باحثة تونسية تؤكد أن السلوك الديني في اختيار صداقات الجيل لا أهمية له

آمال موسى في كتابها "الشباب التونسي والتدين في الحياة اليومية" توضح أن ظاهرتي التعدد والتنوع تهيمنان على سلوك الشباب الديني.
بيانات تؤكّد أنّ القنوات ذات المرجعية السلفية الوهابية أكثر جذباً للشباب من القنوات المروجة للمذهب الشيعي
انعكاسات قوية على رؤى وأفكار الشباب تتطلب طرح العديد من التساؤلات حول الظواهر التي نشأت في أوساطهم كظاهرة الإلحاد والتدين والعنف وغيرها

يشكل الشباب محورا رئيسيا في بنية التغيير الاجتماعي في المجتمع العربي، ومن ثم فإن الأحداث والتطورات التي جرت أو تلك التي تجري، وألقت انعكاسات قوية على رؤى وأفكار هؤلاء الشباب، تتطلب طرح العديد من التساؤلات حول الظواهر التي نشأت في أوساطهم كظاهرة الإلحاد والتدين والعنف وغيرها، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب للشاعرة والباحثة التونسية آمال موسى "الشباب التونسي والتدين في الحياة اليومية" حيث تبحث وتحلل محدّدات علاقة الشباب التونسي بالدين؛ محاولة الإجابة على تساؤلات مثل: ما الذي يُحدد طبيعة ممارسة الشباب التونسي للدين في المعيش اليومي؟ وما هو تأثير الأطر الاجتماعية ودور مرجعيات الإسلام العائلي والشعبي والعالم والرسمي في تشكيل السلوك الديني للشباب التونسي؟ وإلى أي حد يمكن أن تستبطن الممارسة اليومية للدين مضامين احتجاجية بالمعنى السياسي، أو أنها تعبر عن دوافع متصلة بالإكراهات التي تثقل الواقع الاقتصادي للشباب التونسي؟
تقول موسى إن طموح كتابها الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والذي أنجزت دراسته الميدانية الخاصة به قبيل تاريخ الثورة التونسيّة (14 يناير/كانون الثاني 2011)، هو "إدراك طبيعة الدوافع الذاتيّة التي تجعل الشباب، بوصفه فاعلاً اجتماعياً مؤثراً وحاملاً لطاقة مهمّة للتغيير، ينتصر لعلاقة معيّنة مع الدين دون سواها؛ ذلك أنّ الذاتية تساعد في فهم الحقيقة الاجتماعية، لما تتّصف به لا فقط من قدرة على فعل الحراك وإنما لكفاءة البعد الذاتي في منح الواقع الاجتماعي معنى جديداً، وفي كشف مقاصد الفرد والأسباب المحدّدة لأدواره وأهدافه وكيفية تفاعله في المحيط الاجتماعي".
وتضيف "سعياً إلى إبراز البعد العلائقي بين السلوك التديني والمتغيرات، نظرنا في الأثر السببي لأربعة متغيّرات هي: متغيّر مكان النشأة والجذور الاجتماعية والجغرافية، ومتغير الجنس، ومتغير المستوى التعليمي، ومتغير الخصائص الاقتصادية. وأهم ما توصلنا إليه أنّ الفوارق ذات الصلة بالمتغيّرات الأربع المشار إليها جزئية، وأرجعنا ذلك بالنسبة إلى متغيّر النشأة مثلاً إلى تسارع وتيرة التحضّر الذي نتج عنه تراجع الطابع الريفي للمجتمع التونسي، وتقلص مواطن التمايز بين الريف والمدينة. غير أنّ ظاهرة اللاتمايز النسبي لم تمنع من وجود بعض الفوارق، ولاسيما ما يتعلق بدور الأطر الاجتماعية المحددة للسلوك الديني، حيث تقول بعض الاستنتاجات: إنّ دور الأسرة والمدرسة والقراءات ووسائل الإعلام، بالنسبة إلى شباب العينة المنتمي من حيث مكان النشأة إلى المدينة، أكثر أهمية وقوة مقارنة بدور أطر التنشئة الأساسية والثانوية لدى شباب أصيل الريف. من جهة أخرى، إن كان التأثير النفسي للصلاة أكثر قوّة بالنسبة إلى الشباب ذي النشأة في المدينة؛ إذ تمنحهم الطمأنينة والقوة، فإنّ متغيّر الجذور الاجتماعية أظهر لنا كيف أنّ الإسلام الرسمي لا يمثّل المرجعيّة الأولى والمؤثرة في مواقف شباب العينة أصيل الريف، في إشارة واضحة إلى الانشقاق السياسي وضعف الاندماج الاجتماعي والتفاعلية.

