باحثون يتحدثون عن قراءات متعددة للنص القرآني

تأسيس علوم القرآن على قواعد منهجيّة ومعرفيّة جديدة، يمكن لاحقاً التعويل عليها في مقاربة نصّ القرآن بوعي متيقّظ وبحسّ تاريخي.
سيرورة تأويليّة تتمّ وفق ضوابط وشروط عيّنها الدرس التأويلي الفلسفي المعاصر
عشرون باحثا يقرأون علوم القرآن بحثا عن فتح نص القرآن على تعدد القراءات

إنّ الرهان الأساسي من هذا المشروع البحثي الذي شارك فيه عشرون باحثا وأشرف عليه بسام الجمل "علوم القرآن في الإبستمية المعاصرة" هو تأسيس علوم القرآن على قواعد منهجيّة ومعرفيّة جديدة، يمكن لاحقاً التعويل عليها في مقاربة نصّ القرآن بوعي متيقّظ وبحسّ تاريخي ليس من همّه تمجيد النصّ الديني بقطعه عن جذوره التاريخيّة، وعن سياقات عصره، وعن منابته الاجتماعيّة التي نجم منها وتشكّل على التدريج، وكذلك ليس من همّه أن يُغلق هذا النصّ على ذاته ويجتثّه من محضنه في الواقع التاريخي.  
ووفقا لبسام الجمل فإن المؤمّل من هذه الرؤية الجديدة لعلوم القرآن هو "فتح نصّ القرآن على تعدّد القراءات، وعلى اختلاف وجوهها، عبر سيرورة تأويليّة تتمّ وفق ضوابط وشروط عيّنها الدرس التأويلي الفلسفي المعاصر؛ منها ما يتّصل بالخصوص بالذات المؤوِّلة "هي ذات تحمل ثقافة معيّنة ومتأثّرة، بدرجة ما، بقيم عصرها". ومن المؤكّد أنّ هذا المنظور الجديد لعلوم القرآن يمكّن من تجاوز كل القراءات الاجتراريّة والإسقاطيّة التي لا تُكرّس سوى الاتّباعية والامتثاليّة والمحافظة، وما يترتّب عن ذلك من تكلّس الفكر وجمود البحث وموت المعرفة". 
وأوضح أن قسم الدراسات الدينيّة في مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" يعرض للدراسات والأبحاث على الباحثين وعلى أساتذة الاختصاص مشروعاً بحثيّاً يتناول بالدراسة المعمّقة، وبمقاربات علميّة خالصة، موضوع "علوم القرآن في الإبستميّة المعاصرة: مقاربة تفكيكيّة نقديّة"، قصد صياغة مشروع رؤية جديدة لعلوم القرآن يستفيد بحقّ من منجزات المناهج المعاصرة في العلوم الإنسانيّة، وفي تحليل الخطاب، وفي الأنثروبولوجيا الدينيّة، فيعمل المتوسّل بها على توظيفها في محاورة النصّ الديني محاورةً خلّاقةً مبدعةً بعيداً عن كلّ النزعات التمجيديّة أو المُغرضة. 

معالجة النسخ في القرآن من منظور يتجاوز الرؤية التقليديّة في شأنه "التوفيق بين الأحكام المتعارضة

ولعلّ ما يُحوج اليوم إلى إنجاز هذا المشروع البحثي أنّ القرآن أضحى، أكثر من أيّ وقت مضى، موضوع تنازع بين مختلف التيّارات الدينيّة والأحزاب السياسيّة والقراءات الإيديولوجيّة؛ فكلّ واحد منها يرى نفسه مؤهّلاً دون غيره لتقديم قراءة صحيحة ونهائيّة للقرآن، سواء في مضامينه، أم في دعوته. ولا يغيب عن الأذهان أنّ مثل هذا التصوّر يُفضي إلى ادعاء كلّ طرف امتلاكه شرعيّةً تأويليّةً. فالصراع إذاً صراع على فرض المعنى عبر وضع اليد على القرآن، والعمل على احتكاره. 
