باحث تونسي يحذر من تدجين المنظومة التّربويّة

بدر الدين هوشاتي يوضح أن حركات الإسلام الأصوليّ والسّياسي تفطّنت إلى أهمّيّة التّعليم في مشروعها الرّامي إلى أسلمة المجتمع.
هوشاتي يعري المشروع الجامح إلى أن يتسيّد الجهلُ مكانَ العلم، والعنفُ مكانَ التّسامح
مقاربة هوشاتي لنظرة الإسلام السّياسي في المجال التّربوي التعليمي تنبني على محاور متناسلة عن بعضها البعض

يشكل التّعليم حجر الزّاوية في نهضة الأمم والشّعوب قديمها وحديثها، وقد كان من المفترض أن يحظى بأقصى درجات الاهتمام والمتابعة من النّظم السّياسيّة الرّسميّة المسؤولة قبل غيرها عن إجباريّته ومجانيّته، بل إنّ مسؤوليّتها تتضاعف عندما يتعلّق الأمر بالمقرّرات والبرامج التي يجب اعتمادها، منعاً لكلّ انحراف، وتصدّياً لكلّ نزوع إلى توظيف المنظومة التّربويّة بحسب أهواء عقديّة أو طائفيّة أو إيديولوجيّة. 
وقد افتتح الباحث التونسي د.بدر الدين هوشاتي كتابه "الإسلام السياسي ومنظومة التربية" مؤكدا أنّ المتبصّر بواقع التّربيّة والتّعليم في البلاد العربيّة والإسلاميّة عموماً، يقف على خلاف ما يفترض أن يكون؛ إذ تتعامل الأنظمة السّياسيّة - على اختلافها - مع المسألة باعتبارها شأناً إداريّاً تستجيب من خلاله لمقتضيات التزاماتها السّياسيّة تجاه الشّعوب التي لم يكن استهداف ملكاتها واستفزاز قدراتها وتزويدها بالفكر النّيّر أولويّة في سلّم اهتماماتها، أو رهاناً من رهاناتها، والدّليل على هذا الاستهتار بمستقبل الأجيال تراكم المشاريع التي تدّعي إصلاحاً تربويّاً شاملاً لينسخ اللّاحق منها السّابق، بسبب غياب المشروع والرّؤية الاستشرافيّة أوّلاً، والرّغبة السّياسيّة الميّالة أبداً إلى تأبيد الجهل ثانياً؛ ذلك أنّ تنوير العقول بالتّعليم يفتح العيون على واقع يستدعي التّبصّر بعيوبه ومن بعد التّمرّد عليه، وهو أقسى ما يهدّد تلك النّظم الاستبداديّة فيرعبها وتخشاه.  
وقال إنّ حركات الإسلام الأصوليّ والسّياسي تفطّنت إلى أهمّيّة التّعليم في مشروعها الرّامي إلى أسلمة المجتمع بدءاً بالنّاشئة الذين هم في نظر دعاة الإسلام السّياسي الخزّان البشريّ في مستقبل الأعوام، وهو ما عبّر عنه صراحة رهط غير قليل من رموز الإسلام السياسي عندما قالوا "غايتنا الآن ليست آباء اليوم، بل أبناء الغد". وبديهيّ أنّ مثل هذه الغاية تجعل مشروعهم منطوياً على كثير من التّربّص والمخاتلة؛ لأنّه يستبطن تحفّزاً إلى اغتيال العقل الفعّال والفكر الوقّاد قبل أن ينشأ، فضلاً عن مصادرة حقّ الأجيال في اكتساب مهارات ومعارف تقيهم خطر الوقوع في الغلوّ والتّطرّف الدّيني، على الرغم من اقتناعنا بأنّ تعليم الدّين الإسلامي، باعتباره عنصراً تراثيّاً متأصّلاً في الهويّة، أمر مطلوب، أسوة بالدّول الأوربيّة العلمانيّة، حيث لا تزال المدارس الدّينيّة نشطة ومؤثّرة "المدارس الكاثوليكيّة خاصّة" دون أن يثير نشاطها أيّ إشكال في علاقتها بالنّظم العلمانيّة هناك. 
وأكد هوشاتي إنّ سعي الإسلام السّياسيّ إلى تدجين المنظومة التّربويّة هو الذي يعمّق الهواجس، التي تستبدّ بكلّ غيور يَعدّ التّعليم بوّابةَ العبور إلى ثقافة التّعايش والتّسامح، وهي ثقافة باتت مهدّدة لو نجح الإسلاميّون في تمرير مشروعهم الذي سيجعل من المدرسة معسكرات للتّدريب على العنف السّياسيّ والإيديولوجيّ الموجّه إلى الأعداء العلمانيّين والحداثيّين.  

