ايران بين محكمتين

نسيت ايران ان المحاكم الدولية ليست مطعما يختار فيه الزبون ما يناسبه من لائحة الطعام ويرفض ما لا يعجبه.

كان يمكن للجوء ايران الى محكمة العدل الدولية في لاهاي من اجل رفع العقوبات الاميركية عنها ان يشكل خطوة مهمّة ذات طابع ايجابي في اتجاه اعتماد نوع من العقلانية في التعاطي مع المشاكل التي يعاني منها هذا البلد  داخليا وخارجيا.

انّها مشاكل انعكست سلبا على المواطن الايراني اوّلا، قبل دول الجوار والمنطقة. هذه الدول، التي من بينها لبنان، تعاني الويلات بسبب تجاهل ايران أي قيم او مبادئ ذات علاقة من قريب او بعيد بالقانون، أي قانون. في مقدّم هذه القيم والمبادئ التي تخرقها ايران يوميا التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وانشاء ميليشيات مذهبية فيها من اجل تقويض مؤسساتها.

كان في استطاعة المواطن الايراني لو توفر حد ادنى من العقلانية لدى النظام الانتماء الى بلد يضمن له حدا ادنى من سبل العيش الكريم. هل يمكن الكلام عن دولة ذات علاقة بالقانون في ايران حتّى يصحّ اللجوء الى القانون الدولي لحماية المصالح الايرانية؟

كان يحق لإيران اللجوء الى القانون الدولي لو انّها احترمت هذا القانون في يوم من الايّام داخل أراضيها او خارجها وذلك منذ العام 1979، تاريخ انتصار ثورة شعبية حقيقية على نظام الشاه الذي مرّ في السنوات الخمس الأخيرة من حياة محمد رضا بهلوي بحال من التخبّط على كلّ صعيد. كان الشاه يعالج من السرطان في السنوات الخمس الأخيرة من حكمه. وزاد المرض كثيرا من تردّده في وقت لم يكن هناك ميل أميركي او اوروبي للدفاع عنه ومساعدته من اجل ابقائه في السلطة.

في ضوء لجوء ايران الى محكمة لاهاي، يظلّ السؤال هل التزمت "الجمهورية الإسلامية"، التي أسسها آية الله الخميني، القانون الدولي يوما حتّى تتمتع بحماية هذا القانون؟ الجواب لا كبيرة نظرا الى النظام الذي قام بعد نجاح الثورة بدأ بضرب الحائط بكل نوع من القوانين. كانت السمة الاولى لهذا النظام اللجوء الى العنف للتخلص من كلّ خصومه في الداخل، بما في ذلك الوجوه الليبيرالية في "حركة تحرير ايران" التي لعبت دورا في غاية الاهمّية في نجاح الثورة الشعبية. يمكن ايراد أسماء لعدد كبير من الشخصيات التي ذهبت ضحية الثورة على الثورة التي نفّذتها مجموعة من رجال الدين للقضاء على احتمال تطوير النظام في مرحلة ما بعد التخلص من الشاه ونظامه الذي كانت "السافاك"، أي جهاز الاستخبارات، عماده ووجهه البشع.

كان مهدي بازركان من ابرز الشخصيات التي استُبعدت مباشرة اثر تمرير مرحلة التخلص من الشاه. كان بازركان الذي اتهم بإقامة اتصالات مع الإدارة الاميركية رئيسا للحكومة الاولى التي تشكلت بعد الثورة. كان شخصية محترمة ناضلت طويلا من اجل قيام نظام يحترم الانسان وحقوقه في ظلّ دستور متطور. لكن كلّ ما قام به انتهى بعد اشهر قليلة من تشكيل حكومته. بدأت الثورة الايرانية في تلك المرحلة تأكل ابناءها شيئا فشيئا وصولا الى ما وصل اليه الوضع الايراني الآن. اكلت شخصيات من مشارب مختلفة مثل صادق قطب زاده ومصطفى شمران وإبراهيم يزدي وأبو الحسن بني صدر وآخرين كثيرين. يمكن حتّى طرح تساؤلات عن علاقة ما للنظام في إيران، الذي كان يعد نفسه في 1978 لتسلم السلطة، بإخفاء السيد موسى الصدر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي في لبنان في ليبيا. جاء اختفاء موسى الصدر في مثل هذه الايّام من  ذلك العام  في سياق التخلّص من ايّ شخصيات كان يمكن ان تلعب دورا في مرحلة ما بعد سقوط الشاه.

