مخيمات مسيرة العودة أن تلقي قصيدة شعرية خلال إحدى الفعاليات، إلا أن طلبها قوبل بالرفض خوفاً من “الفتنة” بوجود الشباب، ولأن صوتها “عورة” منعت الفتاة من إلقاء القصيدة.

في غزة اليوم محاولات لخنق الأصوات التي يمكن أن تتناول ظواهر خطيرة متشددة يشهدها القطاع منذ فترة، أبرزها ما جرى مؤخراً من صمت حول هوية منفذي العملية الانتحارية التي هزّت القطاع مؤخراً.

عملية انتحارية

من السهل اتهام السلطة الفلسطينية او بعض الأطراف في الاجهزة الامنية في الضفة الغربية بمسؤوليتها عن العملية الانتحارية التي وقعت في مدينة غزة واستهدفت حاجزين للشرطة، وسقط فيها ثلاثة عناصر منهم. كان بإمكان العملية أن تودي بحياة كثيرين خصوصاً أن أحد هذين الحاجزين يقع بالقرب من مناطق مزدحمة على شاطئ البحر.

ما يخرج من تسريبات التحقيق في الجريمة ربما ليس مفاجئاً لكنه مرعب، خاصة أن المعلومات المتداولة تتحدث عن مجموعة كبيرة، قد تتجاوز العشرة أشخاص، هي المسؤولة عن التفجيرين وما كان يمكن أن يعقبهما من تفجيرات في أماكن مختلفة.

المعلومات تقول إن المخطط كان يقضي باستهداف حافلة لنقل أفراد من الشرطة، والخطير بحسب التسريبات، أن الانتحاريين ينتمون إلى حركة إسلامية لها حضورها في الساحة الفلسطينية، وأن عدداً من المشتبهين الذين ألقي القبض عليهم هم أعضاء مجموعة لا تزال على علاقة بتلك الحركة الإسلامية، والتي تعتبر “معتدلة” نسبيا ولها حضورها الجماهيري والعسكري على الساحة الفلسطينية.

وبموازاة سهولة اتهام أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، يسهل أيضاً اتهام اسرائيل بالمسؤولية عن التفجير. وهناك سوابق تم الكشف عنها تظهر استغلالاً اسرائيلياً لبعض المنتمين لحركات سلفية جهادية داخل حركة حماس وخارجها، من الذين يؤمنون بإقامة دولة الإسلام والخلافة. هؤلاء معروفون بتوجهاتهم واختلافهم مع حركة حماس وتأثرهم بتنظيمي”داعش” و”القاعدة” وغيرهما من الحركات السلفية المتطرفة، التي لم تخف توجهاتها الفكرية، حتى أن بعض الأكاديميين المتشددين والمشايخ من المحسوبين على حماس، لا ينكرون دعم تلك الجماعات والدفاع عنها بل يتبنون افكارهم منذ سنوات طويلة. ومنهم من عزا أسباب التفجير الاخير الى “الفساد الاخلاقي” و”المنكر” وعدم مواجهته من “أولياء الأمر”، أي السلطة الحاكمة في غزة.

لا يجد المرء صعوبة في اتهام إسرائيل، بل من الطبيعي في ظل الحالة الفلسطينية في قطاع غزة وغير القطاع ان تكون اسرائيل متهمة وهناك مئات الاسباب لاختراق الجبهة الداخلية الفلسطينية وتفتيتها، وإضعاف روح المقاومة والتشكيك في قدرتها على حماية النسيج المجتمعي. فالجبهة الداخلية تعاني الضعف، وهي على وشك الانهيار لأسباب معروفة، وقدرة اسرائيل على اختراق بعض الحركات الجهادية السلفية والفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية معروفة وهناك شواهد كثيرة عليها.

العملية ليست الأولى التي تقع في غزة، فقبل عامين وتحديداً في شهر آب/اغسطس، فجّر انتحاري نفسه في عدد من أفراد الأمن في رفح، وخلال نفس العام، أي عام 2017، شنّت الاجهزة الامنية حملة اعتقالات واسعة طالت المئات من السلفيين، وحوكم عدد منهم فيما البعض لا يزال في السجن ومنهم من أفرج عنه.