المعيش الديني للشباب في تراوح مستمر بين منظومتين قيميتين مختلفتين، وتبعاً للمؤثّرات الذاتية الخاصة والعامة تتحقّق غلبة منظومة على أخرى

وخلافاً للبعد العلائقي بين متغيّر مكان النشأة والعلاقة اليومية بالدين، تخلص موسى إلى استنتاج الأثر المهمّ لمتغيّر الجنس، وتشير إلى أن ذلك "يظهر في مجال الممارسة الدينيّة والمواقف من المسألة الجنسانيّة التي يضعها ديفيد بريتون في قلب الرمزية الاجتماعية، ومن ثمّة فهي قويّة من حيث الدلالات. فممارسة الطقوس وأداء الشعائر الدينية، اللذان عَدَّهما غابرييل لوبرا (Le Bras) أكثر من ظاهرة أو فعل فردي، وأنهما يعنيان، إضافة إلى الارتباط بالقوى السماوية، الانتماء إلى نسق من الأخلاق العائلية والشخصية، التي تتوطد أحكامهما وقيمها من خلال الصلاة والفروض الأخرى، نجد مؤشرات تشير إلى فوارق جندرية على صعيد الممارسة الدينية تتمثّل في حجم ممارسة الإناث للصلاة ومعدل انتظامهما، إضافة إلى أنّ الشابات هنَّ الزبون الأول لأضرحة الأولياء الصالحين، ويفضّلنَ كتب التداوي بالقرآن والأدعية أكثر من الذكور. لذلك، إن هذه الخصائص التي تظهر أكثر في كيفية ممارسة الشابات للدين، ناهيك عن هيمنة الديني على تمثلاتهن للجنسانية، إنما تكشف عن استمرار فعالية سلطة التقليد والنظرة البطريركية في نسيج الممارسات الاجتماعية عموماً، والممارسات ذات الصلة بالدين تحديداً".
أما في خصوص الأثر السببي لمتغيّر المستوى التعليمي، فإنّ أهم الاستنتاجات التي توصلت إليها موسى "إنّه كلّما ارتفع المستوى التعليمي لشباب العيّنة كان دور الأسرة في تحديد السلوك التديّني أكثر أهميّة، وأنّ كلاً من المدرسة والقراءات ليستا إطاراً للتنشئة الدينيّة بالنسبة إلى الشباب من المستويات التعليمية كافةً. في حين أنّه في مجال الممارسة اليومية للشعائر الدينية، لاحظنا أنّ شعيرة الصلاة ترتفع نسبة ممارستها بالتوازي مع انخفاض المستوى التعليمي، على الرغم من أنّ كلّ شباب العيّنة من المستويات التعليمية المختلفة أجابوا بأنّ الصلاة تمنحهم الطمأنينة؛ فهي أداة ضبط اجتماعي بسبب ما توفّره لهؤلاء الشباب من إمكانيّة لاكتساب القدرة النفسية، وبذلك يؤكد "الأثر الفعال في نشر الأمن والطمأنينة"، الوظيفة النفسية التي يقوم بها الدين في الحياة اليومية لهؤلاء الشباب".
وتلفت موسى إلى أنّ الأسرة ذات الهيكلة الحديثة، بحكم التغيير الاجتماعي والتحولات في التركيبة الديمغرافية، تُعدّ المحدّد الأكثر قوّةً وأهمية في تشكيل علاقة شباب العيّنة بالدين؛ حيث إنها - أي: العائلة - تحظى بمخيال إيجابي لدى الشباب، وتضطلع بأدوار اجتماعية واقتصادية وتربوية مكّنتها، أكثر من مؤسسات التنشئة الأخرى، من أداء دور دينيّ في إطار تحكمه تفاعلية إيجابية. في مقابل ذلك لاحظنا أنّ أثر التنشئة المدرسيّة ضعيف وأغلبية شباب العيّنة من مختلف الفئات العمرية رأت أنّ مادة التفكير الإسلامي غير مهمّة أو مادة ثانوية. والأمر نفسه تقريباً، بالنسبة إلى القراءات الدينية والأقلية التي تدين في معرفتها الدين الإسلامي إلى القراءات الدينية، تتجه في هذا النوع من الممارسة الثقافية إلى كتب الأدعية والتداوي؛ أي قراءة كتب التدين الشعبي، ما يفيد أن معرفة الشباب بالدين معرفة تقليدية، وليست وليدة النظم المعرفية الجادة والمعرفة العالمة الدقيقة.