في كلّ الأحوال لا يمكن الّا الترحيب باحتكام ايران الى القانون الدولي أخيرا بعيدا عن العودة الى فتح ملفات قديمة تذرعت بها لخرق هذا القانون. كانت ذريعتها الاهمّ الدور الذي لعبته الاستخبارات الاميركية (سي آي. إي) والبريطانية في اسقاط حكومة محمّد مصدق ذات الشرعية الدستورية في العام 1953. لم تكتف الاستخبارات الاميركية والبريطانية وقتذاك بإسقاط الحكومة الايرانية، بل اعادت الشاه الى عرشه، الذي كان يعرف بـ"عرش الطاووس" والى ممارسة السلطة بكامل صلاحياته.

لم يكن لكلّ التصرفات الايرانية، بعد العام 1979 ما يبررها. اذا خرق الاميركيون القانون، هل يجوز احتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران 444  يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979 بحجة ان هؤلاء "جواسيس". كان احتجاز الديبلوماسيين الاميركيين من بين الوسائل التي اعتمدها النظام الايراني الجديد للتخلص من بازركان وقيادات "جبهة تحرير ايران". كان يمكن مواجهة السياسة الاميركية بالمنطق، أي منطق القانون. فضلت ايران منذ 1979 اللجوء الى العنف ولا شيء غير ذلك. كان ذلك دخولا في لعبة الهرب المستمر الى امام، وهي لعبة اخذت مداها البعيد في كلّ من العراق وسوريا ولبنان واليمن حيث صار لإيران ميليشياتها المذهبية التي تنشط في كلّ المجالات.

بمحض الصدفة، ترافق لجوء ايران الى المحكمة الدولية في لاهاي مع حملة شنّها الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله على المحكمة الدولية التي أنشئت بقرار لمجلس الامن تحت الفصل السابع للنظر في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ليس سرّا ان "حزب الله" ليس سوى لواء في "الحرس الثوري" الايراني. هل يجوز ان تستنجد ايران بالقانون الدولي للهرب من العقوبات الاميركية فيما لا يحقّ للبنان السعي الى حماية نفسه من مزيد من الجرائم المماثلة لجريمة اغتيال رفيق الحريري الذي أعاد بيروت ولبنان الى خريطة المنطقة وأعاد الى اللبنانيين طوال سنوات (بين 1992 و2005) الامل بحياة افضل في بلدهم. هل يحق لإيران ما لا يحق للبنان الذي لم يرتكب أي جريمة بحق أي دولة من دول المنطقة؟ لماذا كل هذا التهديد للبنانيين الصادر عن حسن نصرالله بسبب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي يرفض مسبقا الاعتراف بالحكم الذي ستصدره؟ هل لان المحكمة تعرف تماما من قتل رفيق الحريري والدور الذي لعبته ايران والنظام السوري بطريقة او بأخرى للقضاء على كل امل بالحياة في لبنان؟

تجد ايران نفسها بين محكمتين موجودتين في لاهاي. اختارت اللجوء الى المحكمة التي تناسبها من بين المحكمتين. فعلت ذلك بعدما اكتشفت ان العقوبات الاميركية الجديدة والتي سيبدأ تأثيرها في الظهور في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل ليست مزحة، خصوصا انّها تستهدف صادراتها النفطية.

نسيت ايران ان المحاكم الدولية ليست مطعما يختار فيه الزبون ما يناسبه من لائحة الطعام ويرفض ما لا يعجبه. هذا ما تتجاهله ايران لا اكثر ولا اقلّ، خصوصا عندما يتعلّق الامر بلبنان الذي تعتبر نفسها أكملت سيطرتها عليه في ضوء نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة.