ايران واتفاق الجزائر

يفتّش التاجر المفلس، عادة، في دفاتره القديمة. نبشت ايران اتفاق الجزائر هي تطبقه على ارض الواقع في شطّ العرب.

هناك إشارات عدة صدرت أخيرا عن بغداد تشير الى رضوخ لما تريده طهران. حصل ذلك على الرغم من كلّ المقاومة التي يظهرها قسم كبير من الشيعة العراقيين للهيمنة التي تحاول ايران فرضها على العراق.

من بين تلك الإشارات قبول العراق ممثلا برئيس حكومته عادل عبدالمهدي بترتيبات ناشئة عن اتفاق الجزائر للعام 1975. لم يعلن العراق صراحة إعادة العمل بالاتفاق الذي كان بمثابة استسلام منه لإيران في عهد الشاه. وقّع الاتفاق في شهر آذار – مارس من تلك السنة، محمّد رضا بهلوي مع صدّام حسين الذي كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة في العراق والرجل القويّ في البلد. كان ذلك برعاية الرئيس الجزائري هوّاري بومدين الطامح الى لعب دور على الصعيد الإقليمي.

في الواقع، لم يكن اتفاق الجزائر سوى نتيجة لاختلال موازين القوى في الداخل العراقي لمصلحة الاكراد على حساب النظام البعثي الذي كان مستعدا لقبول ايّ تنازلات لإيران في مقابل تخليها عن دعم الاكراد. بالفعل، انهار الاكراد بعد توقّف الدعم الايراني لهم وبقي نظام البعث في العراق الى العام 2003.

حققت ايران، من خلال اتفاق الجزائر، كلّ ما تريده بالنسبة الى تحديد الحدود البحرية في شطّ العرب. وكان اوّل ما فعله صدّام حسين تمهيدا لشنّ حرب، في العام 1980، على ايران الغاء اتفاق الجزائر. بدأت ايران في تلك المرحلة تتحرّش بالعراق عن طريق اثارة الغرائز المذهبية في ما يمكن وصفه بحرب من نوع آخر استهدفت سقوط العراق من داخل. ما لبث صدّام ان عاد عن الإلغاء في العام 1990 عندما اعتقد، بسذاجته المعروفة، انّ في استطاعته استمالة ايران واقناعها بالوقوف معه في وجه الولايات المتحدة وحلفائها في الكويت. ظنّ نائب رئيس مجلس قيادة الثورة الذي اصبح رئيسا للعراق في العام 1979 ان "الجمهورية الإسلامية"، التي اسّسها آية الله الخميني في العام الذي اصبح فيه رئيسا، ستنتهز فرصة المغامرة العراقية المجنونة في الكويت لتقف الى جانبه في التصدّي لـ"الشيطان الأكبر". لم يعرف في أي وقت من الاوقات، بعقله التبسيطي، ما هي الطبيعة الحقيقية لهذا النظام الايراني الذي اعتبر العراق، كبلد عربي مستقلّ يمتلك تركيبة خاصة به، هدفه الاوّل وذلك منذ العام 1979. لم يدرك ان ايران ستستغل الخطأ الذي لا يغتفر المتمثل باحتلاله للكويت الى اقصى ما تستطيع. هدفها تحقيق مآرب خاصة بها في العراق.

كان اتفاق الجزائر للعام 1975، الذي ما زالت ايران متمسّكة به، من بين الخطايا الكثيرة لنظام البعث في العراق ولكبار رجالاته الذين كانوا على استعداد لكلّ الارتكابات من اجل البقاء في السلطة. لم يكن هناك في ايّ وقت، أي حدود من ايّ نوع، للتنازلات او المغامرات التي يمكن ان يذهب اليها النظام من اجل تفادي سقوطه.

ليست ايران، في الوقت الراهن في وضع الدولة القويّة، خصوصا انّها تتعرّض لعقوبات أميركية في غاية الجدّية. لذلك، تبحث ايران عن تعزيز وضعها في العراق بما يسمح لها بالالتفاف على العقوبات. كان ذلك الهدف من زيارة الرئيس حسن روحاني لبغداد والنجف حيث سمع كلاما لا يعجبه من المرجع الشيعي علي السيستاني الذي يؤمن بسيادة العراق واستقلاله، على الرغم من انّه من أصول إيرانية.