لم تلق قضية التطرف والأفكار السلفية الجهادية علاجاً ملائماً لا سياسياً ولا فكرياً في القطاع، وهي تشكل خطراً على المجتمع الفلسطيني. وحركة حماس لم تلعب أي دور في مجابهة هذا الفكر بل على العكس في حين بقيت المعالجات الامنية هي السبيل الوحيد المعتمد.

العملية الانتحارية خطيرة في أبعادها وهي تطرح السؤال حول الهدف من  استهداف أفراد من الشرطة؟ ربما يكون الهدف سهلاً بالمعنى الأمني، وربما هو مقدمة لهجمات أخرى.والسؤال هو متى سيكون التفجير القادم، والجبهة الداخلية مفتوحة على جميع الاحتمالات.

الهدف هو مثل تلك العمليات هو القتل والفوضى وبث الرعب بين الناس والانتقام من حركة حماس من قبل مجموعة من المتطرفين، ‏تستهدف أهل غزة المستباحة حياتهم من قبل الإحتلال الإسرائيلي من جهة، ومن قبل مجانين أغلقوا عقولهم وباتوا لا يميزوا بين الصواب والخطأ من جهة أخرى.

هنا، لا تتعلق القضية بحركة حماس وحدها بل بجميع الفلسطينيين، وما جرى من سقوط لثلاثة ضحايا من أبناء القطاع، هي مسؤولية وطنية وعلى حركة حماس إدراكها قبل غيرها عبر الانفتاح على الجميع ومشاركتهم الهم الوطني. معالجة نتائج الهجوم الإجرامي ليس شأناً حمساوياً فقط، كما أن المعالجة الأمنية ليست الحل الوحيد للتصدي لأصحاب الفكر المتطرف.

الحادث خطير والاتهامات قد تكون سهلة، لكنها خطيرة حين تطلق من دون إثبات. الاتهامات كثيرة وأطراف عديدة لديها مصلحة في خلق الفوضى والرعب بين الناس المنهكين، والموقف يتطلب الروية والانتظار وعدم توجيه الاتهامات هنا وهناك.

الاهم هو البحث في الداخل عن الأسباب التي أوصلت الفلسطينيين خاصة في قطاع غزة الى هذه الحالة، والخشية من تكرار هذه الأحداث التي قد تشكل دافعاً لآخرين لارتكاب هجمات انتحارية اجرامية مشابهة، والأسباب والواقع محفز، والقضية ليس لها علاقة بالفقر والبطالة فقط، بل بالجهل والتطرف وتغييب العقول والكراهية والعنف المستشري في المجتمع.

الحكمة والشجاعة تتطلبان الوقوف أمام الحقيقة، فمبادئ التربية التقليدية الشائعة والأفكار المتطرفة هي حصاد ما تم زراعته في العقول عبر عشرات السنين، ولا تزال المدرسة ذاتها تنتج هذه الافكار ويتم تشجيعها. هذه المنظومة الفكرية الثقافية تستمد قوة حضورها من استمرار أكاديميين ومشايخ ومعلمين في المدارس والمساجد في بثّ أفكارهم التقليدية والمتطرفة الى الرأي العام مستغلين أن جميع المنصات مشرعة أمامهم، فشرعوا يحرضون على تكفير الاخرين وتخوينهم وعدم قبول المختلف.

تمتين الجبهة الداخلية لا يتمّ من خلال الشعارات والاستعجال في توزيع الاتهامات،  بل من خلال تمتين صمود الناس واحترام حقوق الإنسان وضمان الحريات العامة والفردية، ومن خلال الشفافية في تناقل المعلومات، ووقف التغول على الناس فكرياً، وتوقيف اعتماد مبدأ التكفير من خلال محاسبة من يروجون للفكر المتطرف من مشايخ سلطة حماس وغيرهم من الحركات الاسلامية.