ايران في مواجهة الابراهاميين

لا تمتلك طهران القدرة على ان تناور بعد التغيرات الاستراتيجية في المنطقة.
المصالح الاقتصادية التي سيحققها العرب والإسرائيليون من التطبيع كفيلة بديمومة اتفاق السلام
تركيا وإيران ستفقدان القدرة على المناورة مع تغير التحالفات في المنطقة

منذ تاسيس دولة اسرائيل ولغاية يومنا هذا كانت التوازنات والمعادلات السياسية في المنطقة ترسم اعتمادا على مدى تاثيرها في الصراع العربي الاسرائيلي، فعلاقات دول المنطقة مع بعضها من جهة ومع المجتمع الدولي من جهة اخرى كان يحكمها هذا الصراع.

اما الان وبعد تطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية فان المنطقة مقبلة على عهد جديد تكون الاصطفافات السياسية فيه غريبة على شعوب المنطقة وحكوماتها، تحتم على كل دولة مراجعة حساباتها والاوراق التي تمتلكها للدخول الى هذا العهد.

قد يتصور البعض ان الضجة الاعلامية وصدى تطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية ما هي الا فورة بدايات، ستهدئ ويكتشف الطرفان ان الامور ليست بتلك السهولة. لكن ما لا يلاحظه هؤلاء ان باكورة هذه العلاقات ركزت على الجانب الاقتصادي اكثر من الجانب السياسي، والمصالح الاقتصادية التي سيحققها الطرفان كفيلة بدعم هذا الاتفاق وديمومته.

ليس هذا فحسب بل ان هذا الحدث سيغير من خارطة التحالفات السياسية في المنطقة بشكل كامل، وعليه فمن الضروري الاستعداد لهذه المتغيرات.

فمن كان يتتصور يوما ان سفن شحن اماراتية سترسو في موانئ اسرائيلية، او ان الطائرات الاسرائيلية ستجوب الاجواء السعودية ذهابا وايابا الى الامارات، ومن كان يتصور ان نتحدث يوما عن علاقات اسرائيلية عربية تتضمن مد انابيب نفط من الخليج الى موانئ اسرائيل؟

من اكثر الدول التي ستتاثر بهذا الاتفاق هما ايران وتركيا، اللتان لم يكن يجول في خاطرهما يوما هذا التحول، فبنتا سياساتهما بعيدا عن هذا الاحتمال. وسنتحدث هنا بايجاز عن تاثير التطبيع على الوضع الايراني في المنطقة وإن كان بامكانها مقاومة هذه العاصفة.

منذ الثورة الاسلامية في ايران اواخر سبعينات القرن الماضي، والمعادلات السياسية في المنطقة تُرسم وفق وجود صراع سني شيعي بين الدول العربية من جهة وايران من جهة اخرى، فكانت بداياتها حرب الخليج الاولى وما زالت نهاياتها مستمرة في اليمن وسوريا. وكان يُصار الى ديمومة هذا الصراع من قبل قوى دولية واقليمية من خلال دعم اطرافه. وفي الحقيقة فان العمل على ديمومة اي صراع بين طرفين من قبل طرف ثالث هو حق طبيعي له ان راى في ذلك حفاظا على مصالحه ووجوده، فهذه هي السياسة ويجب تقبل اخلاقياتها كما هي.

وان كانت ديمومة الصراع السني الشيعي سابقا تستوجب وجود الطرف الايراني الشيعي مقابل الطرف السني العربي، فان المصالح الاقتصادية لاسرائيل في الخليج تستوجب حاليا وجود منطقة خليج هادئة مستقرة، وهذا الاستقرار لن يتحقق في ظل وجود علاقات متوترة مع نظام ثيوقراطي على الطرف الاخر من الخليج.

هناك اسباب عديدة تزيد من احتمالية حدة الصراع بين ايران وكل من اسرائيل والولايات المتحدة خاصة بعد تطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية وتتلخص في النقاط التالية:

1- كما ذكرنا آنفا فان احتياج اسرائيل والولايات المتحدة الى منطقة خليج مستقرة لن يتحقق  في ظل الوضع الراهن للنظام في طهران. 

2- التهديدات الايرانية المستمرة لاسرائيل ودول الخليج.