 خطاب الإسلام السّياسي المتّصل بالشّأن التّربوي خطاب مزدوج، الأوّل ظاهر معلن يدّعي العمل على التّحصين الدّيني للنّاشئة بما يقيهم الانحرافات عن العقيدة والسّلوك بحسب الضّبط الإسلاميّ لهما

يعري هوشاتي في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود هذا المشروع الجامح إلى أن يتسيّد الجهلُ مكانَ العلم، والعنفُ مكانَ التّسامح، ورفضُ الآخر مكانَ القبول به والتّعايش معه. لأجل ذلك كلّه حرص على أن مقاربة المسألة التّربويّة من منظور الإسلام السّياسي بأدوات تحليليّة مرنة ومستساغة، تنزل بالخطاب الأكاديميّ المتعالي إلى أدنى مستويات التّقبّل لدى جمهور العامّة، رفعاً للغشاوة عنه، وقطعاً للطريق أمام مَنْ يتربّص به من الظّلاميّين. 
نهض الكتاب على قراءة في أدبيّات الإسلام السّياسيّ ذات الصّلة بالمسألة التّربويّة، معتمدا على ما كتب أبو الأعلى المودودي، وحسن البنّا، وسيّد قطب، فهؤلاء، وغيرهم ممّن مثّلوا الأصل المرجعيّ للحركات الإسلاميّة التي تفطّنت إلى جدوى العمل الدّعويّ داخل المدرسة، واعتبارها الحاضنة الأولى لتسريب أفكارها الإيديولوجيّة الهدّامة. 
وقد لفت هوشاتي إلى إنّ تحديد المدوّنة، التي سيشتغل عليها، لم يمنعه الاستفادة من غيرها؛ "لأنّ طبيعة البحث تقتضي تأصيلاً للمسألة التّربويّة في بعدها التّراثيّ، وهو ما يستدعي منّا ضرورة العودة إلى ما كتب المتقدّمون على غرار الجاحظ وابن خلدون وغيرهما ممّن كانوا سبّاقين إلى نظريّات في التّربية ومناهج التّعليم، لنعقد المقارنة بين نظريّات هؤلاء وشطحات أولئك". 
وقال "يجمع دعاة الإسلام السّياسي، ومن ورائهم تنظيماتهم، على الرّفض المطلق للأنظمة التّربويّة والتّعليميّة القائمة في الدّول الوطنيّة، مبرّرهم في ذلك انحراف هذه الأنظمة وبرامجها "التغريبيّة" عن روح التّربية الإسلاميّة الأصيلة، التي تستمدّ وهجها وألقها المتجدّد من تعاليم القرآن وسيرة النّبي، وهما نبعان لا ينضبان، ينصلح بهما حال الأمّة حاضراً كما انصلح بهما ماضياً. والحقيقة أنّ نقد هؤلاء للنّظام التّربوي الرّسمي كان ليقبل لو أنّ الغاية صادقة في إصلاح المنظومة وإنعاشها، أو الحرص على مصلحة النّاشئة بما يفيدونه من المعارف والعلوم، أمّا أن يكون النّقد واقعاً تحت تأثير إيديولوجيتهم وخادماً لتوجّهاتهم، فذاك ما يجب إبانته وفضحه، وهو ما يؤكّد القناعة لدينا بأنّ خطاب الإسلام السّياسي المتّصل بالشّأن التّربوي خطاب مزدوج: الأوّل ظاهر معلن يدّعي العمل على التّحصين الدّيني للنّاشئة بما يقيهم الانحرافات عن العقيدة والسّلوك بحسب الضّبط الإسلاميّ لهما، أمّا الثّاني فخفيّ مضمر، يروم الانقضاض على المنظومة التّربويّة لتدجينها وتطويعها، فتصير عندهم آلية من آليات الاستقطاب الإيديولوجي. والدّليل على مضيّ الجماعة في تحقيق هدفها هذا تهافتُها على اكتساح الفضاءات التّعليميّة بدءاً بالكتاتيب وصولاً إلى الجامعات، فضلاً عن احتكارها الخطاب المسجديّ المتطرّف، بالتوازي مع الدّور المنوط بالجمعيّات القرآنيّة في الاستقطاب والاحتواء". 
تنبني مقاربة هوشاتي لنظرة الإسلام السّياسي في المجال التّربوي التعليمي على محاور متناسلة عن بعضها البعض: الأوّل محور تأصيليّ للأفكار المتسرّبة في أدبيّات الدّعاة المحسوبين على الإسلام السّياسيّ ذات الصّلة بالشّأن التّربوي، ويحاول من خلاله الوقوف على ما يدّعونه من مشروعيّة برنامجهم في مواجهة الخطر التّغريبي الذي يواجه الأمّة، أمّا الثّاني فنقديّ، يسعى من خلاله إلى الكشف عن خطورة تلك الأفكار لإبطانها غير ما تظهر، وكشف الازدواجية المخاتلة التي يقوم عليها هذا الخطاب بين نوع أوّل يرفع شعار تحصين الناشئة من الموجات التغريبية التي تستهدفه ونوع ثانٍ يستبطن التدجين والاستقطاب خدمة للإيديولوجيا وتوسيعاً لقاعدة المعتنقين لمضامينها الهدامة. واستتباعاً لعملية التعرية لخطاب الإسلام السياسي في الشأن التربوي. أمّا الثّالث فتأسيسيّ لمشروع تربويّ وفق منظور حداثيّ يقارب المسألة التّعليميّة في البلاد العربيّة على قاعدة الموازاة بين الخصوصيّات التّراثيّة للأمّة ومتطلّبات الحداثة والمعاصرة.