وترى أن الإطار الذي يُضاهي، من حيث الأهمية دور العائلة، فإنّه يتمثّل في وسائل الإعلام؛ حيث إنّ مشاهدة القنوات الدينية تُعدُّ ممارسة ثقافية مهمّة لدى أغلبية الشباب مع تفوق نسبي للشباب الممارس لشعيرة الصلاة، كما أنها الممارسة الثقافية الأساسية لكل شابات العينة المحجبات، علماً بأنّ بعض البيانات المتصلة بمبحث وسائل الإعلام تؤكّد أنّ القنوات ذات المرجعية السلفية الوهابية أكثر جذباً للشباب من القنوات المروجة للمذهب الشيعي.
وتخلص موسى إلى أهم خصائص المعيش الديني لفئة الشباب، نوضح منها التالي: 
أولا: معيش ديني متعدّد: تهيمن ظاهرتا التعدد والتنوع على سلوك الشباب الديني؛ إذ توجد أنماط من السلوك متعدّدة ومتفاوتة في طبيعة علاقتها بالدين، وهو تعدد يستجيب لطبيعة الفعل الاجتماعي لدى الفرد الذي يجمع بين الفردي والاجتماعي. لذلك، على الرغم من محدودية عدد العيّنة التمثيليّة في بحثنا، والذي يُقدَّر بمئتي شاب، إن أنماط السلوك الدينية التي رصدناها كانت متعددة ومتنوعة؛ حيث إنه معيش يقوم على الطقوسية لدى البعض، ويفتقد العبادات والشعائر الدينية لدى الآخر. كما أنه معيش يبدو متسامحاً لدى قسم من شباب العيّنة، ومتشدداً بالنسبة إلى القسم الآخر، وخصوصاً في المسائل المتعلقة بالجنسانية، والزواج بغير المسلم وغير المسلمة، وأيضاً موضوع الجهادية، وخطاب الجماعات الدينية. إلا أن الطابع التعددي لهذا المعيش، واختلاف قوة العلاقة بالديني، تمثّلاتٍ وقيماً وممارسةً، من شاب إلى آخر، لم يمنع أغلبية الشباب من الإجماع على هيمنة المقوم الديني في بنائهم الرمزي للهوية، وهي خاصيّة أظهرها تركيب الهوية لدى الشباب، وأيضاً ظاهرة كثافة أداء شعيرة صوم رمضان ومركزيتها في ممارسة الشباب للدين التي قد تعود إلى فاعلية هذه الممارسة الدينية الموسمية في تنشيط الذاكرة الدينية، وتقوية الاندماج الاجتماعي.
ثانيا : معيش ديني متسامح: من الخصائص التي تؤكدها بيانات عدة خاصية التسامح الغالبة على السلوك التديني لشباب العينة. ويبدو أن هذا التسامح إزاء الذات والآخرين يعبر، في جزء منه، عن البعد التسامحي للشخصية القاعدية الأساسية للمجتمع التونسي؛ حيث إنّ ما تتميز به ممارسة الشباب للصلاة من تواضع في التواتر المنتظم مثلاً إنما هو وليد تسامح اجتماعي في خصوص ممارسة الصلاة وكيفية تواترها. وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية أظهر شباب العيّنة تسامحاً ملحوظاً يعكس الانفتاح وغياب الدوغمائية في تقويم الأفراد وفي بناء العلاقات الاجتماعية؛ إذ أن التدين لا يمثل آلية للتمايز الاجتماعي والقيمي الأخلاقي بدليل أنّ أغلبية شباب العيّنة لا تعير مسألة السلوك الديني في اختيار صداقات الجيل أيّ أهمية؛ بل إن الشباب الذي تربطه بالدين علاقة تعبدية طقوسية يقوم باختيار أصدقائه خارج المعيارية الدينية. ويبدو أنّ خاصية التسامح هذه ذات صلة بالأفق الثقافي للشخصية التونسية الذي من مضامينه مسألة الحرية الدينية، التي تعود إلى عهد أحمد باي، وصدور قانون الأمان عام 1857. لذلك، نسجّل توافقاً بين الأفق الثقافي، الذي غذته مظاهر العلمنة المرافقة لبناء الدولة الوطنية الحديثة، والموقف الإيجابي لأغلبية شباب العينة من مسألة حرية المعتقد.