وقد يقول قائل ان بامكان ايران ايضا مراجعة مواقفها تجاه اسرائيل والتخفيف من حدة التوتر معها. في تصورنا ان هذا احتمال ضعيف ان لم يكن معدوما وذلك للاسباب التالية:

• ان مصالح اسرائيل مع دول الخليج هي اكبر من مصالحها مع ايران، فانفتاح دول الخليج على العالم من خلال منفذين مائيين في الخليج والبحر الاحمر، وتشكيلها عمقا بريا متواصلا مع اسرائيل، لا يمكن مقارنته بدولة مثل ايران لا وجود لتواصل بري معها.

• الانظمة الدينية تكون مساحة المناورة السياسية لديها اقل من الانظمة غير الدينية، فايران لا تستطيع ان تغير موقفها من اسرائيل (حتى وان ارادت) لان اساس بنيتها العقائدية ينفي اي حق لاسرائيل في المنطقة، وتخلي ايران عن هذه الاسس تمثل انتحارا سياسيا لها لن تتمكن من دفع فاتورتها لا امام شعبها ولا امام حلفائها واذرعها في المنطقة.

• انتفاء الثقة بين ايران واسرائيل، فطموح ايران للتحول الى قوة اقليمية نووية يتنافى مع المصلحة الاسرائيلية الطامحة في ان تبقى القوة الوحيدة المؤثرة في المنطقة، ومن الصعوبة الثقة بايران حتى وان اظهرت عزمها التخلي عن طموحها. 

• دخول ايران في تحالفات مع المعسكر الصيني الروسي يجعل من تراجعها امرا غير وارد، مقابل طرف خليجي اعتمد التحالف مع اميركا والغرب لعقود من الزمن تشكلت خلالها مصالح متشابكة سياسيا واقتصاديا.

• اسرائيل تعي جيدا ان نظاما ثيوقراطيا كالنظام الايراني لا يمكن مجرد التفكير في الدخول معه بهدنة، لانها ستكون هدنة قصيرة الامد تنتهي بزوال مسبباتها، واسرائيل تحتاج للشعور بامنها الوجودي الطويل الامد في المنطقة.

لكل الاسباب انفة الذكر فان من الصعب على ايران التراجع عن مواقفها الحالية من اميركا واسرائيل والغرب.

3- الاتفاقية الايرانية الصينية، والتي تحاول ايران من خلالها تحييد العقوبات الامربكية عليها، في السماح للصين بالاستثمار في ايران بكافة القطاعات ستمنح الصين موطيء قدم تستطيع مزاحمة اميركا واسرائيل على مياه الخليج، مما يشكل تهديدا لا يمكن القبول به لمصالح تلك الدول.

4- اسرائيل تولي اهمية كبيرة لانضمام العراق الى معسكر الدول العربية المطبعة معها، والعراق مهييء لذلك اكثر من اي دولة عربية اخرى، لكن تاثير النظام الايراني على القرار العراقي هو ما يمنع هذه الخطوة، بمعنى اخر ان زوال هذا التاثير سيعزز امن اسرائيل القومي من جهة ومن جهة اخرى يفتح المجال امام العراق للتطبيع مع اسرائيل. 

5- حسب رؤية اسرائيل فان تغير النظام الايراني الحالي باخر مندمج مع توجه السلام في المنطقة سيفتح الباب امامها للتواصل مع العمق الاسيوي والتحول الى نقطة التقاء الطاقة بين اسيا واوروبا.

6- ترى المؤسسات الاميركية ان تغير النظام الايراني الحالي باخر حليف لها سيجعل من ايران حاجز صد للنفوذ الصيني يمنع تغلغله في المنطقة.

ولان ايران تعي هذه الحقائق فهي تمارس السياسة بحنكة شديدة لغاية الان، واستطاعت ان تجتاز الاربع سنوات الماضية من ادارة ترامب ببراعة رغم كل الصعوبات، وهي وإن كانت تعول على مجيء بايدن الى السلطة قبل اشهر الا ان اتفاقية ابراهام بين اسرائيل والعرب ستشكل ضغطا على اي رئيس قادم للبيت الابيض بغض النظر عن اسمه، مما يتطلب من ايران قرارات شجاعة، اما بالانحناء للعاصفة الابراهامية، واما مقاومتها، وفي الحالتين تبقى الخيارات الايرانية صعبة.