يفتّش التاجر المفلس، عادة، في دفاتره القديمة. نبشت ايران اتفاق الجزائر هي تطبقه على ارض الواقع في شطّ العرب. استفادت الي حدّ كبير من وجود عادل عبدالمهدي في موقع رئيس الوزراء ومن حاجته اليها لمواجهة قوى شيعية ترفض، هذه الايّام، الخضوع لإيران من رموزها عمّار الحكيم ومقتدى الصدر وحيدر العبادي واياد علّاوي. ما هو اهمّ من ذلك كلّه، ان هناك شعورا لدى معظم ابناء الشعب العراقي ان ايران تلعب دور القوة الاستعمارية التي تسعى بالفعل الى تنفيذ ما كانت أعلنت عنه في الماضي عن الحصول على تعويضات بمليارات الدولار من العراق لسداد ما تكبدته من خسائر في حرب 1980-1988.

ليس السعي الى تطبيق اتفاق الجزائر، وهو طلب رفضه الزعيم الكردي جلال طالباني عندما كان رئيسا للجمهورية، من بين الضغوط التي تمارسها ايران على العراق ونجحت فيها الى حد كبير. هناك إشارات من نوع آخر صدرت أخيرا توحي بان ايران تجد ان هناك مجالا لتكريس قيام وضع عراقي جديد نشأ عن الاحتلال الاميركي في العام 2003. تندرج في هذا السياق التعديلات التي اقرّها مجلس النواب العراقي والتي تعطي جوازا عراقيا لمن اقام سنة في العراق ضمن شروط معيّنة. الهدف من ذلك واضح. مطلوب تجنيس اكبر عدد من الايرانيين في العراق تتويجا لعملية تغيير طبيعة المدن والمناطق العراقية. بكلام أوضح، تسعى ايران الى اغراق العراق بالايرانيين لا اكثر.

هناك حال هجومية إيرانية في كلّ الاتجاهات. تريد ايران اثبات انّها قوة إقليمية وانّ لديها أوراقا تردّ بها على الولايات المتحدة. هذا ما يفسّر الهجمة التي يتعرّض لها الرئيس سعد الحريري في لبنان. صحيح ان هذه الهجمة يشنّها وزير مسيحي محسوب على رئيس الجمهورية، لكنّ الصحيح أيضا انّ هذا الوزير ليس سوى أداة يستخدمها "حزب الله" الذي يعرف تماما نقاط الضعف عند معظم الموارنة في لبنان. تظلّ نقطة الضعف الأبرز لدى هؤلاء استعادهم لعمل أي شيء من اجل الوصول الى موقع رئيس الجمهورية...

لا يمكن بالطبع فصل استدعاء بشّار الأسد الى طهران أخيرا عن هذه الهجمة الايرانية. تؤكد ذلك طبيعة الاتفاقات التي وجد بشّار نفسه مضطرا الى توقيعها مع ايران. تشمل هذه الاتفاقات إدارة ميناء اللاذقية. للمرّة الاولى، سيكون في استطاعة ايران الادعاء انّها تدير ميناء على البحر المتوسّط بشكل رسمي. والواضح ان ذلك اثار الجانب الروسي الذي ارسل وزير الدفاع شويغو الى دمشق للاستفسار من بشّار عن طبيعة ما توصّل اليه من اتفاقات مع ايران برعاية من "الحرس الثوري".

في النهاية، هل تنجح ايران في لعب دور القوّة الإقليمية المهيمنة في العراق وسوريا ولبنان واليمن حيث دفعت الحوثيين الى عرقلة اتفاق السويد في شأن ميناء الحديدة؟ سيعتمد الكثير على جدّية الإدارة الاميركية التي تعد بالذهاب بعيدا في العقوبات المفروضة على ايران والتي تشمل ادواتها الإقليمية من ميليشيات مذهبية. ستكون هناك دفعة جديدة من العقوبات في ايّار – مايو المقبل. الأكيد ان ايران بدأت تنظر الى العقوبات بجدّية بدليل طبيعة تصرفاتها في العراق حيث لا يزال كثيرون يعتقدون انّها تمسك باوراق كثيرة، فيما يعتقد منتمون الى مدرسة أخرى ان هذه الاوراق لن تفيدها في شيء. يستند هؤلاء الى المنطق الذي يقول، اوّل ما يقول، انّ مشكلة ايران مع الايرانيين في الداخل الايراني قبل ان تكون مع العراقيين ومع اتفاق الجزائر.