وأكد الجمل أنّ المقصد من هذه المقاربة الجديدة هو قراءة علوم القرآن، في إنتاجها القديم أو المعاصر، بروح نقديّة عالية، قد تُتيح للدارس اليوم، من بين ما تُتيح، إمكانات محاورة القرآن رأساً، تأسّياً بتقليد راسخ في البحث اشتهرت به المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة في الدراسات القرآنيّة المعاصرة. 
وقال إنه لا مراء في أنّ علوم القرآن تحتلّ منزلةً مهمّةً داخل الثقافة الإسلاميّة الكلاسيكيّة؛ فهي تمثّل النصوص الثواني التي يستند إليها علماء القرآن والمفسّرون في تعاملهم مع النصّ الأوّل؛ نصّ المصحف. وقد وظّفوا مختلف علوم القرآن، من أسباب نزول، وناسخ ومنسوخ، والوحي والتنزيل، والمكّي والمدني، والقراءات، والمعجم اللغوي القرآني، من أجل تعيين مراد الله من كلامه، أو الاقتراب أكثر ما يمكن من ذلك المعنى المراد. ذلك كلّه بحسب طبيعة الثقافة الدينيّة السائدة في عصورهم من ناحية، وبحسب مناهج البحث المتاحة لهم من ناحية أخرى. 
وغنيّ عن البيان أنّ علوم القرآن أفرزت، على التدريج، وبالتراكم في الزمان، إنتاجاً مهمّاً من التآليف المفردة الخاصّة بعلم بعينه من علوم القرآن، أو من المصنّفات الجامعة لمختلف تلك العلوم، وقد بلغ عددها مبلغاً كبيراً في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلاد، حتّى إنّ أنواعها أربت على ثمانين مع جلال الدين السيوطي (ت 911هــــ/1505). 
 وأضاف الجمل أنه فضلاً عن ذلك فإنّ التمكّن من علوم القرآن كان من الشروط الأساسيّة التي ينبغي أن تتوافر في مفسّر القرآن، وهو ما كان يقتضي منه، في الأغلب، إنفاق سنوات عديدة من أجل حذق تلك العلوم واستيعابها "كتاب الإتقان في علوم القرآن، بأجزائه الأربعة، هو في الأصل مقدّمة لتفسير قرآني"؛ ذلك أنّ مهمّة تفسير كلام اللّه مهمّة جليلة كان القدامى يتهيّبون منها. ولعلّ ذلك ما  يؤكّد أنّ أغلب المفسّرين، إن لم نقل كلّهم، فسّروا القرآن في مرحلة متأخّرة من حياتهم، ومن ثمّ لا نستغرب أن تكون بين أيدينا اليوم تفاسير قديمة غير تامّة؛ لأنّ أصحابها وافتهم المَنِيّة قبل إكمالها.  
ورأى إنّ مأتى أهمّية علوم القرآن، ولا سيّما في التصوّر الإسلامي الكلاسيكي، هو تعبيرها عن الجهود التي بذلتها أجيال من العلماء في تدبّر النصّ الإلهي؛ فانعقدت علاقة جديرة بالتفحّص بين نصوص قائمة على اجتهادات بشريّة ومتأثّرة برؤى أصحابها العقديّة والمذهبيّة وبثقافاتهم وبأوضاعهم التاريخيّة من جهة، ونصّ يعتقد الضمير الديني أنّه مفارق متعالٍ انصهرت فيه أنماط شتّى من الخطابات "السرد والقصص، والأدعية والتسابيح، والأحكام، والقيم والأخلاق، والأفق الأخروي والمصير..."، ومن فنون إبلاغ الكلام (الحقيقة والمجاز، والتلميح والإجمال، والتعبير الرمزي..." من جهة أخرى. ويشفّ ذلك عن أهمّية الصلة بين النصّ الديني وفعل القراءة؛ لذلك يُعدُّ المتقبِّـل عنصراً أساسيّاً من عناصر إنتاج الدلالة وتعيين المعنى القرآني. ومشهور في هذا السياق القول المنسوب إلى عليّ بن أبي طالب: "هذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين، لا ينطق وإنّما يتكلّم به الرجال". 