ثالثا:  معيش ديني متناقض وانفصامي: يمثل التناقض سمة بارزة في علاقة الشباب بالدين سواء من الناحية الرمزية القيمية أم السلوكية. وهو في الحقيقة تناقض لا يساعد كثيراً في فهم الممارسة الشبابية للدين بيسر، بقدر ما يسهم في تثبيت صفة الغموض. فأحياناً تكون التمثلات في انفصام مع الممارسة، وفي أحايين أخرى نجد نوعاً من التشظّي بين العلامة الدينية مثلاً والموجبات والمقاصد التي تشكّل السلوك الديني.
ومن البيانات، التي تكشف لنا عن ظاهرة التشظي والانفصام، مثلاً، إجابة أغلبية شباب العيّنة بأنّهم لا يزورون أضرحة الأولياء، واعتقاد الأغلبية من الشباب نفسها بقدرة الأولياء الصالحين على التطبيب. كما أنّ سلوك بعض فتيات العيّنة المحجّبات لا يخلو من تناقض؛ حيث إنّ (21.9%) من الشابات اللواتي لا يمارسنَ شعيرة الصلاة يضعن الحجاب. ويظهر أنّ هذا التشظّي نتيجة طبيعية للتجاذب الذي يعيشه الشباب اليوم بين سجلين قيميين تقليدي وحداثي، فيكون السلوك في حالة انفصام وتردد وتنازع بين سلطتي التقليد والحداثة، الشيء الذي يُنتج سلوكاً دينياً مركباً ومعقداً تعرف فيه القيم تشابكاً أحياناً عنيفاً يُترجم سلوكياً بمواقف وممارسات يهمين عليها التناقض.
لذلك، إن المعيش الديني للشباب هو في تراوح مستمر بين منظومتين قيميتين مختلفتين، وتبعاً للمؤثّرات الذاتية الخاصة والعامة تتحقّق غلبة منظومة على أخرى، علماً بأنّ الطاغي على علاقة شباب العيّنة بالدين البنية التقليدية بسبب الأثر الضعيف للإسلام العالم المعقلن والولاء الأكبر للإسلام العائلي المتوارث، الذي يقوم على معرفة دينيّة تقليديّة إضافة إلى ما تضطلع به مرجعيّة الإسلام الشعبي من وظيفة نفسية تُسهم في تزايد الحاجة إليها الإكراهات الاقتصادية، ومظاهر الاغتراب، وضعف الاندماج الاجتماعي، دون أن ننسى أنّ الإسلام الشعبي يتوافق، إلى حدٍّ كبير، مع توقّعات العلاقة النفعية؛ إذ أنّ دنيوة المقدس وإخضاعه لمسوغات نفسية واقتصادية غير متاحة في مرجعيات أخرى مثل مرجعية إسلام الدولة، أو إسلام العلماء، تعمق الطابع المتغير للعلاقة اليومية بالديني.
رابعا: معيش ديني ذو ملمح احتجاجي: إنّ هذه الاستنتاجات الحذرة والنسبية، مهما حاولنا توخي الموضوعية فيها وفي غيرها المدونة في أجزاء الأطروحة كافّة، قد توصلنا إليها اعتماداً على بيانات تمّ جمْعُها قبل تاريخ ثورة (14 يناير/كانون الثاني 2011)، ونعتقد أنّها مُهمة من جهة كونها باتت تمثّل معطيات قابلة للمقارنة مع ما أصبحت تعرفه الممارسة الشبابية للدين من تغييرات اتّخذت لدى البعض اتجاهاً راديكالياً تمثّل في ارتداء النقاب، ومحاولة فرضه في الفضاء العمومي وفي مؤسسات التعليم العالي، دون أن نغفل عن دلالات الفوز الانتخابي النسبي لحركة النهضة ذات الروافد الإخوانية. 
لقد طرأت على المعيش الديني الجمعي والفئوي الشبابي عدّة تغييرات منتجة للحيرة المعرفية، ومُحفزة للفضول العلمي كي يُحفر فيها مستفيداً، في الوقت نفسه من الآفاق الجديدة المفتوحة أمام البحث العلمي في تونس، وعلى رأسها أفق الحرية والتحرّر من آثار المراقبة السياسية، التي تحدّ من الإبداع والتحلّي بالجرأة في مجال البحث. وأن يتمّ انتداب الشباب التونسي، بشكل لافت، في التنظيمات التكفيرية الجهادية ذكوراً وإناثاً من المظاهر المستفزّة للباحث كي لا يملّ من إعادة تفكيك العلاقة بالدين في المجتمع التونسي ومواطن العطب فيها.