ونبه الجمل إلى أنه غير خافٍ أنّه كلّما ابتعدنا زمانيّاً عن عصر الدعوة عظُمَت الحاجة إلى مختلف علوم القرآن، من أجل فهم النصّ الأوّل في الثقافة الإسلاميّة وتفسيره على الوجه المنشود. ولكنّ الإشكال الحقيقي، ههنا، يتمثّل في أنّ العلماء المسلمين كانوا عاجزين، جزئيّاً أو كلّيّاً، وبنِسَب متفاوتة بينهم، عن التعامل المباشر مع نصّ المصحف، فكانوا يتوسّلون بتلك العلوم متّخذين إيّاها وسائط لا غنى لهم عنها من أجل إدراك معاني القرآن. وقد أحوجتهم عدّة أسباب إلى ذلك، من أبرزها أنّ تدوين القرآن في مصحف لم يكن حسب تاريخ الوحي في النزول، ثمّ إنّ ما دُوِّن لم يُحتفظ به بسياقات التنزيل، وبظروف التلفّظ به أوّل مرّة.  

باحثون في علوم القرآن
معرفة أسباب نزول آيات القرآن

ورأى أنّ السند المعرفي والإبستمي، الذي كانت تعتمد عليه علوم القرآن في العصر الإسلامي الكلاسيكي، قد تغيّر اليوم بشكل جذري وعميق، حيث إنّ المعرفة المعاصرة فرضت علينا ضرورة الانتقال من ثقافة النقل والجمع إلى ثقافة النقد والسؤال، ومن خطاب التأويل الآحادي إلى تحليل الخطاب وتعدّد التأويلات، ومن مقالة تمام المعرفة إلى مقالة نسبيّة المعرفة. أضِفْ إلى ذلك كلّه ما أصبح متاحاً لدى الدارسين المعاصرين من أدوات في البحث العلمي، ومن مناهج في المقاربة متعدّدة، جعلت آفاق المعرفة ممتدّة، تتجاوز نطاق الدين الواحد إلى النظر في الظاهرة الدينيّة عموماً، وهو ما أهّل عدداً من المتخصّصين في هذا الباب لدراسة الجوامع المشتركة بين الأديان التوحيديّة وغير التوحيديّة، من قبيل الإيمان والإلهي والمقدّس والعقيدة... إلخ. 
وبناءً على ما سبق، أكد الجمل أنّ علوم القرآن في حاجة أكيدة اليوم إلى مراجعة نقديّة، حتّى لا نبقى نجترّ ونكرّر أقوال العلماء فيها؛ إذ لم يعُدْ من المقبول، الآن وهنا، ترحيل علوم القرآن التي تضمّنتها نصوص التراث إلى التفاسير الحديثة والمعاصرة، فنتّخذها مقدّمات، أو مداخل، لتأويل النصّ الديني. فالمكتبة الإسلاميّة تعجُّ اليوم بمئات التفاسير، أو مؤلّفات علوم القرآن، التي عند التأمّل ليست سوى نقل حرفي، أو يكاد، لما قاله السلف من العلماء في أسباب النزول، أو النسخ، أو المكّي والمدني، أو فضائل القرآن... إلخ. وكان عبدالمجيد الشرفي مصيباً حينما قال: "إنّ الاطلاع الواسع، لا المبتور، على التراث الديني من شأنه أن يوفّر للقارئ المعاصر عناصر تعينه على التخلّص من القراءة الأحاديّة الاتجاه للنصّ القرآني، وعلى العودة إلى ثراء هذا النصّ قبل تكلّس التأويل وانغلاقه، وقبل تحوّل الدين إلى مؤسّسة". 
ولخّص الجمل أهمّ أهداف هذا المشروع البحثي، والأسئلة التي أثارها، في نقاط منها: أولا؛ دراسة برادايم العلوم الإسلاميّة، من خلال علوم القرآن، في ضوء مكاسب ومنجزات العلوم الإنسانيّة والمناهج الحديثة والمعاصرة، التي يمكن توظيفها في نقد الموروث الديني الإسلامي. 
ثانيا؛ العمل على أن تكون علوم القرآن بحقّ عُدّةً منهجيّةً ورصيداً معرفيّاً يكونان قادريْن على محاورة نصّ المصحف على نحو يُنتج قراءة له معبّرة عن شواغل المسلم وهمومه الحادثة في الزمان، ومطالبه الواعية وغير الواعية. 
ثالثا؛ القراءة النقديّة التفهّميّة لأهمّ علوم القرآن في التراث الإسلامي؛ فالدارس المعاصر مدعوّ إلى أن يؤسّس تناوله لهذه العلوم على ما ستفضي إليه الدراسات النقديّة لها من أسئلة ومراجعات واستنتاجات ونتائج. فالمعرفة تُبنى على التجاوز النقدي من أجل تأسيس معرفة جديدة متفاعلة مع عصرها، ومنخرطة في لحظتها الإبستميّة. 
رابعا؛ اقتراح مقاربة جديدة لمفهوم الوحي في الإسلام، ولكيفيّات تشكّله في الواقع التاريخي زمن الدعوة المحمّديّة، وللتحوّلات الطارئة عليه "كلام اللّه، وحي، قرآن، مصحف..." والنتائج المترتّبة عن ذلك على مستوى الكلام المُبلَّغ. 
 خامسا؛ إعادة النظر في تاريخ المصحف من منظور معاصر يأخذ في الاعتبار المراحل التي تمّ بوساطتها تثبيت الوحي في كتاب، ولا سيّما من جهة الانتقال من المشافهة "القرآن" إلى التدوين "المصحف"، والاستفادة من  كلّ الدراسات المهمّة التي أُنجزتْ مثلاً حول مصاحف الجامع الكبير في صنعاء (اكتُشفت سنة 1972)، وحول المصاحف القديمة جدّاً، التي خضعت للتحاليل المخبريّة من المشرفين على مشروع "الموسوعة القرآنيّة" في ألمانيا.  
سادسا؛ مواصلة تفحّص مرويّات أسباب النزول انطلاقاً ممّا أُنجز في هذا المبحث من دراسات قيّمة، ولا سيّما أنّ المنفذ الوحيد المُتاح اليوم للدارس لمعرفة تاريخ الوحي، من خارج النصّ الديني، هو معرفة أسباب نزول آيات القرآن؛ بل إنّ الخوض في مبحث الناسخ والمنسوخ من القرآن لا سبيل إليه إلّا بالتعويل على معرفة تاريخ الآيات الناسخة المتأخّرة في النزول عن تاريخ الآيات المنسوخة. 
سابعا؛ معالجة النسخ في القرآن من منظور يتجاوز الرؤية التقليديّة في شأنه "التوفيق بين الأحكام المتعارضة، أو تبرير العمل بحُكم ورد في السُّنّة دون حُكم قرآني في مسألة ما" إلى قراءة جديدة تأخذ في الاعتبار مقاصد المُشرّع من أحكامه حتّى لا تُقرأ في حَرْفيّتها، ولا تُطبّق بالضرورة كما هي، وبصفة آليّة، في كلّ الأزمنة والعصور مهما تغيّرت وتبدّلت. وفضلاً عن ذلك، ينبغي دراسة العلاقة بين النسخ والتأويل من خلال عدّة مبادئ متحكّمة في هذه العمليّة، مثل تعيين أساليب الخطاب في القرآن "الأمر قد يفيد الوجوب مثلما قد يفيد الندب"، ومن قبيل استحضار قراءات مخالفة للقراءات الرسميّة. ويطرح ذلك كلّه إمكان البحث في فلسفة النسخ في الفكر الإسلامي، وهي فلسفة نُقدّر أنّها ستراعي رهانات الرسالة المحمّديّة الضمنيّة والصريحة.